Syria News
جاري تحميل الأخبار العاجلة...

خالد خليفة روائي في حضرة الطاغوت

الثلاثاء، 9 سبتمبر 2025
خالد خليفة روائي في حضرة الطاغوت

استطاعت القبضة الأمنية في عهد النظام البائد أن تحكم السيطرة على كل شيء حرفيًا، بما في ذلك الصنعة الأدبية، حيث عملت المخابرات بشكل منظم على فرض رقابة محكمة على الأفكار. فكل مخطوط، سواء كان شعرًا أو نثرًا، كان يمر تحت مقصلة الرقابة، حيث كانت القراءة القبلية للنص أهم من طباعته. وعليه وجد المثقف السوري نفسه محاصرًا، يتخبط في محاولة بائسة لتمرير أفكار مناوئة للسلطة معتمدًا على الرمز أحيانًا أو الفانتازيا التاريخية.

دون أدنى شك، كان هناك مساحة مخصصة للنقد؛ مساحة صنعتها السلطة لمحاولة "تنفيس" الغضب والاحتقان الشعبي، فعمدت إلى إعطاء الضوء الأخضر لبعض المثقفين لرفع سقف نقد السلطة الحاكمة. ويمكن القول إن هذا النوع من الكتابة يندرج تحت ما يسمى "الكتابة المدجّنة".

بمعنى أن الأفكار الثورية كانت تظهر بين فترة وأخرى، ولكن بشكل مؤدلج، سواء على مستوى المسرح أو الدراما أو حتى في بعض الأعمال السردية. فتطل تلك الأفكار خجولة، مروّضة للغاية، وفي حال قرر الكاتب أن يتجاوز الخطوط الحمراء فهو حرفيًا يقامر بحياته دون أي مبالغة.

خالد خليفة… الثائر الذي كسر المعادلة

لم تكن البدايات للروائي الراحل خالد خليفة مشجعة، في ظل الأطواق الأمنية التي تتشكل على هيئة مشانق تُعدم الفكرة قبل ولادتها على الورق. إلا أن خالد قرر أن يدفع الثمن، فاتخذ القرار مبكرًا بأن الكرامة تعلو ولا يُعلى عليها.

في مطلع العام 1993 نشر روايته الأولى حارس الخديعة التي لم تكسب شهرة كبيرة، حيث اختار أن يتحدى النظام الأمني في عهد حافظ الأسد من خلال سرد يحاول أن يحاكي الواقع نوعًا ما. مرت الرواية فعلًا وأبصرت النور، لكن في ظل ظلام دامس كانت تعيشه سورية خصوصًا والمنطقة العربية عمومًا، لذلك لم يجد حارس الخديعة طريقًا إلى قلوب القراء في تلك المرحلة.

هذا التعتيم لم يمنع خليفة من نشر روايته الثانية في عام 2000، الموسومة دفاتر القرباط، لتسليط الضوء على القضايا المسكوت عنها في المجتمع. وكأن خليفة اختار أن يخوض طريق الثورة متحديًا الواقع الأمني الشائك، لكن الصفعة كانت الأقسى، إذ على أثر نشر الرواية تم تجميد عضويته في اتحاد الكتاب العرب لمدة أربع سنوات.

في مديح الكراهية… إسقاط ورقة التوت الأخيرة

في العام 2006 صدرت روايته في مديح الكراهية، العمل الروائي الذي أقر خليفة أن كتابته استمرت 13 عامًا حتى يبصر النور. كانت الرواية تحديًا صارخًا لنظام الأسد، حيث اخترق خليفة كل الخطوط الحمراء ليعري النظام تمامًا ويكشف في سرده عن خبايا مجازر حافظ الأسد في الفترة الممتدة بين 1980 و1982 بحق جماعة الإخوان المسلمين في حلب وحماة.

أثارت الرواية جدلًا واسعًا في الأوساط الأدبية، وتم منعها وحظرها في سورية، لتنزح الرواية إلى لبنان وتنشرها "دار الآداب". واستطاعت الرواية أن تقفز فوق الأسلاك الشائكة وتصل إلى القائمة القصيرة النهائية لجائزة البوكر العربية في دورتها الأولى لعام 2008. كانت هذه الرواية إعلان خالد خليفة ثورته أمام ضميره على الطاغية، في ظل صمت المقابر الذي كانت تعيشه البلاد وسط براثن أمنية خانقة منغرسة في روح كل مواطن سوري.

تجاوزت الرواية حدود اللغة أيضًا، فتمت ترجمتها إلى عدة لغات: الإنجليزية والفرنسية والإيطالية… وفي العام 2013 وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة "الإندبندنت" لأدب الخيال الأجنبي.

اعتبر الراحل خالد خليفة أن الرواية تعبير عن معاناة الشعب السوري الذي يعاني من التهميش في ظل نظام حكم ديكتاتوري شمولي يحاول بكل السبل أن يُرضخ الشعب الحر تحت قوة السلاح وطمس هويته الضاربة في جذور التاريخ.

خالد خليفة… ابن الثورة السورية البار

من الطبيعي بعد رحلة نضال طويلة ضد نظام الأسد أن يجد خالد خليفة نفسه في صفوف الثورة إلى جانب أبناء درعا وحمص وحماة. الكاتب الذي لطالما قضّ مضاجع النظام برواياته ومقالاته لم يكن أمامه إلا أن يجعل من سرده جسرًا متينًا للثورة، لتعبر حكاية السوريين من خلال قلمه إلى العالم.

رغم كل محاولات النظام وسعيه الدؤوب لصناعة قاعدة إعلامية تحاول تضليل الحقائق وجعل الثورة المباركة في نظر العالم مجرد تمرد إرهابي، إلا أن سردية النظام سقطت أمام إرادة الشعب، الذي راح يسعى بكل السبل لتوثيق الحقائق ورسم الطريق المخضب بالدم والتضحيات نحو الحرية المنشودة.

اختار خالد الطريق الأصعب، فبدل التوثيق اللحظي للثورة، كتب روايته لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة، الرواية الحائزة على جائزة نجيب محفوظ للرواية العربية. لم تكن الرواية ترصد واقعًا ثوريًا معاصرًا، بل كانت إطلالة على تاريخ سورية المعاصر في ظل حكم حزب البعث البغيض، محاولًا القول للعالم إن الثورة نتاج تراكمي لحركات نضال طويلة ضد هذه المنظومة المجرمة.

قرر خالد أن يصنع من خلال تلك الرواية خلفية محكمة للثورة، تفضح ممارسات النظام طوال أربعة عقود من القمع الممنهج والاعتقالات التعسفية وتكميم الأفواه ومصادرة الرأي. وكأنه يمهد للقارئ العربي المشهد السوري الراهن، وبلغة أبسط اختار أن يقول إن الثورة في هذه البلاد انفجرت في مارس 2011، لكنها نتاج غليان دامي عاشه الشعب السوري طوال أربعة عقود من الظلم.

خالد الراحل الحاضر في ذاكرة الأحرار

في عام 2016 صدرت روايته الموت عمل شاق، لتكون أول سرد روائي يحاكي واقع الثورة السورية والتخبطات التي عاشتها، ليتبعها في العام 2019 بروايته لم يصل عليهم أحد، التي وصلت بدورها إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية في عام 2020. وصدر له بعد وفاته آخر أعماله سمك ميت يتنفس قشور الليمون.

كانت هذه الثلاث روايات الأخيرة وثائق حاضرة، شاهدة على الثورة السورية. حاول خالد أن يرصد تطور الثورة وانعكاساتها على المجتمع السوري، وكان يسعى دائمًا إلى رصد الحقيقة، وكأن مهمته إسقاط النظام في ذهن كل قارئ لأعماله، كاشفًا الجوانب المظلمة من وحشية النظام وعنفه في قمع الحراك الثوري.

Loading ads...

رحل الخال ولم يشهد لحظة انتصار الثورة في 8 ديسمبر 2024، لكنه كان حاضرًا في قلوب الأحرار وعقولهم. سقط "الأبد" وبقي حارس الخديعة منعزلًا يقرأ دفاتر القرباط بتؤدة، يبكي على أولئك الراحلين الذين لم يصل عليهم أحد. كان يهذي بصوت خافت أن لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة، مؤمنًا بأن الموت في هذه البلاد عمل شاق، وأننا مجرد سمك ميت يتنفس قشور الليمون إن لم نحافظ على ثورتنا التي عاشت في زمن مديح الكراهية القاسي.

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه