في فراغ السياسة النسبي على الساحة السورية اليوم، نلحظ تشوُّش واختلاط بين الآمال الجامحة لدى بعض الأطرف مع المخاوف العميقة لدى أطراف أخرى. الأمر الذي أنتج خطابين متقابلين.
خطابان متطرّفان في الوضوح إلا أنهما بسيطان في الأدوات. الأول يرى في السلطة الجديدة شراً مطلقاً يجب إسقاطه لغوياً كل صباح، والآخر يتعامل معها بوصفها خلاصاً نهائياً لا يجوز مساءلته أو الإشارة إلى أيٍّ من مخاطره. وبين هذين الخطابين، تضيق المساحة الأكثر صعوبة. مساحةُ التفكير الهادئ والبارد، والنقد المسؤول والمُترفِّع أخلاقياً. طبعاً هذ لا يلغي الاعتراف بتعقيد اللحظة السورية الراهنة وصعوبة البرود حيالها، مع أنها لم تكن في يومٍ ما غير ذلك.
هل أفتِّشُ هنا، بين هذا الركام والخراب الذي نحن فيه، عن "المدينة الفاضلة"؟ سأجيب لا، وسيرة الثورة، بأهدافها الأولى، تؤيد ما أقول، ولن تكون معجزةً أن نقترب من تلك الأهداف ولو بحدودها الدنيا. هذه المقدّمات، التي تبدو بديهيةً في الدول المستقرة، تتحوّل في السياق السوري إلى موقف إشكالي، وربما مستفز. لأن هناك كثيرون ما يزالون يتعاملون مع الدولة كغنيمة رمزية، بينما هي، مع بعض التعقّل ولجم الغرائز، يجب أن تكون الإطار الجامع. والأدهى، في الطرف (القُطب) المقابل، أن هناك من يتعامل مع السياسة وكأنها امتداد للحرب بوسائل لغوية وإعلامية، ولا يريد لها أن تعود إلى أصلها، خصوصاً في حالتنا، بصفتها فنَّ إدارة التناقض.
قطبان متنافران على نحوٍ طريف أحياناً، وكأن "بينهما برزخٌ لا يبغِيان"، يتحدث كل طرف عن عوالم تبدو تخصّه وحده، وليس عن مكان واحد هو بلد يجمعهما. مع ذلك تجْمعُ الطرفين سمة مشتركة تقريباً، وهي صمتُ (كسَلُ) أغلبهم لسنوات قبل 8 ديسمبر، ليعودا منذ ذلك التاريخ لاحتلال الفضاء العام بالصراخ. هؤلاء، بمن فيهم من يعتبرون أنفسهم منتصرين، يستبطنون في كتاباتهم نوعاً من الغِلّ الشخصي للمهزومين، تفضحه المفردات العنفية، ما يُشعِر القارئ بأنهم يفضّلون أن تتهدّم سوريا كاملة مقابل ألا يتحقق ولو جزء من رؤية الطرف الآخر. نوع من الغلّ يشير إلى نفسه بوضوح، على أنه "غِلُّ ما دون السياسة". فالسياسة تحتمل الاختلاف وحتى التناحر، ولكن ليس كل هذا الغلّ الغريزي.
قناعتي الشخصية في حالتنا اليوم، أنك لو كنتَ معارضاً فهذا لا يعني بالضرورة أنك تدافع عن العدالة ولا عن دولة الحقوق والمواطنة والحريّات، كما أن تأييد السلطة لا يعني تلقائياً أنك تقف مع استقرار البلد.
مضى أكثر من عام على التحرير وأنا، وقلّةٌ غيري، نكتب على هذا النحو المُضادّ لهذين الطرفين. هناك من يتّهم هذا الخطاب، الذي أدّعي أنه محاولة للوصول بسوريا إلى برّ
الأمان، بشتّى أنواع التهم، أقلّها الرخاوة والبرود ومحاولة إمساك العصا من المنتصف، عبر التلاعب بالكلمات كما يرى بعضهم، وفي حالات طيب النوايا، فتهمة السذاجة هي الأنسب. كيف لا! ونحن كففنا عن وصف الإدارة السورية الجديدة (المؤقتة جداً) بأنها مجموعة من "الإرهابيين الجهاديين الدواعش"، فلا نشتمهم صبح مساء كما يفعلون، ولو كنّا فعلنا، لنِلنا جنّة معارضي اليوم. وهذا، لو تصدّقوني، طريق سهل.
من الجانب الآخر، لو كنّا ذهبنا بخطاب الكراهية ضد "بيئة الأسد" كما يصفها البعض، عندما يريد تفادي التعابير الطائفية، ودعَونا لوجوب الثأر والانتقام، أو كررنا، كما يفعل المدّاحون، أن سوريا اليوم هي الحلم المنشود "إلى يوم القيامة"، رغم ما نراه من تخبط وعدم انسجام. وأن كل ما يجري هو في الطريق الصحيح، مع السلاح المنفلت والمجازر التي حدثت والجرائم المتنقّلة التي ما زالت تحدث. ومع وجود عمّنا "شيخ الهيئة السياسية" في كل وزارة ودائرة ومخفر، ولو تغافلنا عن الإقصاء والاستئثار. وهذا التوجه الأخير يشكِّلُ الوصفة الأكثر نجاحاً لصنع الدولة الفاشلة. لو ذهبنا معهم في كل ذلك، لكسبنا جنة السلطة ومواليها، وهذه لو تعلمون، أسهل من سابقتها.
عنّي شخصياً، نفسي تَعافُ كلتا الجنّتَين. ورغم أنني أعتبر نفسي بداهةً بمواجهة أي سلطة في العالم، إلا أن مشكلتي هنا ليست في حدّة النقد ولا شدّة الدفاع، وهو أمر مشروع للجميع. المشكلة في تحوّل الاثنتين إلى هوية سياسية مغلقة، غير قابلة للمساءلة الذاتية. وقناعتي الشخصية في حالتنا اليوم، أنك لو كنتَ معارضاً فهذا لا يعني بالضرورة أنك تدافع عن العدالة ولا عن دولة الحقوق والمواطنة والحريّات، كما أن تأييد السلطة لا يعني تلقائياً أنك تقف مع استقرار البلد. الأدهى أحياناً من الجانبين، أنهما دون إدراك لا يقفان، كما يعلنان، مع من يدّعيان السعي للدفاع عنهم. فالمعايير اختلطت، وصار الصوت المسموع الذي يصل سريعاً إلى الآذان، هو الأكثر تطرفاً، وليس الأكثر اتزاناً.
المفارقة أن الفريقين، رغم تناقضهما، يشتركان في الذهنية ذاتها: ذهنية الإقصاء، والتخوين، ورفض الرؤية الاستراتيجية الطبيعية، والمُجرَّبة في دولٍ خرجت من تجارب مشابهة.
الكتابة في هذه المساحة العسيرة لا تعني الهروب من أي استحقاق. فهي عبء ثقيل، من حيث أنها لن ترضي أحداً، وهي إنما تُكسِبُ خصوماً أكثر، ومن كلا الضفتين، حيث يجتمع الطرفان على اعتبارها معادية. لكنها بالتأكيد، بالنسبة لي على الأقل، اختيار واعٍ لعدم الانخراط لا في سوق المزايدات ولا في سوق التبرير. وهي محاولة، تنجح أحياناً وتخفق في أخرى، للبقاء في منطقة الواقع والحقيقة، حتى لو كانت تلك الحقيقة غير مريحة للجميع. أصحاب هذه المنطقة الوسطى، وجُلّهم في داخل سوريا، لا يملكون جيشاً إلكترونياً مُستَنفَراً ولا سردية جاهزة يمكن الترويج لها ودفعها ليقبلها المتلقي، والأهم أنهم لا يملكون جمهوراً
يميل للهيجان. لكنها كما أرى، على نحوٍ بالغ الصعوبة، هي المساحة الوحيدة القادرة على إنتاج دولة.
في المعارضة خصوصاً المغتربة، هناك اليوم متخصصون بصيد هفوات السلطة الجديدة ومعها المدافعون عنها (أقول هفوات، ولا أتحدث عن السقطات الكارثية التي تستحقُّ كل قول). معارضون من خلف متاريسهم البعيدة جغرافياً، يبدون على نحوٍ كوميدي، وكأنهم فريق رصدٍ مُجحفَل مُكلَّف رسمياً بمراقبة قوّات معادية. بينما نجد على الضفة الأخرى ما يبدو أنه "جيش إلكتروني" جديد مكلَّف بتسويق الأخطاء، وأحياناً المخازي التي يرتكبها أي مسؤول من الحكام الجدد، فيظهرون بمواقفهم، إضافة للركاكة الساذجة، مَلكيّين أكثر من الملك.
المفارقة أن الفريقين، رغم تناقضهما، يشتركان في الذهنية ذاتها: ذهنية الإقصاء، والتخوين، ورفض الرؤية الاستراتيجية الطبيعية، والمُجرَّبة في دولٍ خرجت من تجارب مشابهة. ذهنية لا ترى في السياسة إلا معركة صِفرية، والأسوأ أنها لا تعترف بإمكانية وجود الخطأ إلا لدى الخصوم. هذا التطرف الحاد في الضفّتين لا يخدم لا دولةً ولا عدالةً مُنتظَرة. شيطنةٌ مطلقة هنا، وتقديس أعمى هناك. وكأن كلا الطرفين يمتلكان آليّة كفيلة بتحويل المختلف إلى عدوٍّ مبين، ما يستدعي الهجوم وتلفيق السرديات السطحية.
مع ذلك، وبكل ما زلتُ أحاول أن أكون عليه من الهدوء، أرى أن التحدّي السوري الحقيقي اليوم ليس في إسكات الأصوات المتطرفة، فهذه موجودة على الدوام، في كل مكان وفي كل الدول. التحدّي المعقول، برأيي، هو في العمل على تقليص مساحتها أكثر فأكثر، ليس بالقمع إنما عبر الحوار الهادئ، مع حماية تلك المساحة الوسطى. مساحة العقل البارد، والرهان طويل النَفَس على دولةٍ قد لا تشبه كامل أحلامنا، لكنها تمنحنا حقَّ وحريّة الاختلاف داخلها. تلك المساحة، رغم هشاشتها وقِلّة حيلتها اليوم، قد تكون آخر ما تبقّى لنا من معنى ثورة 2011.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه




