الأم بوصفها "حاضنة" في قانون الأحوال الشخصية السوري.. ماذا غيّر التعميم عملياً؟
في بنية تشريعية لا تزال تنظر إلى الأم بوصفها حاضنة تؤدي دور الرعاية اليومية لا بصفتها صاحبة حق قانوني كامل، جاء التعميم الأخير الصادر عن وزارة العدل السورية ليكرس أحد أكثر أنماط التمييز رسوخا في قوانين الأحوال الشخصية، من خلال حصر الولاية على نفس القاصرين ضمن سلسلة طويلة من الأقارب الذكور، واستبعاد الأم في حين هي التي تكون الجهة الوحيدة التي تتحمّل فعليا مسؤولية رعاية الطفل وحمايته واتخاذ القرارات المصيرية المتعلقة بحياته.
ورغم تقديم هذا التعميم على أنه إجراء تنظيمي يهدف إلى توحيد الاجتهاد القضائي، فإنه تح الباب أمام إشكاليات حقوقية عميقة لا تقتصر على تفسير النصوص الفقهية، بل تمتد إلى المساس بجوهر مبدأ المساواة أمام القانون، وبمفهوم مصلحة الطفل، فضلًا عن طرح تساؤلات جدّية حول حدود السلطة التقديرية للقضاء الشرعي. إذ لا ينعكس التعميم كخلاف قانوني نظري، بل يترجم عمليا إلى قيود مباشرة على قدرة الأمهات في اتخاذ قرارات أساسية تمس حياة أطفالهن ومستقبلهم، بدءا من السفر وإصدار جوازات السفر، وصولا إلى المعاملات المرتبطة بالهجرة والوثائق الرسمية العابرة للحدود.
ومع اتساع نطاق هذه القيود تتصاعد التساؤلات حول مدى انسجام التعميم مع الالتزامات الدستورية والدولية المترتبة على سوريا، ولا سيما تلك المتعلقة بحقوق الطفل وعدم التمييز على أساس الجنس.
كما يُعاد طرح سؤال جوهري حول مدى ملاءمة الاعتماد المطلق على القرابة الذكورية كضمانة قانونية لمصلحة القاصر، في واقع اجتماعي أظهرت فيه التجربة أن هذه القرابة، في كثير من الحالات، لم تعد عامل حماية بقدر ما تحوّلت إلى عائق إضافي أمام استقرار الطفل وحقه في حياة آمنة ومتواصلة.
ولاية على الورق وأمومة على أرض الواقع
ناديا (طلبت عدم ذكر اسمها كاملا) أم مطلقة منذ تسع سنوات، أوضحت لموقع تلفزيون سوريا أنها وجدت نفسها فجأة في مواجهة قرار قانوني ينسف من وجهة نظرها، سنوات طويلة من التعب والمسؤولية. إذ تتحمّل ناديا منذ طلاقها وحدها مسؤولية تربية ولديها، فهي تعمل موظفة في القطاع الصحي، وتدير تفاصيل حياتهما اليومية، من التعليم إلى الرعاية والإنفاق، بمساندة إخوتها الذين وقفوا إلى جانبها في مواجهة أعباء الحياة.
وقالت "طيلة هذه السنوات أنا وإخوتي حملنا مسؤولية الأبناء كاملة، هم فلذة كبدي وعمري كله لهم واليوم بكل بساطة، وبجرة قلم يتم تجاهل كل هذا التعب وكأنه لم يكن".
كما ترى أن القرار لا يمسّ فقط حقها القانوني، بل يوجّه رسالة خطيرة للطفل حول قيمة الأم ودورها، مضيفة "وصية الرسول كانت أمك، ثم أمك، فهل هكذا نعلّم الطفل تقدير تعب أمه؟ أم نزرع في وعيه أن الرجل قوام دائما على المرأة مهما قدّمت وضحّت؟".
وتطرح ناديا تساؤلات حادّة حول منطق الولاية كما ورد في التعميم، معتبرة أن منح الوصاية لأقارب ذكور بعيدين، مثل ابن أخ الأب، على حساب الأم، أمر يصعب استيعابه، وتقول إن "هذا النهج لا يحمي الأسرة بقدر ما يساهم في تشظّيها وتفكيك روابطها، ويضع الأم تحت رحمة شخص قد لا يعرف ظروف الطفل ولا يراعي مصلحته".
وتضيف "ما الذي يجري، ولماذا تُتخذ قرارات كهذه بحق أسر أنهكتها الحرب أصلًا؟ بدل أن تصدر تشريعات تلزم الأعمام والأقارب بدعم الأم ومساندتها، اليوم تُفرض عليها قيود تزيد من ضعفها وتُشعرها بالإذلال"، وترى ناديا أن ما تحتاجه الأسر اليوم هو قوانين تعزّز التضامن وصلة الرحم، لا نصوص تعمّق الفجوة داخل العائلة الواحدة.
وفي ختام حديثها، توجّه ناديا نداءً مباشرا إلى رئاسة الجمهورية وإلى الجهات المعنية بالقضاء، مطالبة بإعادة النظر في سير القضاء بالعموم وهذه التعميمات بالخصوص، مشددة على أن القرارات القضائية لا تمس أوراقًا وإجراءات فحسب، بل تحدد مصائر أطفال وعائلات كاملة، وقالت "أتمنى أن يسعوا بقوانين تحمي مصلحة أطفالنا بدل تركها رهينة أهواء أشخاص قد يتحكمون في مستقبلهم".
حين يتقدم النص على واقع الأسرة السورية
لا يتوقف أثر التعميم الأخير عند حدود الجدل القانوني أو تفسير النصوص، بل ينعكس مباشرة على حياة أمهات يجدن أنفسهن فجأة أمام قيود تمس استقرارهن واستقرار أطفالهن، ولا سيما الأرامل اللواتي تحمّلن وحدهن تبعات الفقد والمسؤولية.
وفي هذا السياق تبرز قصة هاجر (طلبت عدم ذكر اسمها كاملا) بوصفها نموذجا كاشفا لهشاشة الحماية القانونية التي توفر اليوم للأم والطفل، موضحةً أنها أرملة منذ خمس سنوات، وأن التعميم أعاد فتح مخاوف ظنّت أنها تجاوزتها إلى حد أنها باتت تعيد التفكير بفكرة العودة إلى بلدها.
وقالت في حديثها لموقع تلفزيون سوريا أن زوجها توفي وكان طفلاها التوأم لم يتجاوزا العامين، لتجد نفسها منذ ذلك الحين وحيدة في مواجهة أعباء التربية وتأمين الحياة في ظروف بالغة القسوة "ربّيتهم بدموع العين"، كما أوضحت أنها لم تتزوج بعد وفاة زوجها، وكرّست حياتها بالكامل لطفلها، مضيفة أن استمرارها كان مستحيلًا لولا دعم أهلها.
وتشير هاجر إلى أن معاناتها لم تبدأ مع التعميم الأخير بل منذ لحظة وفاة زوجها، حيث حرمت من أي حق مادي أو إرث، خاصةً أن زوجها كان مطلوبا للنظام المخلوع وأن جميع الممتلكات مسجلة باسم والده، وقالت "تخلوا عني أنا ووألادي وكأنه لم يكن بيننا صلة.. عن أي ولاية يتحدثون"، معتبرة أن تلك اللحظة شكّلت بداية مسار طويل من الاستضعاف وغياب الحماية.
كما ترى أن التعميم لا يقدّم أي ضمانة حقيقية للأرامل أو للأطفال الأيتام، بل يفتح المجال أمام مزيد من التحكم والاستغلال، وقالت "بدل أن يتغيّر القانون لينصف، أصبح أكثر قسوة وبدل أن ينظر إلى المرأة التي تعبت وربّت وسهرت بوصفها أمانة ومسؤولية جماعية، يوضع مصيرها تحت سلطة من قد يستغل ضعفها ويأكل حقها وحق اطفالها".
وتضيف أن المشكلة لا تتعلق بالعاطفة بل بمعارضتها للواقع، معتبرة أن مصلحة طفل قاصر قد تتناقض في كثير من الحالات مع مصلحة قريب بعيد كابن العم أو ابن ابن العم، بل وحتى مع الجد أو العم أحيانا، وقالت "الاحتمالات كثيرة، والواقع مليء بحالات استغلال لأموال الأيتام أو غيرهم وحقوقهم من أقرب الناس إليهم".
وترى هاجر أن ما تحتاجه الأسر اليوم هو تشريعات تعزز التكافل الأسري وتحمي الأم والطفل، لا نصوص تعمّق الانقسامات داخل العائلة الواحدة، وتضيف "كان الأجدر أن يُلزم القانون أقارب الأب بدعم الأم ومساندتها وتحمل جزء من المسؤولية، لا أن تتحول الولاية إلى أداة ضغط تُستخدم ضدها".
وفي رسالة مباشرة توجهها إلى الجهات المعنية، طالبت هاجر بأن يُنظر إلى النساء بوصفهن أمهات وأخوات وبنات، وأن تُدار قضاياهن بروح العدالة والرحمة، "كونوا السند لا سببا إضافيا للانكسار، فهذه قرارات تمس مصائر أطفال وأسر بأكملها".
وفي السياق ذاته، عبّرت رنيم (طلبت عدم ذكر اسمها كاملا) في حديثها لموقع تلفزيون سوريا عن رفضها القاطع للتعميم، معتبرة أن الأم هي الأَولى بالوصاية والحضانة دون منازع، قائلة "الأم هي من حملت وربّت وسهرت وتعبت، ولا أحد أدرى بمصلحة أطفالها منها، فكيف تكون الولاية لصالح أقارب قد لا تجمعهم بالطفل سوى صلة دم بعيدة؟".
وترى رنيم أن القرار يتجاهل الواقع الاجتماعي القائم على اختلالات عميقة في موازين القوة داخل العائلة، ويحمل في طياته خطر تعريض عدد كبير من الأمهات للظلم، متسائلة عن معنى الحضانة إذا جُرّدت الأم من أي سلطة قانونية فعلية.
موضحًة أن المجتمع السوري مليء بحالات أرامل ومطلقات طُردن مع أطفالهن من بيوت عائلات أزواجهن، مشددة على أن مثل هذه القرارات لا تحمي الطفل ولا أمه، بل تغطي على وجع اجتماعي عميق بدل معالجته، ومعتبرة أن أي تشريع لا يضع الأم في موقع الولاية الأولى " لا يخدم مصلحة الطفل، مهما كانت مبرراته".
وجهة نظر مغايرة
في المقابل يرى البعض أن التعميم قد يهدف إلى حماية مصلحة الطفل والحد من إساءة استخدام الولاية في سياق النزاعات الأسرية، يقول حمزة (طلب عدم ذكر اسمه كاملا) في حديثه لموقع تلفزيون سوريا، إن الأم ليست بالضرورة الطرف الأَولى بالوصاية في جميع الحالات، معتبرًا أن هذا الحق يجب أن يكون مرتبطًا بالقدرة على التربية السليمة وتحقيق مصلحة الطفل.
كما يرى أن القرار ينسجم من وجهة نظره مع ما يقره الشرع، معتبرا أن الاعتراض عليه يتجاهل هذا الجانب، ومضيفًا أن مثل هذه التشريعات قد تشكّل عامل ردع يدفع بعض النساء إلى إعادة التفكير قبل الإقدام على الطلاق.
في حين يرفض مصطفى داوود توصيف القرار بالفاشل، مشيرا إلى تجارب في بعض الدول الأوروبية تُمنح فيها الوصاية بشكل مشترك بين الأب والأم، لكنه يلفت إلى ما يصفه بإشكاليات عملية، حيث تُستخدم الولاية أحيانا، وفق رأيه كأداة ضغط أو انتقام بين الطرفين، ما يحرم الأب في بعض الحالات من رؤية أطفاله إلا عبر مسارات قضائية طويلة.
ويؤكد مصطفى أن أي تشريع يجب أن ينطلق من مصلحة الطفل أولا، بعيدا عن الخلافات الشخصية أو الاعتبارات العاطفية، محذرًا من أن إساءة استخدام الولاية من أي طرف قد تنعكس سلبا على الطفل قبل غيره.
وفي السياق نفسه، قدّم محمد الدخيل قراءة مختلفة للتعميم معتبرا أن طرح رأيه يأتي من باب المسؤولية الأخلاقية والشهادة على ما شاهده من حالات في الغربة تعرّض فيها آباء، وفي حالات أكثر أمهات، للظلم والحرمان من أطفالهم.
كما يرى الدخيل أن التعميم ما زال بحاجة إلى مزيد من التوضيح والتحسين بما يحقق مصلحة الطفل أولًا، ثم يحمي الأم في حالات غياب الزوج أو وفاته.
ويشير إلى أن الخلط بين أحكام الشرع والقانون المدني يربك النقاش العام، معتبرًا أن مثل هذه القضايا ينبغي أن تُبحث ضمن أطر قانونية وتشريعية متخصصة لا في السجالات الشعبية.
كما يؤكد أن أي حديث جدي عن تعديل أو تطوير التعميم يفترض استكمال البنية التشريعية، وفي مقدمتها وجود مجلس شعب فاعل بوصفه الجهة المخولة بمناقشة القوانين وإقرارها.
ويختم بالقول إن التعميم بحد ذاته لم يستحدث نصا قانونيا جديدا، بل جاء لتسهيل الإجراءات وتوضيح آليات تطبيق القانون القائم، داعيا إلى الفصل بين النقاش الفقهي والنقاش القانوني وترك كل منهما لأهله.
ما الذي يقوله قانون الأحوال الشخصية السوري؟
وبين الجدل الحقوقي والاعتراضات المجتمعية، يبرز رأي قانوني يرى أن التعميم لا يشكّل تعديلا تشريعيا بقدر ما يعيد التأكيد على قواعد قائمة.
في هذا السياق أوضح المحامي هشام قهوجي في حديثه لموقع تلفزيون سوريا أن قانون الأحوال الشخصية حدّد مفهوم النيابة الشرعية عن الغير بثلاثة أشكال رئيسية، الولاية، والوصاية، والقِوامة، إضافة إلى الوكالة القضائية، وذلك وفق المادة 163 من القانون.
كما بيّن أن الولاية تكون للأقارب من جهة الأب أو غيرهم بحسب الترتيب القانوني، في حين تتعلق الوصاية بالأيتام، والقوامة بالمجانين والمعتوهين والمغفّلين والسفهاء، بينما تُمنح الوكالة القضائية لإدارة شؤون المفقودين.
وأشار قهوجي إلى أن الولاية على القاصر تنقسم إلى نوعين ولاية على النفس، وولاية على المال، وفق المادة 170 من قانون الأحوال الشخصية، وأضاف أن الولاية على النفس والمال تُمنح أصلًا للأب، ثم للجد العصبي من بعده، وهما ملزمان قانونًا بممارستها.
وفي حال عدم وجود الأب أو الجد العصبي، تنتقل الولاية على النفس إلى الأقارب العصبة بالنفس وفق ترتيب الإرث، كما نصّت عليه المادة 21 من القانون، شريطة أن يكون الولي محرمًا على القاصر.
موضحًا أن الولاية على النفس تشمل صلاحيات متعددة من بينها سلطة التأديب، والتطبيب، والتعليم، وتوجيه القاصر إلى مهنة أو حرفة، والموافقة على التزويج، وسائر شؤون العناية بشخص القاصر، وذلك وفق المواد 177 وما بعدها من قانون الأحوال الشخصية.
وفي المقابل أوضح أن الوصاية تختلف عن الولاية، إذ تقتصر على إدارة أموال القاصر دون شخصه وذلك في حال عدم وجود الأب أو الجد العصبي، لافتًا إلى أن القانون يجيز تعيين الوصي من الأقارب أو من غيرهم، وفق شروط محددة نص عليها قانون الأحوال الشخصية.
ويؤكد قهوجي أن التعميم رقم 17 لعام 2025 الصادر عن وزارة العدل لا يُعد تشريعًا جديدًا، بل هو بيان وتوضيح لما ورد أصلًا في قانون الأحوال الشخصية، وأنه لم يسلب الأم أي حق مقرر لها قانونًا، كما لم يمنحها حقوقًا إضافية.
ووفق رأيه فإن التعميم لم يتوسع في تطبيق القانون، ولم يقيّد صلاحيات القاضي الشرعي، وإنما شدد على ضرورة الالتزام بتطبيق النصوص القانونية النافذة.
كما أضاف أن مسألة تعديل القوانين لا تدخل ضمن صلاحيات وزارة العدل أو القضاء، وإنما هي من اختصاص مجلس الشعب، مشيرًا إلى أن قانون الأحوال الشخصية حدّد في المواد 154 وما بعدها أحكام النفقة والجهات الملزمة بها، لذا فإنّ التعميم لم يضف أو يلغي أي مادة قانونية، وإنما سلّط الضوء على المواد المتعلقة بالولاية على النفس، دون أن يتضمن أي مخالفة قانونية.
ومن الجدير بالذكر أن وزارة العدل السورية كانت قد أصدرت تعميما إلى المحاكم الشرعية، قُيّد بموجبه حق الأم في ممارسة الولاية على نفس القاصرين، وحُصرت هذه الولاية بالأب ثم بسلسلة من الأقارب الذكور، بدءا من الجد العصبي، مرورا بالإخوة والأعمام وأبناء العم، مهما بَعُدت صلة القرابة.
وبموجب التعميم لا تُعد الأم حتى وإن كانت الحاضنة والمسؤولة الفعلية عن الطفل، صاحبة صفة قانونية مباشرة في المعاملات المتعلقة بالسفر، أو إصدار جوازات السفر، أو تأشيرات الخروج، أو معاملات الهجرة والجوازات، في حال وجود أي قريب ذكر تنطبق عليه شروط الولاية.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه





