قبل أيام، نشرت وسائل تواصل عديدة إعلاناً منسوباً للأب طوني بطرس يصرّح فيه عن "عدم إقامة أي مظاهر احتفالية بمناسبة أعياد الميلاد هذا العام في كنيسة الرسول فيليبس بشهبا وكنيسة الهيت والرضيمة الشرقية، احتراماً لأرواح الشهداء"، داعياً إلى الاكتفاء بإقامة الصلوات من أجل شفاء المصابين وعودة المخطوفين.
ترافق ذلك مع الاحتفالات الكبيرة بمناسبة الذكرى السنوية الأولى للتحرير وسقوط نظام الأسد، تلا هذا وذاك توقيع الرئيس الأميركي قانون موازنة الدفاع الذي تضمّن نصوصاً خاصّة بإلغاء قانون قيصر عن سوريا.
وعلى هامش الاحتفالات انقسم السوريون، كعادتهم، أطيافاً مختلفةً بحسب تموضعها وتعريفها لهذين الحدثين العظيمين.
كذلك وقع يوم السبت (13 كانون الأوّل- ديسمبر)، الحادث الإرهابي في تدمر والذي أودى بحياة اثنين من عناصر الأمن العام السوري وثلاثة أميركيين، عسكريان ومترجم متعاقد، وتبعته في 19 كانون الأوّل، عملية عين الصقر الأميركية بالتعاون مع الدولة السورية لملاحقة تنظيم "داعش" الإرهابي.
من بين الأحداث المحايثة لمناسبة الاحتفالات تسرّبت بعض الشذرات هنا وهناك، منها انسحاب ضيفٍ سوري من برنامجٍ حواري على الإخبارية السورية، ومنها رسمٌ كاريكاتوري نشرته صحيفة "الثورة السورية" بحلّتها الجديدة، ثم اعتذر عن نشره رئيس تحريرها.
كذلك شهدنا جدالاً حول تصريحات أدلى بها السيد أسامة عثمان شريك السيد فريد المذهان في ملف "قيصر"، وشهدنا أيضاً سجالاتٍ حادةً حول مقابلة تلفزيونية أطلقت خلال إحدى السيدات السوريات عباراتٍ في وصف الرئيس السوري أحمد الشرع، اعتبرها ضيفٌ سوريٌ آخر مشاركٌ مسيئةً واعترض عليها.
كذلك تمّ توقيف صحفي سوري بعد مراجعته إدارة الأمن الجنائي بشأن إذاعة بحث صادرة بحقه إثر إخبار قدمه أحد المحامين للنيابة العامة بارتكابه جرم إثارة النعرات الطائفية.
أوردنا بعض الأحداث الجانبية التي رافقت الذكرى السنوية الأولى لسقوط نظام الأسد أو تلتها، لنتناول من خلال تفاعلنا معها لبّ مشكلتنا المطروحة في هذا المقال.
بعض هذه الأحداث كان "مفصلياً"، أي إلغاء مفاعيل قانون قيصر، وحادثة قتل العناصر السورية والأميركية في تدمر، البعض الآخر منها سيمرّ ويمضي كما مضى غيره، لكنّه سيترك وصمة هنا أو دمغة هناك، ولو أردنا تتبّع كل الأحداث المماثلة في سوريا، كبيرها وصغرها، المهمّ منها والسخيف، لما استطعنا، فاقتصرنا على بعضها للتدليل على مقاربتنا للانقسام السوري الراهن.
مشكلتنا الرئيسة، نحن السوريين، أننا لا نحسن إدارة خلافاتنا واختلافاتنا، قد يكون التعميم قاسياً ومجحفاً وغير عادل، لكنّه مع شديد الأسف واقعي..
وهنا لا بدّ من تثبيت نقطة أوليّة حول الكتابة في الشأن السوري، فهي اليوم كالسير في حقل ألغامٍ تحت وابل قصفٍ جويٍ وبرّي وبحريّ وتشويشٍ إلكتروني.
المشاركة في الشأن السوري العام الآن، تتطلّب شجاعة عنترة بن شدّاد، وتواضع الخليفة عمر بن عبد العزيز، وحِلم الأحنف بن قيس، وكرم حاتم الطائي، وجرأة عمرو بن معد يكرب.. على الأقل، لكنّها واجبة وضرورية على ما تحمله من أخطارٍ جمّة، فلا يمكن للسوريّ الآن الاستقالة من سوريته بحجّة السلامة، ومتى كانت السلامة مغنمًا في هذا العالم المضطرب.
مشكلتنا الرئيسة، نحن السوريين، أننا لا نحسن إدارة خلافاتنا واختلافاتنا، قد يكون التعميم قاسياً ومجحفاً وغير عادل، لكنّه مع شديد الأسف واقعي.
يتركُ لبّ الموضوع عمداً ويتمّ التركيز على جزئيّة بسيطة منه، فيتمّ تضخيمها وتحميلها بالمعاني والدلالات التي لا تحتملها في الغالب الأعم، ثم يُقتطع الأمرُ عن سياقه الذي حصل فيه، ويتمّ تصنيع سياقٍ آخر حسب رغبة الراوي ومصالحه، ثم تتمّ عملية الوصم من خلال تعميم الصفة المستخلصة من كل هذا التحريف والتزوير الممنهجين.
هي آلة جبّارة من الشيطنة، لا يكادُ يُفلتُ منها إلّا قلّة قليلة كالفرقة الناجية في تراثنا، ربّما، وربّما لم يفلت منها أحدٌ البتّة بما فيه محدّثكم هذا قبل غيره.
نستسهل عمليات الإعدام المعنوي للآخر المختلف عنّا ولو شعرة واحدة، ولا نعلم أننا نعدم ذواتنا المتضخّمة حدّ الانفجار في الوقت ذاته، لا يمكننا تصوّر المختلف عنّا، بل إننا نصمم العالم الخارج عن حدود الذات على قالب تصوّرنا نحن، فنصنع في مخيلتنا نموذجاً مقتبساً من سرير قاطع الطريق في الأساطير اليونانية بروكروست (Procrustes)، من دون أن نتخيّل أننا نضع أنفسنا في السرير ذاته جاعلين من أنفسنا ثيسيوس (Theseus) من دون انتظار قدومه من الأسطورة.
نرفع من نرضى عنهم إلى مراتب القدّيسين، بل الملائكة، ونسخط من لا نرضى عنهم حدود إبليس! لا نعلم، أو لا نريد أن نعلم أننا ببساطة بين هذين الحدّين، بشر.
نحن من النوع الوحيد من الكائنات هذه الذي يمكن إدراكه بالحواس المباشرة، نحن جنس الإنسان الذي يخطئ ويصيب، يحبّ ويكره، يظلم ويعدل، يجود ويبخل، يغامر ويجبن، يعمل الصالحات والطالحات، يأتي بالكرامات ويرتكب الموبقات.. نحن من هذا الصنف المحسوس المُدرك المعيّن المحدد الذي يمكن قياسه وقياس سلوكه وتوقعه، لسنا ملائكة ولا شياطيناً.. نتصارع على إيضاح الواضحات رغم معرفتنا بأنّ ذلك من الفاضحات، في حين ينشغل العالم باختراق أسرار الكون واختراع كلّ جديد.
هل صحيح أنّه يوجد سوريّ واحد مهما كان بعيداً عن أسباب التقنية لم يشاهد أو يسمع أو يقرأ عن تقارير رويترز وغيرها من الوكالات أو مصادر التحقيقات الصحفية بهذا الخصوص؟
كيف نقبل على أنفسنا تركيب صورٍ فاضحة مُختلقة عبر الذكاء الصناعي لبعضنا بعضاً وترويجها ونشرها؟
ما الذي دهانا لنتقبّل كل هذا الجنون؟ كيف يمكن أن نصدّق كل هذه الافتراءات ونتداولها ونسهم في نشرها؟ هل يُعقل أننا لم نستوعب بعدُ وجود ذباب إلكتروني ووجود جهات عديدة منها مخابرات دول مجاورة وأخرى بعيدة تنشئ حسابات وهمية بأسماء سوريين وسوريات من كل القوميات والأديان والطوائف والمذاهب والمناطق لتنشر الفتنة بيننا، بل لتصبّ الزيت على نار الفتنة الموجودة أصلًا؟
هل صحيح أنّه يوجد سوريّ واحد مهما كان بعيداً عن أسباب التقنية لم يشاهد أو يسمع أو يقرأ عن تقارير رويترز وغيرها من الوكالات أو مصادر التحقيقات الصحفية بهذا الخصوص؟ كيف نقبل على أنفسنا تركيب صورٍ فاضحة مُختلقة عبر الذكاء الصناعي لبعضنا بعضاً وترويجها ونشرها؟ ألم نفكّر بالخطر المحدق بنا جميعاً من جرّاء شيوع خطاب الكراهية، بل من جرّاء سيادته بيننا وكأنّه الأصل؟ هل يُعقل أن نقبل سماع هذا الخطاب من بعض الأشخاص في بعض المنصات الإعلامية الرسمية؟ ما هذا الجنون الذي نعيشه؟
يبدو أنّ كلّ شيء صار يُدار أو يمضي باتّباع طريقة أو أسلوب الاتجاه العام السائد (Trend) الذي يتغيّر كل يوم، بل كل يومٍ عدّة مرّات أحياناً.
كأننا أنجزنا كل مهامنا في إعادة الإعمار وبناء الهوية الوطنية وتحقيق العدالة الانتقالية والقضاء على الفقر والجهل.. ثم انتقلنا إلى هوليود لنلحق الموضة والموديلات.
نصوّر المطالبين بالديمقراطية والشفافية جرذاناً خارجة من حطام تمثال الأسد، وكأنّها كفرٌ أو موبقةٌ من مخلّفات النظام البائد كالعلمانية والحريات وحقوق الإنسان.. ونسارع لتصديق أيّة إشاعة على أي شخص أو مجموعة قبل التحقق منها، نقبل أن يتم توقيف أي مواطن أو إنسان على مجرّد إذاعة بحث عن جرم جنحوي الوصف غير ثابتٍ وغير مؤيّدٍ بحكم قضائي مبرم، نُسارع للمضيّ مع غرائزنا ونضع عقلنا على الرف مع محاكماته ومنطقه، نتبنّى مواقف انتقائية في قضايا -كالجرائم- لا تقبل الانتقاء، لأنّ جوهرها واحد بغضّ النظر عن الجاني أو الضحية.
نقبل الظلم على بعضنا، نجزع من قول الحقيقة كما هي، عارية، صادحة، غير مؤدلجة.. ويلٌ لنا من الحاضر قبل المستقبل، من أنفسنا قبل أن يكون من أولادنا وأحفادنا.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
اقرأ أيضاً

قوى الأمن الداخلي تنتشر في بلدة ترمانين بريف إدلب
منذ ساعة واحدة
قسد ولعبة الرهان على الزمن
منذ ساعة واحدة
حي الأكراد الدمشقي
منذ ساعة واحدة

