فتح إلغاء قانون “قيصر” للعقوبات الأميركية نافذة واسعة أمام الاقتصاد السوري لالتقاط أنفاسه بعد سنوات طويلة من العزلة والشلل، في خطوة يُنظر إليها بوصفها الأكثر تأثيرًا على مسار التعافي الاقتصادي وإعادة دمج سوريا في النظام المالي والتجاري العالمي.
فمع رفع واحد من أكثر أنظمة العقوبات صرامة، باتت الطريق مهيأة، نظريًا على الأقل، أمام تدفق الاستثمارات الأجنبية، وتوسّع المساعدات، وعودة القنوات المصرفية، بما ينعكس على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي ويعزز فرص تحصين السلم الأهلي.
إلغاء كامل بلا عودة تلقائية
بحسب المنظمة السورية للطوارئ، فإن إلغاء قانون قيصر جاء بصيغة كاملة ومن دون شروط إضافية أو آليات عودة تلقائية، وهو ما يمنح القرار ثقله القانوني والسياسي، ويميزه عن التعليقات المؤقتة أو الاستثناءات الجزئية التي طُبقت خلال السنوات الماضية.
هذا التطور تكرّس عمليًا بعد إقرار مجلس الشيوخ الأميركي، بأغلبية واسعة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، مشروع قانون تفويض الدفاع الوطني للسنة المالية 2026، متضمنًا بندًا صريحًا يقضي بإنهاء العقوبات المفروضة بموجب قانون قيصر، قبل إحالته إلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب لتوقيعه.
وصوّت مجلس الشيوخ لصالح مشروع القانون بـ77 صوتًا مقابل 20، في خطوة تعكس توافقًا سياسيًا نادرًا، رغم أن القانون في جوهره يحدد أجندة السياسة الدفاعية الأميركية ويجيز إنفاقًا عسكريًا يقارب 900 مليار دولار.
غير أن إدراج بند إلغاء قيصر ضمن هذا التشريع منح القرار بعدًا استراتيجيًا، باعتباره جزءًا من إعادة تقييم أوسع للسياسة الأميركية تجاه سوريا بعد أكثر من عقد من الحرب والعقوبات، ومن المرجح أن يوقع الرئيس الأميركي القانون يوم الجمعة، لتدخل عملية الإلغاء حيّز التنفيذ رسميًا.
شروط المتابعة والتقارير الدورية
يتضمن القانون آلية متابعة دورية، إذ يُلزم الرئيس الأميركي أو من ينوب عنه بتقديم تقرير غير سري إلى الكونغرس كل ستة أشهر، على مدى أربع سنوات، لتقييم أداء الحكومة السورية في ملفات محددة، من بينها مكافحة تنظيم “داعش” والجماعات المصنفة إرهابية، وإبعاد المقاتلين الأجانب عن المناصب العليا، واحترام حقوق الأقليات الدينية والإثنية، والامتناع عن أي عمل عسكري أحادي ضد دول الجوار، إضافة إلى تنفيذ اتفاق 10 آذار/مارس 2025 مع “قوات سوريا الديمقراطية”، واتخاذ إجراءات فعالة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، بما يتماشى مع المعايير الدولية.
كان رفع العقوبات الأميركية بشكل كامل أحد الأهداف الأساسية لزيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى واشنطن الشهر الماضي، حيث التقى الرئيس ترمب في البيت الأبيض، ورغم أن وزارة الخزانة الأميركية كانت قد أعلنت في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي تمديد تعليق جزئي لعقوبات قيصر لمدة 180 يومًا، فإن الإلغاء الكامل ظل مرهونًا بموافقة الكونغرس، وهو ما تحقق الآن.
قانون قيصر، الذي فُرض عام 2019، استهدف شخصيات وشركات ومؤسسات مرتبطة بالنظام السابق، لكنه في الواقع شلّ الاقتصاد السوري بأكمله، عبر منع أي دولة أو كيان من التعامل المالي أو الاقتصادي مع دمشق، تحت طائلة العقوبات الثانوية.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
ترحيب رسمي ورسائل سياسية
على الرغم من أن ترمب وقّع في حزيران/يونيو الماضي أمرًا تنفيذيًا أنهى بموجبه جزءًا من العقوبات، ورفعت وزارة الخزانة الأميركية أسماء 518 فردًا وكيانًا سوريًا من قوائمها السوداء، فإن الإلغاء التشريعي لقانون قيصر ظل الحلقة المفقودة حتى اليوم.
سوريًا، قوبل القرار بترحيب رسمي، إذ أعرب وزير الخارجية أسعد الشيباني عن تقدير بلاده لتصويت مجلس الشيوخ، واعتبر الخطوة “تطورًا إيجابيًا يفتح آفاقًا جديدة للتعاون والشراكة بين سوريا والعالم”، في إشارة إلى الرهان الحكومي على أن يشكل رفع العقوبات نقطة تحول في العلاقات الاقتصادية والسياسية.
اقتصاديًا، يرى الخبير والمستشار المالي علي محمد أن رفع قانون قيصر ينقل سوريا إلى “مرحلة جديدة كليًا” في التعاطي مع اقتصادها، موضحًا أن الشركات العالمية لم تعد تجد عائقًا قانونيًا يحول دون التعامل مع السوق السورية استيرادًا وتصديرًا، ولا سيما في ظل تبني البلاد لاقتصاد السوق الحرة، وفق ما نقل عنه موقع “هاشتاج”.
الاستثمار والأسعار تحت المجهر
أشار محمد إلى أن هذا التحول سيشمل أيضًا قطاع الشحن، إذ ستعود الشركات العالمية للتعامل مع الموانئ السورية، برًا وبحرًا وجوًا، ما سيؤدي إلى انخفاض ملموس في أجور الشحن وكلف التأمين، التي كانت تُفرض سابقًا بمستويات مرتفعة تصل إلى 30 بالمئة بسبب تصنيف سوريا كوجهة عالية المخاطر.
هذا الانخفاض في التكاليف سينعكس تدريجيًا على أسعار السلع المستوردة، ما يخفف الضغط على السوق المحلية، أما على صعيد الاستثمار، فيتوقع أن تبدأ مذكرات التفاهم التي وُقعت خلال الأشهر الماضية بالتحول إلى مشاريع فعلية، مع دخول مستثمرين جدد، محليين وعرب ودوليين، إلى مختلف القطاعات، من الصناعة والطاقة إلى الخدمات والبنية التحتية.
الخبير والمستشار المالي علي محمد
وفي ما يتعلق بسعر الصرف، يربط محمد أي تحسن حقيقي بتطور فعلي في مؤشرات الاقتصاد الكلي، مثل زيادة الإنتاج والصادرات وتدفق القطع الأجنبي، وتقليص عجز الميزان التجاري وميزان المدفوعات، محذرًا من توقع نتائج سريعة في غياب نمو إنتاجي ملموس.
أما التضخم، فيرى أن استقراره أو تراجعه يبقى مشروطًا بتحسن سعر الصرف وزيادة العرض من السلع والخدمات، مع الأخذ في الاعتبار أن عودة أعداد كبيرة من اللاجئين قد ترفع الطلب الاستهلاكي في المدى المتوسط.
عودة التحويلات و”سويفت”
على صعيد التحويلات المالية، يشير محمد إلى أن السماح بالنفاذ إلى النظام المالي الأميركي وعودة التعامل بنظام “سويفت” يشكلان من أكثر المكاسب المباشرة لرفع قيصر، إذ ستتمكن المصارف السورية من فتح حسابات مباشرة، وتسهيل تحويلات المغتربين وعمليات الاستيراد والتصدير، بكلف أقل وموثوقية أعلى، بعد سنوات من الاعتماد على وسطاء رفعوا الكلفة بنحو 30 في المئة.
ورغم هذه المؤشرات الإيجابية، يجمع خبراء على أن ترجمة رفع قانون قيصر إلى تحسن ملموس في حياة السوريين لن تكون فورية، بل تتطلب وقتًا وإصلاحات اقتصادية وهيكلية عميقة، وبيئة استثمارية مستقرة.
ومع ذلك، فإن إلغاء القانون يمثل خطوة مفصلية طال انتظارها، ويعيد فتح الباب أمام إعادة دمج سوريا تدريجيًا في الاقتصاد الإقليمي والدولي، بما يحمله ذلك من فرص حقيقية للخروج من دوامة الانكماش والعزلة نحو أفق اقتصادي مختلف.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه






