وثائقي “المشهد الأخير”.. في ذكرى رحيل الفنان الليبي صالح الأبيض: ضحكة لم تكتمل

في فيلم وثائقي مؤثر، ترسم قناة الجزيرة الوثائقية بورتريه عميقاً لأحد أبرز أيقونات الكوميديا الليبية، الفنان الراحل صالح الأبيض.صالح الأبيض داخل الاستوديو، في لحظة تجسد تنوع مواهبه الفنية. الفنان الذي لم يكتف بإضحاك الجمهور على خشبة المسرح، بل امتد إبداعه ليشمل التمثيل والأداء الصوتي، مؤكداً أن الكوميديا الحقيقية تُصنع بالجسد والصوت والحضور معاالفيلم الذي يحمل عنوان “المشهد الأخير”، ومن إخراج أمان الغربي ، لا يقدم مجرد سيرة فنية، بل يغوص في حكاية إنسان استطاع أن يوحد بالضحكة شعباً أنهكته الصراعات، مانحاً إياه ابتسامة كانت بمثابة خلاص مؤقت. صانع البهجة في زمن الصراعيبدأ الوثائقي بمشهد رمزي لطفل يدخل المسرح الشعبي في بنغازي، في استهلال يختزل بداية فنان انطلق من مسرح المدرسة ليؤسس مدرسة كوميدية فريدة، لم تُجارَ وبقيت بصمة خاصة به.صورة تجمع الفنان صالح الأبيض مع عدد من زملائه خلال إحدى بروفات أعماله الكوميدية، حيث تبدو ملامح التركيز. لحظة بسيطة لكنها تختصر روح الأبيض الذي كان يرى في الكوميديا عملاً جادًا ورسالة إنسانيةينجح الفيلم في تصوير كيف تحولت “النكتة” على لسان صالح الأبيض إلى أداة للمقاومة النفسية والاجتماعية في بلد ينتظر الخلاص.من كواليس إنتاج الفيلم الوثائقي “المشهد الأخير”، لحظة تسجيل شهادة للفنان سالم عيسى عن رفيق دربه الراحل صالح الأبيض، حيث يستعيد المشاركون ذكريات صادقة عن فنان عاش للكوميديا وترك أثره في وجدان من عايشوهلقد كانت كوميديا مختلفة، فخلف كل ضحكة كان هناك شعور بالاختناق، وهو ما التقطه الفيلم ببراعة، مقدماً الأبيض كوجه حزين أعياه المرض في أيامه الأخيرة، لكنه ظل رمزاً للابتسامة التي تخفي خلفها الكثير من الصمت والألم. بورتريه الإنسان خلف الكوميديانيعيد المخرج تركيب مسيرة الفنان عبر شهادات من المقربين، أبرزهم نجله “محمد” ورفاق دربه من الفنانين مثل “ميلود العمروني” و”سالم عيسى”. هذه الشهادات، الممزوجة بمشاهد تمثيلية، لا تكشف فقط عن بداياته واختيار اسمه الفني، بل ترسم ملامح شخصيته المركبة. تتجلى مفارقة الإنسان الفنان بين المرح الدائم على المسرح والجدية المهنية الصارمة خلف الكواليس، وهي جدية لم تمنعه من أن يكون داعماً لمن حوله، بسيطاً وإنسانياً في تعاملاته.الفنان صالح الأبيض في استقبال جماهيري حافل ببنغازي، حيث تحتفي به مدينته بأكاليل الزهور. لحظة توثق العلاقة الاستثنائية بين الكوميديان الليبي وجمهوره الذي رافقه على مدار سنوات من الإبداع الفنيينجح الوثائقي في ألا يكون مادة للتأبين، بل مرآة لزمن كامل كان يضحك ليمنع آخرين من الانهيار.تبرز الشهادات النسائية، خاصة من الفنانة والصحفية يقين عبد المجيد، قوة شخصية الراحل وقدرته على دعم زملائه، مما يفسر سر محبته الجارفة. لقد أثبت الفيلم أن شخصية الفنان الحقيقية هي أساس نجاحه، وأن ما قدمه صالح الأبيض في المسرح والكاميرا مس قلوب الناس مباشرة، لأنه كان تمثيلا لشخصيته الحقيقية والبسيطة.رؤية إخراجية وسرد متصاعديتميز الفيلم بخطه الزمني المتصاعد الذي يأخذ المشاهد في رحلة سردية متماسكة من البدايات حتى لحظة الرحيل، دون اللجوء إلى تقنية الـ “فلاش باك”. لكن يُلاحظ على المخرج عدم استخدامه لمادة أرشيفية مرئية لمدينة بنغازي في حقبة الثمانينات، معتمداً بدلاً من ذلك على صور فوتوغرافية.من كواليس المسرح الشعبي في بنغازي خلال حقبة التسعينات، حيث يظهر صالح الأبيض (الثاني من اليمين) محاطاً بزملائه الفنانين أثناء بروفة إحدى المسرحيات. صورة تعكس روح العمل الجماعي والإبداع الذي ميّز المدرسة الكوميدية الليبية في عصرها الذهبي.ورغم أن هذا الخيار قد يبدو غير مبرر فنيًا، إلا أنه ينسجم مع طبيعة الفيلم التأملية، التي تفضل التلميح البصري على التوثيق الصارم.اشترك فيالنشرة البريديةاشترك في النشرة البريدية وتابع أحدث أفلامنا الوثائقيةكذلك تبدو الموسيقى التصويرية المصاحبة مناسبة لموضوعه، واختيار يشار له من المخرج وفريقه.مجموعة من بوسترات أعمال الفنان الليبي صالح الأبيض التي شكلت علامات بارزة في مسيرته الفنية، ما بين المسرح والتلفزيون. من الطيب درويش إلى عالمي ماشي وكوشي ياكوشة والأستاذ قلية، تتجلى بصمته الفريدة التي جمعت بين البساطة والعفوية والذكاء الكوميديوبسبب اعتماد الوثائقي على الشهادات، وغياب التسلسل الزمني (كرونولوجيا) لأعمال صالح الأبيض، يفقد المشاهد أحيانًا رؤية بانورامية لمسيرته الفنية، وإن ظل محتفظًا بصورة الإنسان والمبدع. لكن هذا لم يمنع أيضا، من رؤيته ككاتب أيضا، بل صانع مسرحي مختلف، خاصة في محاولته، تشخيص دور مزدوج يجمع بين شرق ليبيا وغربها، في بيان للوحدة بين أطراف البلاد.وعلى الرغم من دفء الشهادات التي يرويها رفاق الفنان وزملاؤه، والتي تمنح الفيلم طاقة وجدانية صادقة، إلا أن هذا الخيار الإخراجي، ربما يظل سلاحا ذا حدين. فبينما ينجح في استحضار الإنسان،الفنان من وراء الأضواء، يظل أسير الدائرة الحميمة التي تتحدث بعاطفة أكثر مما تفكر.صورة جماعية تجمع صالح الأبيض (الثالث يمينا) بكوكبة من نجوم المسرح الليبي والأصدقاء، بما يوثق أواصر الصداقة والعمل المشترك بين رواد الفن الكوميدي في ليبيا. وجوه أضاءت المسرح الليبي وتركت بصمة لا تُمحى في ذاكرة الجمهورتتحول الذاكرة هنا إلى مرثية جميلة، لكنها أحيانًا تغلق الأفق أمام قراءة نقدية أو تحليل فني أعمق. مع ملاحظة منصفة عن البلدان التي تفتقر للتوثيق المكتوب أو الأرشيف المؤسسي، فهذه الشهادات كنز نادر يحفظ تاريخا شفهيا مهدد بالضياع.بيد أن الشهادات، مهما صدقت، تضيء الداخل لكنها تترك المحيط في العتمة، إذ يندر أن تتجاوز التجربة الشخصية إلى فهم المرحلة التي كونت هذا الفنان أو البيئة التي صاغت حسه الكوميدي. لذلك يبقى الفيلم مؤثرًا مع حاجة للمزيد بما يلمس القلب، ويشبع العقل كذلك.ضحكة في مرآة التاريخهكذا، يقدم “المشهد الأخير” أكثر من مجرد تكريم لفنان كبير؛ إنه وثيقة بصرية ونفسية عن مرحلة كاملة من تاريخ ليبيا.صالح الأبيض (على اليمين) في لحظة عمل مع أحد الفنانين. صورة تلتقط الجانب المهني من حياة الكوميديان، حيث النقاشات الفنية والتحضيرات التي تسبق صعود الخشبة، بعيداً عن الأضواء والجمهوروأنموذجا معبرا عن كيف يعيش الفنان الليبي، من ضغوط الأسرة التي منعت استمرارية عطائه وتجربته وبالتالي خبرته، حتى وإن كانت الضحكة سلاحاً للبقاء.صورة مؤثرة توثق لحظة إنسانية للفنان الليبي صالح الأبيض أثناء رحلة علاجه بين القاهرة وتونس، حيث بدا محاطًا بزملائه وأصدقائه الذين جاؤوا يزرعـون حوله دفء المودة ويبادلونه حبًا يليق بمكانته في قلوبهم. رغم ملامح الإرهاق، يظل في عينيه بريق الضحكة التي لم تخبُ، وابتسامة تختصر فلسفته في الحياةالفيلم هو شهادة عن فنان عاش ليُضحك الآخرين حتى نسي نفسه، وإذ استعرت مقولة الفنان وليد الكور عن “القائد الكوميدي” الذي هو أقوى فنيا من الكوميديان العادي، حيث يصير الضحك من صنعته بوجهه وجسده وحركته لا من مجرد النص، ولهذا ترك الراحل خلفه إرثاً من البهجة حتى وإن ظلت تخفي وراءها حزناً نبيلاً.رحل صالح مفتاح بوجرادة المعداني، ابن بنغازي الذي ولد عام 1964، بعد صراع مرير مع مرض الكبد في أكتوبر 2019، تاركا خلفه إرثا من البهجة. لم يكن مجرد ممثل كوميدي، بل روحا تسكن ذاكرة الليبيين، ومرآة لما عاشوه من وجع وأملالفيلم عمل يستحق المشاهدة ليس فقط لمعرفة قصة صالح الأبيض، بل لفهم كيف يمكن للفن أن يكون طوق نجاة في أصعب الأوقات.في المشهد الأخير، إذ تحتشد بنغازي – كما يقول احد المشاركين – في وداعه لا يترك صالح الأبيض جمهوره بضحكته فقط، بل بمرآة لليبيا التي لا تزال تبحث عن ابتسامتها.بطاقة الفيلمعنوان الفيلم : المشهد الأخيرالشخصية : صالح الأبيضجهة الإنتاج :قناة الجزيرة الوثائقيةالمخرج :أمان الغربيمنتج منفذ : محمد البرغثي
إعلان
تاريخ الإنتاج: 2021تاريخ البث: 17 أكتوبر 2025
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
اقرأ أيضاً




