مانشستر فى ديسمبر/كانون الأول تجربة أوروبية ساحرة لأسواق الكريسماس

في كل شتاء حين تبدأ السماء في إسدال أولى الغيمات الباردة، تستيقظ مدن بريطانيا على نبض قديم متجدد، ينساب من الأزقة والساحات ليعلن بدء قدوم موسم أعياد الميلاد، الذي طالما انتظره الناس بشوق.. إنه موسم "الكريسماس ماركت"، أو أسواق أعياد الميلاد، وهو موسم تتزين فيه الشوارع بالأضواء المشعة، وتنتشر فيه أشجار الأعياد المبهرة، لتتحول المدينة بأكملها إلى كرنفال شتوي دافئ.هذه الأسواق ليست وليدة لحظة عابرة، بل هي امتداد لتراث أوروبي وذاكرة شتوية تتجاوز الأزمان، منذ أن وصلت فكرتها إلى بريطانيا صارت أشبه بمهرجان ضوء يفيض دفئا رغم برودة الطقس.لم تتأخر بريطانيا في تبني فكرة أسواق الكريسماس، فقد نفذتها بعد مدينة لينكولن شرقي بريطانيا، التي كان لها السبق فى أوروبا، فقد كانت أول من احتضن "سوقا ألمانية الطابع" عام 1998 ليصبح الحدث نقطة انطلاق لانتشار هذا التقليد عبر إنجلترا وأسكتلندا وويلز في العقود التالية.ومنذ ذلك العام، أخذت الفكرة تتطور عاما بعد عام، لتصبح اليوم واحدة من أهم ملامح الشتاء في بريطانيا، حيث تتسابق المدن على تقديم أفضل أشكال الإضاءة والديكور وأجمل الأكشاك وأدفأ الأجواء.أما في مانشستر فقد وجدت الفكرة موطنا جديدا، حيث حولت المدينة الأكشاك الخشبية الصغيرة إلى كرنفال شتوي بألوانه المبهرة، والتى يطغى عليها اللون الأحمر ليزيدها دفئا وإثارة، وحولت ساحاتها، كل عام، إلى ما يشبه المهرجان المسرحي الكبير، تكتب عليه حكايات الأعياد بأضواء لا تنطفئ وذكريات لا تنضب، فقد وجدت مانشستر في أسواق الكريسماس فرصة لتجديد روح المدينة وإبراز هويتها الثقافية المتنوعة.استضافت المدينة أولى أسواقها في ساحة سانت آن عام 1998، وامتدت صفوف الأكشاك بعدها فى ميادين المدينة "سكوير سانت آن" و"ألبرت سكوير" و"كينغ ستريت" و"ماركت ستريت"، مستلهمة الطراز الألماني التقليدي. ومع مرور السنوات توسعت السوق لتصبح إحدى أكبر أسواق الكريسماس في أوروبا لتستقبل ملايين الزوار في شتاء كل عام. إعلان الوصول إلى سوق أعياد الميلاد عادة يكون سهلا، لأن معظم الفعاليات تقام في وسط المدينة حيث المواصلات سهلة ومتاحة في كل الأوقات ويكون الطقس باردا، وقد تصل درجات الحرارة إلى أدنى مستوياتها تحت الصفر.عندما يحل ديسمبر/كانون الأول تتوهج الشوارع كأنها تلبس ثوبا من الذهب، ليحول ساحات مانشستر إلى ممرات ذهبية لامعة، صممت من مصابيح صغيرة تومض مثل نجوم هبطت من السماء.وفي كل زاوية ستجد كيسا من الكستناء المشوية، يتصاعد منه بخار دافئ أو فنجانًا من النبيذ، وهو المشروب الأكثر ارتباطا بالكريسماس في أوروبا وبريطانيا، ويباع في كل زاوية من سوق أعياد الميلاد في مانسشتر.وأما الشكولاتة الساخنة فلها عشاقها، خاصة عندما تضاف لها قطع المارشميلو، وتعتبر المشروب الرسمي للكبار قبل الصغار.والناس هنا لا يأتون لشراء الهدايا فقط، بل يأتون ليستعيدوا ذاكرة العيد، وتمسك العائلات بأيدي أطفالها خوفا من أن يضيعوا وسط الزحام الجميل، وترى الأزواج يتشاركون مشروبا ساخنا، وكبار السن يبتسمون في صمت، كأنهم يعيدون اكتشاف المدينة.