الفيلم الخيالي “المخطط الفينيقي”.. يتناول الصراع في منطقة الشرق الأوسط

من الصعب الحديث عن المخرج الأمريكي ويس أندرسون دون المرور على ما يمكن تسميته بـ”الانضباط الأسلوبي”؛ ذلك التوق الثابت نحو النظام البصري، والتماثل الهندسي، والدقة اللونية التي تحولت مع الوقت إلى هوية متفردة لأعماله.في كل كادر يلتقطه ويس أندرسون، يبدو العالم وكأنه مرسوم بمسطرة خفية؛ كل خط له معنى، وكل تماثل هندسي هو طريق نحو الجمال المنضبط. لقطات من اعماله تختصر فلسفته البصرية: النظام بوصفه شعرا، والتماثل كإحساسٍ بالطمأنينة وسط الفوضىغير أن هذا الانضباط الذي شكّل سر سحره، أصبح في الوقت نفسه مرآة لأسْر أسلوبي خانق، يدفع الناقد والمشاهد معا لطرح السؤال المتكرر:هل لا يزال أندرسون يجدد في عالمه البصري، أم أن أسلوبه بدأ يلتهم ذاته؟منذ التسعينيات وحتى أحدث أفلامه، حافظ المخرج على علامات أسلوبية شبه مقدسة: التكوينات المتناظرة، والتوزيع الدقيق للشخصيات في الكادر، والألوان المشبعة التي تقترب من التجريد.لقد حوّل أندرسون هذا التماثل من مجرد أسلوب تصويري إلى ركيزة لهويته السينمائية، وجعل منه لغة بصرية متكاملة تقوم على الانضباط والتوازن والألوان المدروسة بدقة. فكل إطارٍ عنده يشبه لوحة زيتية، لا مشهدًا من فيلمومع فيلمه الجديد “المخطط الفينيقي” (The Phoenician Scheme)، الذي شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان 2025، بدا أندرسون أكثر تمسكا بهذه القواعد من أي وقت مضى، حتى وهو يغامر بموضوع يبدو مختلفًا: الصراع على العدالة والمال والعائلة في عالم يتلمس أثر الشرق الأوسط المعاصر من خلال عدسة فانتازية.فريق فيلم “المخطط الفينيقي” قبل عرض الفيلم في الدورة الـ78 لمهرجان كان السينمائي: ويس اندرسون، مايكل سيرا، ميا ثريبليتون، وبنيسيو ديل توروالعالم البصري عند ويس أندرسونيُفتتح الفيلم على نحو مألوف لمتابعي أندرسون: حركة دقيقة للكاميرا، تناظر صارم في الإطار، موسيقى مرحة تخفي وراءها قلقا عميقا. يظهر بطل الفيلم زا زا كوردا (بنيسيو ديل تورو)، رجل أعمال جشع وذكي، نجا من سلسلة مكائد مالية، وتجاوز كل عقاب محتمل بقدرة لا تصدق. غير أن أندرسون لا يقدمه بوصفه شريرا مطلقا؛ بل كصورة رمزية للرأسمالي الذي يسعى إلى تأسيس “مملكة فينيقيا” يمنحها لابنته ليزل (ميا ثريبليتون)، الراهبة التي تعود إليه بعد قطيعة طويلة لتشكّك في ماضيه ومصيره.الفيلم يبدأ برجل الصناعة وتاجر السلاح زا زا كوردا (بنيسيو ديل تورو) وهو يحلّق بطائرته الخاصة فوق سهول البلقان حين تقطع الرحلة حادثةٌ غامضة. ومن تلك اللحظة، يجد كوردا نفسه في أزمة وجودية عميقة، يواجه فيها موته المحتمل، ويلجأ إلى ابنته الوحيدة، الراهبة المبتدئة ليزل (ميا ثريبليتون)، لتساعده على تنظيم شبكة أعماله المشبوهة الممتدة عبر القاراتمن هنا يبدأ أندرسون في بناء نسيجه السردي المعتاد: شبكة من القصص المتوازية، وشخصيات تتقاطع ثم تنفصل، ومحطات حكائية تتدرج في شكل لوحة فسيفسائية مبهرة. لكنه في هذا الفيلم يمزج بين الأسطورة والواقع، بين الرغبة في الخلاص والوقوع في فخ الجشع، فيخلق عالماً يبدو مأخوذاً من حكايات الشرق القديمة، لكنه مغمور بألوان الحداثة الغربية.اقرأ أيضا list of 4 itemslist 1 of 4“حلّق بي إلى القمر”: سكارليت جوهانسون في فيلم كوميديا رومانسية عن سباق الهبوط على القمرlist 2 of 4تيار السينما الثالثة.. صوت الشعوب وسلاح ثقافي ضد القمعlist 3 of 4“فرانسيس فورد كوبولا”.. مسيرة متوجة بالجوائز وأحلام مغامرةlist 4 of 4رأفت الميهي.. صانع السينما الحائر بين الواقع والخيالend of listزا زا كوردا.. الرأسمالية في قناع أسطوريتبدو رحلة الأب والابنة في ظاهرها بحثاً عن تمويل لمشروع ضخم، لكنها في العمق رحلة نحو معنى العائلة والذنب والخلاص. يتنقّلان عبر لقاءات سريالية مع أمير يحلم بمملكة متخيلة، ومقاتل شيوعي متقاعد، وصاحب ملهى ليلي غريب الأطوار. كل هذه الشخصيات تعمل كـ”محطات رمزية” في مسار إنساني يشبه المتاهة، لكنها تكشف أيضا إصرار أندرسون على التعامل مع الشرق الأوسط كفضاء أسطوري أكثر منه واقعي، حيث تختزل السياسة في الحكاية، والعنف في زخرفة اللون.تؤدي “ميا ثريبليتون”، البالغة من العمر 24 عامًا دور ليزل، الراهبة المبتدئة ذات الشفاه الحمراء، والمدخنة للغليون، وهي ابنة الممثلة كيت وينسلت بطلة فيلم تيتانكغير أنّ هذا الخيال المتقن يخفي وراءه مأزقًا دراميًا: فكلما ازداد الأسلوب دقةً، انكمش الإحساس بالحياة. الشخصيات تتحرك بصرامة ميكانيكية، والمشاعر تُدار كأنها جزء من هندسة الصورة لا من عمقها.رحلة في فضاء متخيل بلا زمانينطلق “المخطط الفينيقي” من فكرة التجريد لا من الإضافة، فهو يبتكر أرضًا لا نعرف جغرافيتها، وزمنًا يبدو خارج التاريخ، وشخصيات تتحرك بحرية مطلقة في فضاء يتجاوز الواقع. هذه البنية تجعل الفيلم أشبه بـ”يوتوبيا” مشتهاة، لكنها أيضًا تضعه في مفارقة صعبة: إذ يصبح غياب العلامات الواقعية سهلًا في البداية، لكنه سرعان ما يتحوّل إلى استسهال درامي، حين لا يعود المشاهد قادرًا على التمييز بين الحقيقة والوهم أو على الشعور بالخطر الإنساني الذي يفترض أن يولّده الصراع.يضم الفيلم نخبة واسعة من النجوم، من بنيسيو ديل تورو وسكارليت جوهانسون، إلى توم هانكس، وميا ثريبليتون، وريتشارد أيوادي، بيل موراي. إن اجتماع هذا الحشد من نجوم السينما في مشاهد قصيرة، وكأنهم زاروا موقع التصوير ليوم واحد فقط، يكشف عن المكانة التي بلغها أندرسون بعد 31 عاما من مسيرته الإخراجيةيقدّم أندرسون رحلات متتالية لا تُفضي إلى غاية محددة، وكأننا في متحف من القصص الصغيرة المفككة، كل منها يستعرض جمالياته الخاصة دون أن يلتقي بالآخر. نرى لقاءات متلاحقة على متن قطار أو في صالات راقصة أو بين جدران قصور زاهية الألوان، لكن هذه الرحلات لا تخلق توترًا سرديًا حقيقيًا، لأن كل العقد تُحلّ قبل أن تبدأ، كما لو أن العالم الفيلمي مصنوع من رغوة، ينهار عند أول لمسة تحليلية.تستند العلاقة بين الأب والابنة في الفيلم – محور القصة كلها – إلى ملاحظات أندرسون الحياتية لعلاقة فؤاد معلوف بابنته جومان، بل إن بعض التفاصيل الصغيرة في الفيلم مأخوذة حرفيًا من حياة معلوف، مثل عادة الاحتفاظ بالمستندات في صناديق أحذية، التي تظهر في الفيلم كمجازٍ بصري عن الذاكرة والتنظيم والهوس بالسيطرةيتحوّل الشرق في هذا الفضاء إلى رمز زينة لا إلى واقع متشابك، فالألوان الدافئة والعمارة المتخيلة والأزياء المستوحاة من التراث المتوسطي تُستخدم لإضفاء سحر بصري، لكنها لا تقدم قراءة فكرية لموقع الشرق في خريطة الفيلم. فيصبح المكان مجرّد خلفية للزخرفة، لا فضاءً للتجربة الإنسانية، ويغدو الشرق الأوسط “ديكورًا سرديًا” يستدعى لتجميل الفكرة أكثر مما يُستدعى لفهمها.اشترك فيالنشرة البريديةاشترك في النشرة البريدية وتابع أحدث أفلامنا الوثائقيةالصورة حين تفقد روحهايبلغ الفيلم ذروة جماله البصري، لكن هذا الجمال نفسه هو ما يكشف أزمته الأعمق.يُشبه “المخطط الفينيقي” دخول بيت من الدمى المزخرفة بعناية، تتلألأ فيه الألوان وتتماوج التفاصيل الدقيقة، لكن لا حياة تسري في تلك الدمى.يحمل المخطط الفينيقي، فيلم ويس أندرسون كل نزوة وزخرفة اعتدادها معجبوه ويتذمر منها منتقدوه: تصميم انتاج بالغ الدقة، طاقم حافل بالنجوم يضم العديد من اسمائه المعتادة مع اسمين جديدين، لقطات متناظرة وتنظيم ما يجعل الديكورات اشبه بخشبة مسرحفكل لقطة مصمّمة بعناية تكاد تكون رقمية، وكل حركة كاميرا محسوبة بصرامة هندسية تجعل المشهد أقرب إلى لوحة جامدة منه إلى مشهد حي.أسلوب يكرر نفسه.. وفيلم بلا نبضالأب “زا زا كوردا”، رجل الأعمال الثري الذي يشرع في تنفيذ مشروعٍ ضخمٍ مشبوه يعرف باسم “المخطط الفينيقي”. تنقلب حياة الأبنة الراهبة، حين يأمرها الدير بمرافقة والدها في رحلة طويلة، إذ يحاول أن يصنع منها وريثته، على طريقة دون كورليوني الكوميدية، لتأخذ مكانه في إدارة الإمبراطورية العائليةتبدو أزمة “المخطط الفينيقي” في نهاية المطاف امتدادا لأزمة أوسع في سينما ويس أندرسون، وهي الوقوع في فخ النمط.فالأسلوب الذي بدأ في التسعينيات ثوريًا ومختلفًا، صار اليوم نظامًا مغلقًا يكرّر نفسه. التماثل البصري صار واجبًا لا خيارا، والأداء الكاريكاتوري صار تقليدًا، والقصص المتشابكة فقدت مفاجأتها. كأن المخرج الذي كان يبتكر الجمال، صار أسيرًا له، يقدّم النسخة ذاتها بألوان جديدة فقط.في “المخطط الفينيقي” يهيمن الشكل على المضمون، فيتراجع الإنسان إلى خلفية اللوحة. الشخصيات تتحدث بنبرة واحدة، تتحرك كأنها تروس في آلة بصرية ضخمة، والحوارات تبدو مصممة لتكمل الإيقاع البصري أكثر مما تكشف عن دوافع داخلية. حتى موت الأم – الذي يُفترض أن يكون مركز التوتر في القصة – يبقى معلقًا، يطفو على السطح من حين لآخر ثم يختفي، دون أن يترك أثرًا شعوريًا حقيقيًا.إنّ هذه الحالة من الجمود الحيوي تجعل الفيلم أقرب إلى محاكاة ذاتية لأفلام أندرسون السابقة، كأن المخرج يعيد تمثيل ذاته داخل دائرة مغلقة. ومن هنا يبدو “المخطط الفينيقي” فيلما جميلا ومبهرا، لكنه بلا نبض، مثل ساعة فاخرة تعمل بدقة تامة، لكنها نسيت أن تُخبرنا بالوقت.الأب “زا زا كوردا”، رجل الأعمال الثري الذي يشرع في تنفيذ مشروعٍ ضخمٍ مشبوه يعرف باسم “المخطط الفينيقي”. تنقلب حياة الأبنة الراهبة، حين يأمرها الدير بمرافقة والدها في رحلة طويلة، إذ يحاول أن يصنع منها وريثته، على طريقة دون كورليوني الكوميدية، لتأخذ مكانه في إدارة الإمبراطورية العائليةحين تتحول الصورة إلى نظام صارم، يفقد الفيلم احتماله للخطأ، وبالتالي يفقد إنسانيته. لأن السينما، في جوهرها، فنّ الارتباك، لا فنّ الإحكام وحده. ومشكلة “المخطط الفينيقي” أنه فيلم مصنوع بإتقان شديد، لكن من دون لحظة عفوية واحدة؛ لا زلة، ولا نَفَس مفاجئ، ولا انفعال حقيقي يخرج عن النص.وهذا ما يجعل المشاهد، رغم انبهاره بكل لقطة، يشعر بالبعد العاطفي عن الشخصيات. فكل ما هو إنساني تمّ ترقيمه داخل منظومة هندسية مغلقة. كل ما هو فوضوي، عفوي، غير متوقّع — تمّ تهذيبه حتى الذوبان. إنها سينما تُبهرك بعقلها وتخذلك بقلبها.الأسلوب حين يلتهم ذاتهفي خاتمة الفيلم، نرى الأب والابنة يعبران فضاءً فارغًا، كأنهما يخرجان من قصة لم تُكتب بعد.تبدو النهاية استعارة دقيقة لحال ويس أندرسون نفسه: مخرج يسير في عالمٍ من الجمال المرسوم، لكنه لا يعرف إلى أين يصل. لقد بنى أندرسون أسلوبًا بصريًا لا نظير له في دقّته وأناقة تكويناته، لكنه الآن يواجه المأزق الأكبر: أن هذا الأسلوب بدأ يلتهم المعنى الذي أنشأه.فـ”المخطط الفينيقي” ليس فيلمًا سيئًا بقدر ما هو فيلم متخم بالبراعة حتى الاختناق. كل ما فيه جميل ومصقول، لكنه خالٍ من نبض الإنسان الذي كان يسكن أفلام أندرسون الأولى. إنها المفارقة التي تصيب الفنان حين يصبح أسلوبه أكثر حضورًا من رؤيته، وحين تتحول بصمته إلى قيد يمنعه من المفاجأة.المخرج ويس اندرسون، الذي لا يزال يحتفظ بملامحه الصبيانية وقد بلغ السادسة والخمسين، صار مرادفا لأسلوب بصري متفرد يعد من الاكثر تميزا في السينما الحديثة. لقد تحول اسمه الى علامة جمالية راسخة تستهوى صناع المحتوى والنقاد على حد سواء، حتى غدا يقلد على منصات التواصل كما تقلد الماركات العالميةربما ما يحتاجه ويس أندرسون اليوم ليس خيالًا جديدًا ولا تقنية أخرى، بل إعادة اكتشاف الخطأ، ذلك الخطأ الذي يصنع صدق الفنّ وحرارته. فالفن العظيم لا يُقاس بمدى إتقانه، بل بقدر ما يجرؤ على الانفلات من نظامه.وإذا كان “المخطط الفينيقي” يرسم خريطة جديدة للشرق الأوسط في خيال أندرسون، فإنه في الوقت ذاته يرسم خريطة لأزمته الفنية — مخرج يملك كل شيء إلا الحرية، وصورة تملك كل الجمال إلا الروح.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
اقرأ أيضاً




