شذى سالم.. سيدة المسرح العراقي رفضتها سعاد حسني ولقبها صلاح أبو سيف “فاتن حمامة العراق”

اختارها المخرج المصري صلاح أبو سيف لفيلم “القادسية”. ومن أول مشهد اعترضت عليها سعاد حسني، لكنه أصر على بقائها، ثم أطلق عليها لقب “فاتن حمامة العراق”.لم تكن حكاية شذى سالم مجرد مسار صعود لفنانة موهوبة، بل سيرة متماسكة لامرأة اتخذت الانضباط المهني والاختيار الفني الصارم هوية شخصية. في بيت فني صاخب بالتجارب والأسماء، ومدارس المسرح والتلفزيون والسينما في العراق، تبلورت صورة ممثلة نادرة، جمعت الدربة الأكاديمية بالغلّة الشعبية، حتى غدت لقبا متداولا: “سيدة المسرح العراقي”.وجه شذى سالم في مرحلة النضوج؛ ملامح هادئة تحمل أثر سنوات من الخشبة والكاميرا والدروس الأكاديمية. لا تحتاج إلى ادعاء لتقول ما تريد، فالعينان تلخّصان مدرسة كاملة في الاقتصاد بالتعبير، وضبط اللغة ومخارج الحروف، التي صارت علامتها المميزةأما صيغ الإطراء الأخرى من نوع “نجمة الفن المحترم”، فلم تأت من فراغ، بل من رصيد اختيارات متميزة، وأداء عربي فصيح، وتواضع لا يخاصم الصرامة.بيت فني وهوى مبكرولدت شذى سالم في بغداد عام 1958 بأسرة فنية معروفة، فأبوها الفنان والكاتب طه سالم (1930-2018)، وعمتها الفنانة وداد سالم (1945-2023). وفي البيت نفسه أسماء ترسخ في محركات البحث والسيرة، منها أختها الصغرى الفنانة سهى، وأخواها الممثل فائز، والموسيقي سامر.لقطة عائلية دافئة من الثمانينيات كما يبدو: شذى سالم إلى جانب أختها سهى، ومعهما أبوهما الفنان والكاتب طه سالم وأمهما، في جلسة حديقة منزلية توثق روح تلك الحقبة بملابسها وألوانها وهدوئها العائليتقول عن نفسها: لو لم يكن أبي في حياتي لما دخلت مجال الفن أصلا، وكان يمكن أن أكون باحثة في التاريخ أو في الآثار.كانت الطفلة شذى ترافق أباها إلى تدريبات “فرقة اتحاد الفنانين” التي أسسها عام 1967، فتتأمل الخشبة، وتراقب تصفيق الجمهور، وتلتقط سر الرجفة الأولى التي تصنع ممثلا.كانت تبهج الطفلة المشاهد، وتحاول مع أخيها عادل وأقرانها من أبناء الفنانين تقليد ما قدمه الفنانون الكبار خلف الكواليس. وكانت عيون المخرج إبراهيم جلال (1921-1991) ترصدهم، فأبدى إعجابه، وأخبر آباءهم بأن لهم مستقبلا واعدا في التمثيل. وقد قال كلمته المأثورة: تعالوا وتعلموا من هؤلاء الأطفال كيف تمثلون أدواركم.وحين أخرج عام 1966 مسرحية “فوانيس” من تأليف طه سالم، أسند إلى شذى إحدى الشخصيات.الممثلة القديرة شذى سالم وشقيقتها الفنانة سهى سالم، ابنتا الفنان الراحل طه سالممن تلك الأجواء أحبت المسرح كثيرا، ورسخ الفن في بالها، فشاركت وهي طفلة في برامج الأطفال في الإذاعة والتلفزيون، وفي “برنامج الورشة” و”مسرح المنوعات”، تمهيدا لأن تكون ممثلة.ومن هذا الحماس كتبت مسرحية بعنوان “البهلوان الحزين”، ثم مثلتْها مع الفنان العراقي حسن حسني، وأخرجها نبيل العزاوي، وقُدمت على مسرح نادي الصيد في مناسبة عن الطفولة، وكانت تلك تجربتها الأولى.اشترك فيالنشرة البريديةاشترك في النشرة البريدية وتابع أحدث أفلامنا الوثائقيةومع ذلك فقد واصلت الاجتهاد في دراستها، فلما أنهت المرحلة المتوسطة وجدت طريقها سالكا نحو معهد الفنون الجميلة، وهي تحمل حبا للتمثيل، وتجربة يسيرة، وحكايات حفظتها من أهلها. وقد دخلت المعهد عام 1975، فوجدت أولى فرصها للوقوف أمام كاميرات التلفزيون.“أعماق الرغبة”تلك الفتاة الجميلة، التي بدأت دراستها في معهد الفنون الجميلة، قد حظيت بتجربة تلفزيونية مهمة، عندما اختارها المخرج إبراهيم عبد الجليل، للمشاركة في ثلاثية عن العالم الإيطالي “غاليليو غاليلي”، لتؤدي دور ابنته.وكان تلك أول بطولة لها في التلفزيون، ثم شاركت في عدد من الأعمال، حتى وصلت إلى المسلسل الذي تسميه “المنعطف الأول” في حياتها، ألا وهو “أعماق الرغبة”، للمخرج محمد يوسف الجنابي (1976)، الذي جسدت فيه شخصية فتاة عراقية، تبحث عن ذاتها، وتريد إثبات وجودها.مشهد من مسلسل “أيام ضائعة” (1980)، الذي أخرجه كارلو هارتيون، وأنتجه تلفزيون العراق، وهو عمل عربي مشترك من بطولة العراقية شذى سالم واللبناني عبد المجيد مجذوبتقول شذى: أعتز بجميع أعمالي الفنية، وأحبها إلي مسلسل أعماق الرغبة”، وهو أول مسلسل عراقي صُور بالألوان، وكان عرضه الأول على شاشة تلفزيون بغداد عام 1976، وعُرض في بلدان عربية عدة، ونال كتابات نقدية مشجعة، ووُضع في لوحة الشرف.فيلم “يوم آخر”كان فيلم “يوم آخر” أول فيلم مثلت فيه شذى سالم، وقد عُرض يوم 9 نيسان/ أبريل 1979 في سينما بابل ببغداد. ويقول المؤرخ السينمائي مهدي عباس إنها لم تكن بطلة الفيلم، وإن الدور أتاها صدفة، فأبدعت فيه ونالت إعجاب الجميع.كانت البطلة شابة اختارها المخرج صاحب حداد، وبعد تصوير مشاهد عدة أصابتها رهبة الكاميرا، فتركت التصوير، فأصبح المخرج في حرج، فقال له الراحل صادق علي شاهين، وهو مدير الإنتاج: هناك فتاة موهوبة هي ابنة الفنان طه سالم.فلما طلب المخرج لقاءها، اتصل شاهين بأبيها، فاشترط أن يرافقها إلى الموصل، وقد حضرت مع أبيها، فلما اختبر المخرج أداءها قال: هي المناسبة.وقد نالت عن الدور جائزة أفضل ممثلة سينمائية عراقية، وأصبح اسمها بارزا، ثم توالت أعمالها في أفلام أخرى، منها:
“حمد وحمود” (1986)، للمخرج إبراهيم جلال، وقد قدمت فيه أغنية ثنائية مع المطرب أحمد نعمة.
“صخب البحر” (1987)، للمخرج صبيح عبد الكريم.
“زمان رجل القصب” (2003)، للمخرج عامر علوان.
فيلم “القادسية”تقول شذى إن بدايتها الحقيقية كانت في فيلم “القادسية”، الذي أُنيط تنفيذه بالمخرج المصري الشهير صلاح أبو سيف، وهو تعاون عراقي مصري، أنتجته دائرة السينما والمسرح العراقية، وعُرض أول مرة عام 1981.خلال الحرب العراقية الإيرانية، قررت مؤسسة السينما العراقية في بغداد إنتاج فيلم تاريخي عن معركة القادسية. وأسند الإخراج إلى المخرج المصري العريق صلاح أبو سيف، فصدر فيلم “القادسية” عام 1981. يجسد العمل دراما تاريخية لوقائع المعركة الفاصلة عام 15هـ، بين الجيش الإسلامي بقيادة سعد بن أبي وقاص، والجيش الساساني بقيادة رستم فرخزاد، وهي معركة فتحت الطريق أمام فتح بلاد فارس.وقد اختارها المخرج صلاح أبو سيف لتؤدي دورا صغيرا كسائر الأدوار النسائية، فلما اعتذرت سعاد حسني عن دور زوجة القائد سعد بن أبي وقاص، أُسند الدور إلى شذى.ويُروى أن المخرج رشح سعاد أولا لدور مجاهدة تتزوج سعد بن أبي وقاص، لكنها فضلت دور فتاة فارسية تتجسس على العرب، فأسند الدور الذي اعتذرت عنه إلى شذى سالم.مشهد من فيلم “القادسية” (1981)، تظهر فيه النجمة المصرية سعاد حسني مع نجمة العراق شذى سالم، حوار مكثف ونظرات تقول ما يعجز عنه الكلام، في عمل مشترك عراقي مصري أعاد سرد وقائع المعركة الفاصلةومع أول مشهد جمع سعاد وشذى، انزعجت سعاد واعترضت على وجود هذه الممثلة الشابة أمامها. يصف المخرج صلاح أبو سيف ما حدث قائلا: تأخرت شذى في ردها بحوار مشهد جمعهما، فأمرتُ بإيقاف اللقطة وأعلنت موافقتي عليها، وفي ذهني معالجة القصور في المونتاج، ولم يعجبني تدخل سعاد على نحو يوحي بأنني أنتظر منها التوجيه.صحيفة عراقية توثق تغطية تصوير فيلم “القادسية” في بغداد مطلع الثمانينيات؛ العنوان الرئيسي يصدح: “القادسية أضخم فيلم سينمائي تنتجه السينما العربية”. تعكس المادة حماسة الإنتاج العراقي المصري المشترك بقيادة المخرج صلاح أبو سيف، وحجم المشاهد الحربية والآلاف من الكومبارس والخيالة والأزياء التاريخية، مع مشاركة نجوم عرب بارزينوقد وصف المخرج أداء شذى بقوله: كانت تؤدي الدور بمهارة ملحوظة، وتميزت بدقة مخارج الحروف العربية، وكان إلقاؤها باللغة العربية أقرب إلى الموسيقى، ساعدها على ذلك أنها ممثلة مسرح في الأصل.وتقول إنها لقيت فيما بعد سعاد حسني في القاهرة، فأثنت على أدائها.صفعة عزت العلايليسُئلتُ في حوار صحفي: من ضربك من قبل ولماذا؟ فأجبتُ: لم أُضرب في حياتي، لكنني في الأعمال الفنية صُفعتُ كثيرا، وأشدها مع الفنان عزت العلايلي في “القادسية”، فقد تكررت اللقطة 14 مرة بسبب الإعادة، وكان يصفع بقوة، حتى تورم خدي، وتوقف التصوير حتى عولجت.كان المشهد أن سعد بن أبي وقاص (الممثل عزت العلايلي) لم يشترك بالمعركة، حتى إن امرأته “سلمى” (شذى سالم) التي كانت عند المثنى بن حارثة الشيباني قالت: “وامُثنياه! ولا مثنى للخيل بعدك”، فصفعها.وتقول: ظل يصفعني بقوة من زوايا عدة، حتى قال له صلاح أبو سيف: تكفي الصفعة الأولى حقيقية، والباقي نختاره من زوايا لا تستلزم الجدية، فلم يمتثل. فانفلتت أعصاب أحد الزملاء، ونشب عراك، فتوقف التصوير.الممثل المصري عزت العلايلي يجسد دور سعد بن أبي وقاص في فيلم “القادسية” (1981)، قائد المعركة الفاصلة التي مهدت لفتح بلاد فارس.وتتذكر صفعات أخرى، فتقول: في أحد المسلسلات، كان يفترض أن يصفعني الفنان محسن العلي، ونحن على حافة مسبح فندق المنصور. فقلت له: لا تؤلمني، وسأساعدك ليبدو المشهد واقعيا. وكنت أضع قرطا ذهبيا، فضرب بقوة حتى شق شحمة أذني، وطيّر القرط في المسبح، وعند نهاية المشهد هممتُ بمعاقبته، لكنه توارى.“فتاة في العشرين”ما زال الناس يذكرونها باسم “نهاد”، وهو اسم شخصيتها في مسلسل “فتاة في العشرين”، للمخرج عمانوئيل رسام (1979)، وكان عمرها آنذاك 20 عاما، وقد قدّمها المسلسل للجمهور ورسخ حضورها، مع أن لها تجارب سابقة.شذى سالم على غلاف مجلة فنون، في ذروة صعودها الجماهيري.تقول: السر في جرأة الطرح حينها، فشخصية “نهاد” فتاة عشرينية متمردة على واقعها الاجتماعي وعلى نفسها، معتزة بكرامتها، تعيش في أسرة محافظة، وترفض الزواج الإجباري من ابن العم. أحب الجمهور هذه المفارقات، وتعلق بأحداث المسلسل فنجح، وكان ذلك سر نجاحي فيه.سيدة المسرحلا خلاف على هذا اللقب، فأعمالها المسرحية علامات فارقة في تاريخ المسرح العراقي، ابتداء من مسرحيات الطفل، مثل:
“جيش الربيع” (1976)، للمخرج إسماعيل خليل.
“النجمة البرتقالية” (1978)، للمخرج محسن العزاوي.
“بدر البدور وحروف النور” (1979)، للمخرج منتهى محمد رحيم.
لقد كانت تجهد وتجتهد في اختيار أدوارها وتجسيدها بعناية، فنالت الجوائز واستقطبت الجمهور. ومن أعمالها المسرحية:
“دعوة بريئة للحب” (1993)، للمخرج محسن العزاوي.
“مائة عام من المحبة” (1996)، للمخرج فاضل خليل.
“الجنة تفتح أبوابها متأخرة” (1999)، للمخرج محسن العلي.
“نساء في الحرب” (2004)، للمخرج كاظم النصار.
“العرس الوحشي” (2006)، للمخرج أحمد حسن موسى.
“مكاشفات” (2016)، للمخرج غانم حميد.
“جنون الحمائم” (2023)، للمخرجة عواطف نعيم.
“سيرك” (2025)، للمخرج جواد الأسدي، الذي فازت فيه بجائزة أفضل ممثلة في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي عام 2025، وقد بلغت من العمر 67 عاما.
مسرحية “جنون الحمائم” مستلهمة من “سوء تفاهم” لألبير كامو. تحكي عودة حسان بعد عشرين عاما فلا تعرفه الأم “عواطف نعيم “ولا الأخت “شذى سالم”. تتواطآن مع الخادم الأعرج “عزيز خيون” على تخدير نزلاء الفندق بأقراص منوّم توضع في الشاي، ثم سلب أموالهم والتخلص من جثثهم بإلقائها في نهر دجلةسألتُها: كيف تصنعين إن قاطعك أحد وأنت على الخشبة؟قالت: حدث ذلك في مسرح الرشيد في “دعوة بريئة للحب”، فقد تحدث بعض المشاهدين باستهزاء. فوقفت صامتة أنظر إليهم 5 دقائق، فخجلوا وخرجوا. الممثل يحترم مشاعر الجمهور، وما هو غير لائق لا مكان له في المسرح الصحيح.غيابانشهدت مسيرة شذى سالم غيابين طويلين. الأول عام 1987، وتقول إنها تأنّت 7 سنوات بسبب الدراسة، التي كانت مرفأ لاستعادة أشياء كثيرة، وظلت متصلة بالوسط الفني، ثم عادت إلى المسرح بمسرحية “دعوة بريئة للحب” عام 1993. وقد قالت إن الارتباط الأكاديمي أثراها، وطوّر إمكاناتها، وانعكس على إنتاجها.شذى سالم.. أناقة النضج وحضور سيدة المسرح العراقيثم غابت غيابها الثاني عام 2011، فتوارت عن الأنظار تسع سنوات، ثم عادت بمسلسل “يسكن قلبي” في موسم رمضان 1441 (الموافق 2020)، وتبرر: لم أجد العمل الذي يتوافق مع طموحي وتطلعاتي.الوجه الآخرفي حوار شخصي معها كشفت ملامح إنسانيتها، فهي منظمة جدا في حياتها، عاطفية وعقلانية في آن. ترتاح إلى العزلة أحيانا، ولا سيما حين تقبل على عمل جديد، فتكون شديدة القلق، لأنها تحب اكتمال الشروط.شذى سالم في لقاء صحفي مع عبد الجبار العتابي، يصغي إلى حديثها ويدوّن ملاحظاته، وهو كاتب هذا المقال عنها.وهي ترى أن على الإنسان أن يقلق ليحسن السيطرة على أموره، مع أنها لا تخاف شيئا، وتدرك أن كل شيء محتوم على الإنسان. وهي تحزن لطبيعة الحياة القاسية، والإنسان العراقي -كما تقول- يحمل قدرا من الحزن. وهي واثقة بالنفس، قادرة على الاحتواء. وهي لا تحب التمثيل في الحياة اليومية، بل تفضل المظهر البسيط. أحيانا تفكر بعد فوات الأوان، لا سيما في الفرص الفنية خارج العراق.لا يميل مزاجها إلى المنافقين وذوي الوجوه المتعددة. تؤمن بقوله تعالى: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾. تحب شخصية الملكة سميراميس، لكنها تأسف لقلة المصادر عنها. تنظر إلى الدنيا بتأمل، وبعين مفعمة بالتفاؤل حين تصحو مبكرة.وقد واصلت دراستها الجامعية في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد، ثم نالت الماجستير بدرجة امتياز، فالدكتوراه. وهي حاليا أستاذة “الأدب المسرحي” في قسم التربية الفنية بكلية الفنون الجميلة، وقد نالت حديثا منصب عميدة كلية الفنون الجميلة في جامعة دجلة.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه




