فيلم “الست”.. سيرة ذاتية غير مقدسة لكوكب الشرق أم كلثوم

اعتدنا أن تُقدَّم السير الذاتية في العالم العربي على الشاشة بوصف أصحابها رموزًا مثاليين يُنزَّهون عن الضعف، وتُقدَّم حياتهم الفنية والشخصية في صورة شبه ملائكية.حظي فيلم “الست” لمروان حامد بعرضه العالمي الأول في مهرجان مراكش الدولي للفيلم. يقدم العمل سيرة سينمائية آسرة تتوغل في حياة أم كلثوم، أكثر المغنيات تأثيرا في تاريخ مصر والعالم العربي، وإحدى أهم الشخصيات النسائية في القرن العشرين. يمنح الفيلم نظرة عميقة إلى رحلتها، ونضالاتها، وأثرها في المجتمع، ويجسد جوهر شخصيتها عبر سرد محكم وخيارات فنية مدروسةلكن صُنّاع فيلم “الست”، وهو إنتاج عام 2025، اختاروا السَّيْرَ عكس هذا التيار، فتعاملوا مع أم كلثوم باعتبارها شخصية بشرية متقلّبة، لها مجدها وأخطاؤها، قوتها وهشاشتها، دون أن يُغرقوا الصورة في التقديس أو في التلميع المعتادين في مثل هذه الأعمال.أثار الإعلان الترويجي لفيلم “الست”، الذي ُروح قبيل عرض العمل في مصر، تفاعلا واسعا على المنصات المصرية، بعدما كشفت لقطاته الأولى عن تجسيد الممثلة منى زكي لشخصية كوكب الشرق أم كلثوم. وتجددت على إثره موجة من الانتقادات طالت الصورة الخارجية للشخصية ، ولم تتوقف التعليقات عند الفيلم الجديد، بل استدعت إلى الذاكرة مسلسل “السندريلا” عن حياة سعاد حسني، الذي رأى كثيرون أن منى زكي لم توفق فيه في تجسيد الأيقونة المصريةملامح كوكب الشرق من قلب التناقضاتالفيلم الجديد لمروان حامد، الذي عرض لأول مرة عالميا في الدورة الثانية والعشرين من مهرجان مراكش السينمائي المنعقدة حاليا، يرسم ملامح “كوكب الشرق” من داخل تناقضاتها.بعد العرض العالمي الأول للصحافة ضمن فعاليات المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، أوضح فريق فيلم “الست” المخرج مروان حامد، والبطلة منى زكي، والروائي والسيناريست أحمد مراد – أن رهانهم في تناول شخصية أم كلثوم يقوم على الكشف عن جوهرها الإنساني وصلتها بجيل اليوم، لا على استنساخ الصور النمطية وما قدم عنها في الأعمال السابقةفهي في آن واحد امرأة تميل إلى التحكم وتخفي نقاط ضعفها عن المحيطين بها، لكنها أيضا عاشقة مجروحة تحمل ندوب فقد والدها المتوفى ثم حبيبها شريف صبري باشا، الشقيق الأصغر للملكة نازلي، الذي رفضت العائلة الملكية ارتباطه بها.صورة نادرة من ثلاثينيات القرن الماضي للفنانة المصرية أم كلثوم، من أرشيف الصحفي المصري الراحل محمد التابعي، الذي يُعد أستاذًا لمحمد حسنين هيكل. وقد كشفت هذه الصورة، إلى جانب أربع رسائل، على يد هدى التابعي، زوجة الصحفي الراحلهذه الكثافة الشعورية تطرح دون مباشرة، مع اعتماد أحمد مراد في السيناريو على الإيحاءات الخفية، وعلى متفرج قادر على قراءة ما يقع بين اللقطات والمشاهد.قال مروان حامد إن أم كلثوم هي بلا شك أعظم مغنية في العالم العربي، لكنها أيضا تحمل دلالات رمزية كبيرة؛ فهي فنانة عربية مسلمة استطاعت أن تتجاوز الحواجز الجندرية والدينية والسياسية والقومية. فالمطربة المولودة في قرية طماي الزاهرة في دلتا النيل أصبحت، منذ أواخر عشرينيات القرن الماضي، أول مطربة عربية تنشر أعمالها بين الجماهير عبر التقنيات الجديدة في زمنها: الإذاعة، والأسطوانة، والسينما، والتلفزيونتحول من التمرد إلى ممارسة السلطةومع تطور الأحداث، نرى كيف تتحول أم كلثوم تدريجيا إلى النسخة التي كانت تتمرد عليها في مطلع حياتها. فابنة القرية التي ثارت على سلطة الأب، وصارعت الأعراف لتشق طريقها، تصبح في محيطها الفني والاجتماعي سلطة قائمة بذاتها، تدير وتقرر وتخضع الآخرين لمنظومتها الخاصة، حتى وهي تجر وراءها جراحا شخصية لم تندمل.