رغم التطور العمراني وضغط الحياة اليومية، لم تفقد هذه الأسواق جوهرها الأساسي وهو احتضان الناس وإعادة إحياء روح الأعياد، فمع حلول الليل تعكس هذه الأجواء مشهدا يتجاوز فكرة التسوق.فالعائلات التي تجتمع حول منصات الطعام والأصدقاء الذين يقفون تحت زخات الضوء الذهبي، والزوار الذين يلتقطون الصور عند كل زاوية، جميعهم يشاركون في طقس اجتماعي يعيد تشكيل علاقة الناس بمدينتهم.وتشتهر أسواق الكريسماس بتقديم الأطعمة الموسمية، ويأتي على رأس القائمة النقانق المشوية على الفحم وهي الأكثر مبيعا في الأسواق، وأيضا طبق "هالومي فرانكي" المميز الذى تحول إلى نجم الأسواق في السنوات الأخيرة، وهو عبارة عن جبن حلومي مقلي ويقدم مع صوصات مختلفة مثل الرمان والثوم الحار.كما يتصدر الطبق السويسري "الراكليت" أفضل المبيعات، وهو عبارة عن جبنة ضخمة تذاب على سطح ساخن ثم تكشط فوق البطاطس المقلية أو الخبر، وتقدم من خلال استعراض مباشر جاذب للجمهور الذي يحب تصوير الطعام.وتلقى سندويتشات اللحوم المشوية والديك الرومي رواجا لدى الزوار، وتقدم مع البصل المقلي وصوص الشواء. وللحلويات نصيب الأسد، فنجد الكريب والوافلز والبانكيك تحتل مساحة خاصة لدى زوار الأسواق، كما تقدم فطائر المينيس باي، وهي من أشهر حلويات عيد الميلاد البريطانية، وهي عبارة عن عجينة صغيرة محشوة بخليط الفواكه المجففة مع التوابل.كما لا يمكن لفعالية بريطانية أن تخلو من الشاي الإنجليزي، والذي يقدم إلى جانب المشروبات الأخرى من عصائر وقهوة خاصة، تسمى قهوة لاتيه ببهارات اليقطين (Pumpkin spice latte)، والذي يتصدر مبيعات الأكشاك مع دخول فصل الشتاء. إعلان وعلى الرغم من تعدد المشاركين من حرفيين محليين وباعة دوليين قدموا من ألمانيا وفرنسا وتركيا وبولندا وبلدان عربية وشرقية، يحمل كل جناح قصة مختلفة. قصص تصنعها الأيادي الماهرة وتُروى عبر منتجات تشبه أصحابها من شموع يدوية، زينة خشبية، معجنات موسمية، وأعمال فنية صنعت لتعرض فقط في هذا التوقيت من العام، وتكون معظم الأسعار التي تباع بها في متناول الأسر المتوسطة، حتى لا تمثل عبئا على العائلات التي تنتظر موسم الأعياد.إن أسواق الكريسماس في بريطانيا، وفي مانشستر على وجه الخصوص، ليست فعالية مجردة أو حدثا عابرا، بل هي مساحة للدفء في قلب الشتاء القارس. ينتظرها الناس من عام إلى عام، ليس فقط رغبة في شراء الهدايا أو تذوق الأطعمة الموسمية، بل لأن هذه الأسواق تمنحهم فرصة ليعيشوا لحظات عائلية وإنسانية، قلما يجدون الوقت للاستمتاع بها في زمن يغلب عليه التسارع والضجيج.ومع كل موسم جديد، ورغم أن الأكشاك تتكرر والمسارات نفسها تعاد، إلا أن السحر لا يفتر بل يتجدد، فالأضواء التي تضاء في شوارع مانشستر كل عام لا تعكس فقط جمال زينة الأعياد، بل تعكس حقيقة أعمق، أن روح العيد مهما تكررت، تستطيع دائما أن تخلق بداية جديدة، وأن تمنح المدن والناس فرصة ليشعروا بأن الشتاء يمكن أن يكون أدفأ مما يبدو!
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه




