كفرنبودة المنسية.. دمار واسع وخدمات غائبة تعرقل الاستقرار وتؤخر عودة النازحين

رغم مرور عام على سقوط النظام المخلوع، ما تزال بلدة كفرنبودة في ريف حماة الشمالي الغربي أسيرة دمارٍ واسع طال أحياءها السكنية والتجارية، وحول العودة إليها إلى مغامرة قاسية محفوفة بالمخاطر والأعباء المعيشية، فغياب الخدمات الأساسية والبنية التحتية، التي دمرتها الآلة العسكرية للنظام المخلوع خلال السنوات الماضية، جعل الاستقرار في البلدة شبه مستحيل، وأبقى حلم العودة مؤجلًا لآلاف الأهالي الذين ما يزالون يقيمون في مخيمات النزوح شمالي سوريا.

في هذا التقرير، يرصد موقع تلفزيون سوريا الواقع الخدمي والاجتماعي والاقتصادي في كفرنبودة، ويستعرض حجم الدمار الذي خلفه القصف في أحيائها، من خلال شهادات سكانها، الذين يجمعون على توصيف بلدتهم بأنها "مدمّرة وتحتاج إلى كل شيء كي تعود إليها الحياة من جديد".

لمحة عن كفرنبودة

يعتز أهالي كفرنبودة بدور بلدتهم المبكر في الثورة السورية، وبأبنائها الذين انضموا منذ البدايات إلى صفوف فصائل الجيش الحر، فقد كانت كفرنبودة من أوائل بلدات ريف حماة الشمالي التي شهدت حراكاً ثورياً مناهضاً للنظام المخلوع، حيث خرجت فيها أول مظاهرة في السابع عشر من نيسان/أبريل عام 2011، بالتزامن مع اتساع رقعة الاحتجاجات في ريفي حماة الشمالي وإدلب الجنوبي المجاورين.

وخلال سنوات الثورة، تحولت كفرنبودة إلى نقطة اشتباك مركزية شكلت عقدة عسكرية وسياسية لروسيا وحليفها النظام المخلوع، فعلى الرغم من محاولتين فاشلتين لاجتياحها خلال هجومين واسعين في عامي 2013 و2015، ضمن مساعٍ للسيطرة على الشمال الحموي، لم يتمكن النظام المخلوع من دخول البلدة إلا في عام 2019، بعد حملة قصف مكثفة استمرت نحو أسبوع، وألحقت دماراً واسعاً بمنازلها وبنيتها التحتية، قبل اقتحامها والسيطرة عليها.

جغرافياً، تقع بلدة كفرنبودة في أقصى ريف حماة الشمالي الغربي، عند نهاية الخط الإداري الفاصل بين محافظتي حماة وإدلب، ويعتمد معظم سكانها، شأنها شأن بلدات وقرى المنطقة، على الزراعة كمصدر رئيسي للعيش.

كما تتمتع كفرنبودة بموقع استراتيجي جعلها نقطة وصل بين ريف حماة الشمالي وإدلب الجنوبي، إذ تتوسط المسافة بين مدينة مورك الواقعة على الطريق الدولي حلب–دمشق، وبين قرى سهل الغاب ومدينة السقيلبية، وهو ما منحها أهمية اقتصادية وجغرافية مضاعفة، وجعلها في قلب الأحداث خلال سنوات الثورة.

واقع خدمي منهار

التقى موقع تلفزيون سوريا، محمد نور الشيخ، الصحفي والناشط الإنساني وأحد أبناء كفرنبودة، يصف الشيخ الوضع الخدمي في كفرنبودة بأنه "سيئ جداً"، مؤكداً أن نسبة الدمار المرتفعة جعلت غالبية الأهالي عاجزين عن ترميم منازلهم أو العودة إليها بشكل آمن، في ظل غياب أي مشاريع دعم أو إعادة تأهيل شاملة.

وبحسب الشيخ، كانت كفرنبودة تعتمد قبل سيطرة النظام المخلوع على البلدة في العام 2019، على خمسة آبار لتأمين مياه الشرب، إلا أن ثلاثة منها خرجت عن الخدمة نتيجة القصف والدمار، في حين يعمل بئران فقط حالياً بجهود من الأهالي، أما شبكة المياه الرئيسية التي كانت تغطي كامل البلدة، فقد دمرت بالكامل وتوقفت عن العمل، ما يضطر السكان للاعتماد على حلول بدائية لتأمين احتياجاتهم اليومية.

وحول واقع الكهرباء، يعاني أهالي البلدة وفق الشيخ من انقطاع شبه كامل للكهرباء، إذ تقتصر التغذية الكهربائية على حي وحيد فقط، بينما تعيش باقي الأحياء في ظلام دائم، ما ينعكس على مختلف مناحي الحياة، من التعليم إلى الصحة والأعمال اليومية، وشبكة الصرف الصحي في كفرنبودة شبه معطلة، حيث تقدر أعداد الجور الصحية المسدودة بين 600 و700 جورة، جميعها بحاجة ماسة إلى التعزيل من الردم وتركيب أغطية واقية، لتفادي حوادث السقوط وانتشار الأمراض، في ظل غياب أي تدخل خدمي منظم.

وأضاف الشيخ، أن نحو ست مدارس تعرضت في البلدة للدمار الكامل، وهي بحاجة إلى إعادة بناء وتأهيل شامل، حالياً، يتلقى الأطفال تعليمهم في كرفانات مؤقتة تفتقر لأبسط المستلزمات، ما يهدد مستقبل جيل كامل بالانقطاع عن التعليم، أما المستوصف الوحيد في كفرنبودة يعاني من تدهور كبير في بنيته، ويحتاج إلى ترميم عاجل وتجهيزات طبية أساسية، إضافة إلى سيارة إسعاف، في ظل عدم وجود أي نقطة طبية قريبة، ويعمل المستوصف بكادر تطوعي محدود لا يستطيع تلبية احتياجات السكان المتزايدة، وفق الشيخ.

وأكد الشيخ أن مبنى البلدية مدمر بالكامل ويحتاج إلى ترميم ليعود إلى أداء مهامه الإدارية والخدمية، وفي ظل غياب وسائل نقل النفايات إلى مكبات مخصصة، تنتشر القمامة والمخلفات في شوارع البلدة، ما يشكل خطراً صحياً وبيئياً متزايداً، ولا يوجد في كفرنبودة سوى فرن خاص واحد يعمل حالياً، في حين تغيب الأفران العامة بشكل كامل، ما يزيد من الأعباء المعيشية على الأهالي، خاصة في ظل ارتفاع التكاليف وصعوبة الوصول إلى بدائل قريبة.

دمار واسع يعمق الأزمة

بحسب محمد نور الشيخ، يقدر الدمار الجزئي في كفرنبودة بنحو 50%، بينما يصل الدمار الكامل إلى نحو 25%، ما يجعل إعادة الإعمار مهمة معقدة تفوق قدرات السكان الذاتية، ما يجعل عودة النازحين محدودة برغم مرو عام، وبحسب الشيخ، عاد إلى كفرنبودة نحو 3500 عائلة فقط، بعضهم يقيم في منازل رممها جزئياً على نفقته الخاصة، بينما يضطر آخرون للعيش في خيام بسبب عدم توفر مساكن صالحة للسكن، ويؤكد الأهالي أن غياب الخدمات الأساسية هو العائق الأكبر أمام عودة المزيد من العائلات.

القطاع الزراعي منهك

يصف محمد نور الشيخ واقع الزراعة في كفرنبودة بأنه "الأكثر تضرراً" مقارنة ببقية القطاعات، موضحًا أن الأراضي الزراعية تركت دون عناية لما يقارب ست سنوات متواصلة، في ظل النزوح الواسع وغياب الاستقرار وشح المياه، هذا الواقع دفع معظم الأهالي إلى تضمين أراضيهم أو تأجيرها بأسعار متدنية، في حين عجز آخرون عن استثمارها كلياً، بسبب ارتفاع تكاليف الزراعة وتضرر مصادر الري.

ويضيف الشيخ أن البساتين في البلدة دمرت بشكل كامل، واقتلعت أشجارها على يد عناصر قوات النظام المخلوع وحلفائه من الميليشيات خلال السنوات الماضية، ما حرم كفرنبودة من أحد أهم مصادر دخلها الزراعي، وأفقد مئات العائلات مورد رزقها الأساسي.

وتعد الزراعة القطاع الأكبر من حيث حجم العمالة في كفرنبودة، إلا أنها اليوم شبه منهارة، قبل سيطرة النظام المخلوع عليها، تقول مصادر محلية إنه كان في البلدة أكثر من 520 بئراً ارتوازياً تستخدم لري الأراضي الزراعية والبساتين، لم يبق منها عامل حاليا سوى نحو 30 بئرًا فقط، تعمل بقدرات محدودة، في حين تعرضت باقي الآبار لأضرار جسيمة، أو خرجت عن الخدمة بالكامل نتيجة القصف والإهمال ونقص الصيانة.

وفي هذا السياق، يقول أبو أحمد، وهو مزارع من أهالي البلدة عاد إليها مؤخراً: “كنا نعيش بالكامل على الزراعة، الأرض كانت مصدر رزقنا الوحيد، اليوم عدنا لنجد الآبار مدمرة، والأشجار مقطوعة، ولا قدرة لنا على إعادة تشغيل الأراضي من دون دعم أو مياه".

يضيف، العمل الزراعي بات مغامرة خاسرة، حتى من يملك أرضاً صالحة للزراعة لا يستطيع العمل بها، المازوت بسعر مرتفع، والمياه شحيحة، والآبار بحاجة لإصلاح مكلف، لذلك يضطرون لتضمين أراضيهم أو تركها بوراً".

وبحسب أبو أحمد، لم يبق بستان واحد في البلدة إلا ولحقه الضرر، أشجار الزيتون والفستق اقتلعت بأعداد كبيرة، هذه الأشجار احتاجت عشرات السنين لتنمو، وتدميرها يعني تدمير مستقبلنا، لا موسماً واحداً فقط" ويجمع المزارعون في كفرنبودة على أن إعادة إحياء القطاع الزراعي تتطلب تدخلًا عاجلًا لإصلاح الآبار المتضررة، وتأمين مصادر الري والطاقة، ودعم الفلاحين بالمستلزمات الأساسية، معتبرين أن إنقاذ الزراعة هو المدخل الأهم لإعادة الحياة الاقتصادية وتشجيع عودة ما تبقى من الأهالي إلى بلدتهم.

شهادات من الأهالي

أبو رشيد، أحد أهالي كفرنبودة، يقول لموقع تلفزيون سوريا إن البلدة التي كان عدد سكانها يقارب 35 ألف نسمة، لم يعد إليها سوى نحو 10 آلاف شخص فقط، ويضيف: "كفرنبودة تفتقر لكل شيء، كل شيء حرفياً، طائرات النظام المخلوع وروسيا دمرت كل شيء، ولا يوجد منزل واحد لم يطله الضرر".

ويتابع أبو رشيد: "بعد سنوات النزوح عدنا لنحاول إعادة الحياة، لكن الحياة هنا بلا مقومات، لا بلدية، لا مخفر شرطة، لا مستوصف مجهز، لا صرف صحي، ولا كهرباء أو مياه، حتى الجمعية الخيرية والجامع الكبير، أقدم جوامع البلدة، مدمران".

أما أبو سامي، أحد العائدين حديثًا من رحلة النزوح إلى منزله في كفرنبودة، فيقول لموقع تلفزيون سوريا: "رممنا بيتنا جزئياً بجهدنا الشخصي، لكننا نعيش بلا كهرباء ولا مياه منتظمة ولا خدمات أساسية، كالنظافة والصحة وغيرها، وبرغم ذلك العيش بيتي المتضرر في كفرنبودة أهون بالنسبة لي ولعائلتي من العيش في المخيم الذي أكل أرواحنا على مدار سنوات" وفي المقابل، يقول أبو عبد الله، وهو نازح في مخيمات الشمال، لموقع تلفزيون سوريا: "نريد العودة، لكن كيف؟ لا بيت صالحا للسكن ولا مدرسة ولا مستوصف، العودة تعني حياة أصعب من النزوح".

اليوم، تقف كفرنبودة عند مفترق طرق حاسم بين عودةٍ ناقصة وحياةٍ مؤجلة. فإصرار الأهالي على الرجوع إلى بلدتهم، رغم الدمار وغياب الخدمات، يعكس تمسكًا بالأرض والهوية أكثر مما يعكس توفر شروط الاستقرار. غير أن هذا الإصرار وحده لا يكفي في مواجهة واقعٍ خدمي منهار وبنية تحتية مدمّرة واقتصاد زراعي شبه مشلول. وبين بيوت مهدّمة وحقول عطشى ومدارس ومراكز صحية عاجزة، تبقى كفرنبودة شاهدة على أن إعادة الحياة لا تبدأ بالعودة فقط، بل بقرارات جادة وخطط فعلية تعيد للبلدة مقومات العيش، وتحوّل حلم الاستقرار من انتظارٍ طويل إلى واقع ملموس لأهلها.

اليوم يقف أهالي كفرنبودة عند مفترق طرق، بين عودة ناقصة وحياة مؤجلة، فإصرار الأهالي على الرجوع إلى بلدتهم، رغم الدمار وغياب الخدمات، يعكس تمسكا بالأرض والهوية أكثر مما يعكس توفر شروط الاستقرار، غير أن هذا الإصرار وحده لا يكفي في مواجهة واقعٍ خدمي منهار وبنية تحتية مدمرة واقتصاد زراعي شبه مشلول، وبين بيوت مهدمة وحقول عطشى ومدارس ومراكز صحية عاجزة، تبقى كفرنبودة شاهدة على أن إعادة الحياة لا تبدأ بالعودة فقط، بل بقرارات جادة وخطط فعلية تعيد للبلدة مقومات العيش، وتحول حلم الاستقرار من انتظار طويل إلى واقع ملموس لأهلها.