أكثر ما يثير الاهتمام في الفيلم تحديدا: كيف تحولت تلك الطفلة الصغيرة التي كانت تتنكر بزي صبي في قرية شديدة الفقر إلى أيقونة؟ هذا هو المحور الأساسي. فالمسألة لا تتعلق بنجاحها في الموسيقى فقط، بل أيضا: كيف أصبحت أيقونة نسوية؟ هذا هو جوهر الفيلم فعلا. تحولها، وصراعها مع المجتمع، وكيف غيرت الصورة التي كان ينظر بها إليها، إلى أن ترتقي، ويصبح لقبها في العالم العربي “الست”، أي “السيدة”لغة إخراجية حديثة وسرد غير خطيمن الناحية الإخراجية، تميز الفيلم بإيقاع سريع ونابض، خصوصا في مرحلة القاهرة بعد انتقال العائلة إليها، وكذلك في المشهد الافتتاحي لحفلة الأولمبيا في باريس، حيث يبدأ المشهد من الخارج قبل أن ينفذ بذكاء بصري إلى الداخل. في المقابل، جاءت مقاطع القرية الأولى أكثر سكونا ونعومة، بما ينسجم مع بساطة وحميمية الحياة الريفية.وصول أم كلثوم، أشهر مطربة عربية، عن عمر يناهز 63 عاما، إلى مطار لو بورجيه في باريس، فرنسا، يوم 10 نوفمبر/تشرين الثاني 1967. (صورة لوكالة أسوشيتد برس ) (AP)واعتمد مروان حامد سردا غير خطي، ينطلق من حفلة الأولمبيا ثم يرتد إلى الطفولة والانتقال إلى القاهرة، ويتنقل بين ثلاث مراحل رئيسية في حياة أم كلثوم، مستخدما الأبيض والأسود في بعض الاسترجاعات لتعزيز البعد الزمني والنفسي.كثير من الناس لديهم صورة بعيدة جدا عنها؛ فهي غالبا ما صورت في لقطات عامة من بعيد على المسرح، بما يكرس صورة متعالية أو متحصنة كانت تحرص على إبقائها. لكن الفيلم يمثل فرصة كبيرة للغوص في مخاوفها الداخلية؛ لأنها لم تكن امرأة خارقة، بل كان لديها مخاوفها، والوصول إلى ما حققته لم يكن سهلا أبدا.(Getty Images)منى زكي في قلب الشخصية لا على سطحهاأداء منى زكي كان أحد رهانات الفيلم الكبرى. فقد اختارت تقديم شخصية أم كلثوم عبر مشاعرها الداخلية وتقلباتها الإنسانية، أكثر من استنساخ حركاتها وإيماءاتها الشهيرة.على مستوى التحضير، أمضت منى ذكي عاما كاملا في دروس الغناء، ودروس الحركة، والتدريب على اللهجة، إلى جانب الكثير من بروفات المكياج. كان عليها أن تجلس على كرسي التجميل ست ساعات كاملة كل يوم قبل بدء التصوير. إنه دور مرهق جدا، لأن التركيز لا ينصب على مرحلة واحدة من حياة أم كلثوم، بل نقفز ذهابا وإيابا بين لحظات مختلفة كثيرةورغم أنها استعادت بعض تفاصيل الأداء الكلثومي في مشاهد الغناء، فإن الرهان الحقيقي كان الدخول إلى قلب الشخصية: صلابتها، تقلباتها، عزتها، هشاشتها، واعتلالها الصحي في بعض المراحل. وقد تطلب ذلك جهدا تمثيليا مضاعفا، استطاعت زكي أن تقدمه بتوازن ناضج أعطى للشخصية عمقا لا ينسى.اشترك فيالنشرة البريديةاشترك في النشرة البريدية وتابع أحدث أفلامنا الوثائقيةشخصيات مساندة تغني النسيج الدراميكما استفاد الفيلم من مشاركة نجوم كبار في أدوار قصيرة لكنها مؤثرة، من بينهم آسر ياسين في دور الثري العابث، وكريم عبد العزيز في دور شريف صبري باشا، وأحمد حلمي في ظهور خاطف ومرح كضابط شرطة مولع بأغانيها.شارك أحمد حلمي في فيلم “الست” بوصفه ضيف شرف، حيث يجسد فيه شخصية ضابط شرطة عاشق لصوت أم كلثوم يتلقى بلاغا بمحاولة اغتيالهابالإضافة إلى علي صبحي في دور اللص الذي يدخل منزلها في إحدى اللحظات المفصلية، ونيلي كريم في دور الملكة نازلي. كذلك يبرز حضور كل من سيد رجب وعمرو سعد وأحمد أمين في أدوار أكبر قليلا تزيد من ثراء النسيج الدرامي.ما يميز الفيلم مشاركة نخبة استثنائية من نجوم الصف الأول بوصفهم ضيوف شرف، في إشارة واضحة إلى الثقل الذي يحمله المشروع داخل صناعة السينما، وضمانا لامتداد تأثيره إلى شريحة جماهيرية واسعةانكسار ثم نهوض بعد ثورة الضباط الأحرارويحفل الفيلم بمحطات وجدانية تظهر أم كلثوم في لحظات انكسار حقيقي، قبل أن تعود فتنهض بقوة أشد. من أبرز تلك اللحظات فترة ما بعد ثورة الضباط الأحرار، حين تعرضت لهجوم صحافي قاس واعتبرت رمزا للعهد السابق، ما دفعها إلى الانزواء بعد تساقط شعرها وتراجع صحتها، حتى جاء طلب جمال عبد الناصر لأغنية جديدة في حفل رسمي، وهو ما أعادها إلى المسرح والجمهور في لحظة استعادة تاريخية.الرئيس المصري جمال عبد الناصر (في المنتصف) وخليفتُه أنور السادات (يمينًا) لالتقاط صورة مع كوكب الشرق أمُّ كلثوم والملحن المصري محمد الموجي في القاهرة في أواخر ستينيات القرن الماضيمقارنة مع الأعمال السابقة عن أم كلثوموعند الحديث عن الأعمال السابقة التي تناولت سيرة “كوكب الشرق”، سواء مسلسل إنعام محمد علي أو فيلم محمد فاضل، تصبح المقارنة مجحفة.صابرين في دور أم كلثوم في مسلسل “أم كلثوم” (1999)، الذي عاد إلى الواجهة مع الجدل الدائر حول فيلم “الست”. فقد قارن كثيرون بين الإعلان الترويجي للعمل الجديد وبين أداء صابرين، معتبرين أن ملامحها وحضورها على الشاشة كانا أقرب إلى صورة كوكب الشرق مما ظهرت به منى زكي في برومو الفيلمففيلم “الست” يقدم رؤية مختلفة كليا، تعتمد الإيقاع السريع والتقطيع الحداثي المتناسب مع متلقي اليوم الذي لم يعد يقبل الإيقاع التلفزيوني البطيء. إنه فيلم يستثمر أدوات السينما المعاصرة ليعيد تقديم أسطورة عربية بعيون جديدة.روح نسوية وصراع مع السلطة الأبويةعلى مستوى الدلالات، يحمل الفيلم روحا نسوية واضحة؛ فأم كلثوم تقدم كامرأة قوية مستقلة، لا تسمح لأحد بالهيمنة عليها، وتتعامل مع الرجال من موقع الندية.فيلم “الست” ليس المحاولة الدرامية الأولى لتجسيد سيرة أم كلثوم، إذ سبقته أعمال عديدة؛ من أبرزها مسلسل “أم كلثوم” عام 1999 الذي حقق نجاحا ساحقا، في حين لم يحقق فيلم “كوكب الشرق” (1999) من بطولة فردوس عبد الحميد النجاح المنتظر، وتعرّض لانتقادات واسعةبدأت ثورتها من داخل بيت أسرتها، حين تحدت سلطة الأب الذي كان يتوهم قدرته على إدارتها، لكنه في النهاية عاد إلى قريته بعد أن أدرك أن زمام الأمور خرج من بين يديه. كما استطاعت إخضاع رجلين عاشقين لها هما أحمد رامي والقصبجي، ليس عبر سلطة عاطفية فقط، بل أيضا عبر قوة مشروعها الفني الذي كرسا نفسيهما لخدمته دون أن يحصل أحدهما على ما يحلم به.والمفارقة أن هزيمتها العاطفية الوحيدة جاءت على يد امرأة أخرى، هي الملكة نازلي، التي منعت زواج شقيقها بها.خاتمة: أسطورة عربية بعيون معاصرةيقدم فيلم “الست” إذن سيرة ذاتية حديثة، تنزع عن أم كلثوم هالتها التقليدية، وتعرضها في ضوء إنساني عميق، تجعل من شخصية أم كلثوم امرأة معاصرة رغم انتمائها إلى زمن بعيد، وتعيد طرح سؤال الفن، والسلطة، والحب، والجرح الشخصي في سياق درامي محكم.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه




