اتحاد المحامين العرب.. صمتٌ يرقى إلى التواطؤ مع جرائم نظام الأسد
ليس أسوأ من أن تُقتل العدالة باسم القانون، إلا أن يتولّى حراسها التبرير أو الصمت. وهذا تماماً ما فعله اتحاد المحامين العرب طوال السنوات الماضية، حين صمت عن أبشع الجرائم التي ارتكبها نظام بشار الأسد، ولا سيما تلك التي طالت المحامين في سوريا، فكان صمته انحيازاً فاضحاً للسلطة على حساب الضحايا الذين دفعوا حياتهم ثمناً لممارسة مهنتهم.
في سوريا، خلال عهد نظام الأسد، لم يكن المحامون بمنأى عن آلة القمع. أكثر من أربعين محامياً ومحامية اعتُقلوا تعسفياً وتعرّضوا للتعذيب، وعشرات آخرون قضوا تحت التعذيب. لم تكن التهمة سوى الدفاع عن معتقل رأي، أو رفض سياسة القمع التي انتهجها نظام الأسد، أو التمسّك بأبسط قواعد القانون. وفي مقدّمة هؤلاء يقف اسم خليل معتوق، المحامي البارز الذي اعتُقل عام 2012 ولا يزال مصيره مجهولاً حتى اليوم، في جريمة مكتملة الأركان بحق الإنسان والقانون معاً. وإلى جانبه، قضى المحامون رجاء الناصر وسامر إدريس وبرهان سقال وغيرهم تحت التعذيب، دون تحقيق أو مساءلة أو حتى اعتراف رسمي باعتقالهم وقتلهم.
بعد سقوط نظام الأسد، يخرج الاتحاد عن صمته، لا للدفاع عن ضحايا المهنة، بل للدفاع عن نقيبي المحامين السابقين.
هذه الأسماء ليست استثناءات، بل جزء من سياسة ممنهجة استهدفت مهنة المحاماة، والقضاء الذي تحوّل إلى أداة أمنية، والمحامين إلى أهداف مباشرة، لأنهم كانوا في الصف الأول للدفاع عن الحرية. أمام كل ذلك، لم يحرّك اتحاد المحامين العرب ساكناً: لا بيان إدانة، لا وفد تضامن، لا لجنة تقصّي، ولا مطالبة بالكشف عن مصير زملاء قُتلوا لأنهم محامون. بل فعل العكس؛ إذ أعلن جهاراً تضامنه مع نظام الأسد الإجرامي. فعقد اجتماعات مكتبه الدائم في دمشق في حزيران 2021، والتقى برأس النظام في قصره دون أن يسأل عن المحامين المعتقلين أو القتلى تحت التعذيب، أو عن القضاء الذي تحوّل إلى أداة أمنية، وكأن هؤلاء لا ينتمون إلى المهنة ولا إلى العدالة. وأصدر بياناً طالب فيه الجامعة العربية بإعادة سوريا إلى «مقعدها الطبيعي»، ورفع ما سمّاه «الحصار الجائر»، ورفض تطبيق قانون قيصر. الأخطر أن البيان ربط ذلك بما اعتبره «نجاح الشعب السوري في معركة الانتخابات الرئاسية»، مؤكداً أن السوريين «التفّوا حول قائدهم الرئيس بشار الأسد وجددوا له البيعة». وهذه العبارة – «وجددوا له البيعة» – تكشف عمق الانحراف؛ فالانتخابات التي يُفترض أن تُقرأ في سياق قانوني–دستوري، حوّلها الاتحاد إلى طقس ولاء شخصي، يذكّر بثقافة الطاعة لا بثقافة الحقوق. إن وصف الانتخابات بالبيعة لا يكتفي بشرعنة الاستبداد، بل يُسقط عن الاتحاد صفته المهنية، لأنه يضع المحامين في موقع الرعايا لا في موقع المدافعين عن العدالة.
ثم، وبعد سقوط نظام الأسد، يخرج الاتحاد عن صمته، لا للدفاع عن ضحايا المهنة، بل للدفاع عن نقيبي المحامين السابقين. فجأةً صحا ضميره من نومه العميق، لا لأنه اكتشف مظلوميتهم، بل لأنهما من رموز نظام سقط وباتوا عرضة للمساءلة. يتحرّك بسرعة، يرفع نبرة الخطاب، ويستحضر مفردات «الشرعية» و«استقلال النقابات»، وكأننا أمام هيئة يقِظة، لا مؤسسة نامت سنوات طويلة فوق جثث محامين. وأصدر بياناً شكر فيه كل من ساهم بإخلاء سبيلهما، مقدّماً ذلك كله بوصفه نجاحاً نقابياً له يستحق الإشادة.
لكن هذا البيان كشف معيار اتحاد المحامين العرب الحقيقي، بأنه كان قادراً دائماً على التحرك، لكنه اختار أن يفعل ذلك فقط عندما يتعلّق الأمر برموز نقابية مرتبطة بالسلطة، لا من أجل خليل معتوق أو رجاء الناصر أو سامر إدريس أو برهان سقال أو عشرات المحامين الذين مرّوا في المعتقلات وعُذّبوا وقُتلوا. فجأةً صحا ضمير الاتحاد، لا ليقف إلى جانب المظلومين، بل ليحمي رموز سلطة سقطت وباتت من الماضي.
إن اتحاداً لم يدافع عن خليل معتوق وغيره من المحامين لا يملك شرعية للدفاع عن أحد، واتحاداً تجاهل قتل المحامين لا يحق له الحديث عن استقلال النقابات.
إن ما صدر عن اتحاد المحامين العرب لا يمكن أن يُقرأ إلا كتنكّر صريح للالتزامات والمبادئ التي قام عليها، وفي مقدّمتها الدفاع عن سيادة القانون، وضمان استقلال القضاء، وحماية حقوق الإنسان وكرامة المحامين. اتحاد لم يرفع صوته يوماً للمطالبة بكشف مصير المفقودين أو لإدانة قتل زملاء المهنة، يظهر اليوم ليطالب بالإفراج عن شخصيات نقابية ارتبطت بالسلطة السابقة، في مشهد يفضح ازدواجية المعايير ويهدر مبدأ المساواة أمام القانون.
ومن هنا، فإن الاتحاد مطالب بأن يعيد النظر في سلوكه، وأن يبرهن على التزامه الحقيقي بميثاقه عبر تبنّي مواقف عادلة وموحّدة، تدعم المساءلة وسيادة القانون، وتنصف جميع الضحايا بلا استثناء. وهو مدعوّ لإعلان موقف علني واضح يكرّس الدفاع عن حقوق المحامين السوريين كافة، ويطالب بالكشف عن مصير المغيّبين منهم وضمان عدم إفلات الجناة من العقاب، بما يعيد الاعتبار لدوره المهني ويعيد ثقة المحامين العرب به كإطار مستقل يخدم العدالة لا المصالح السياسية الضيقة.
إن اتحاداً لم يدافع عن خليل معتوق وغيره من المحامين لا يملك شرعية للدفاع عن أحد، واتحاداً تجاهل قتل المحامين لا يحق له الحديث عن استقلال النقابات. العدالة لا تُجزّأ، والكرامة المهنية لا تُستدعى عند الحاجة السياسية فقط. ومن لم يمتلك شجاعة الاعتراف بصمته والاعتذار عنه، فالأجدر به أن يصمت مجدداً؛ فالصمت حين يكون أقل نفاقاً قد يكون أرحم من خطاب عدالة كاذبة، وأقل إهانة لمهنة المحاماة التي تستحق أن تُصان بكرامة، لا أن تُستغل لتبرير القمع.
ما يحتاجه المحامون السوريون اليوم ليس وصاية من اتحادات فقدت بوصلتها، بل تفكيك الإرث النقابي الملوّث، وبناء تمثيل مهني مستقل لا يخضع للأمن، ولا يساوم على الدم، ولا يختزل العدالة في صفقات سياسية أو وساطات شخصية. إن إعادة الاعتبار لمهنة المحاماة في سوريا تبدأ أولاً بكشف هذا الإرث وتسميته باسمه: تواطؤ مهني مع نظام قمعي، وصمت متواطئ على قتل واعتقال زملاء كانوا في الصف الأول للدفاع عن الحرية.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه




