الغيطة الليبية.. موسيقى “هارد روك” محلية بجذور من أفريقيا

في زاوية منسية من خريطة الموسيقى العالمية، ثمة فن إيقاعي ليبي يُدعى “الغيطة” ظل لعقود حبيس حدوده المحلية، رغم أنه يحمل في طياته إرثاً موسيقياً يمتد جذوره إلى أعماق القارة الأفريقية، ويتقاطع في سماته الجوهرية مع أكثر أنماط الموسيقى الغربية صخباً وعنفاً. إنه فن يجسد تلك اللحظة الفريدة حين تلتقي إيقاعات الساحل الأفريقي بنداءات البحر المتوسط، لتنتج توليفة فنية لا نظير لها.حين يصف الباحثون الغيطة بأنها “الهارد روك الليبي”، فإنهم لا يبالغون ولا يجاملون؛ بل يشيرون إلى حقيقة إثنوموسيقية (أي دراسة الموسيقى بوصفها ظاهرة ثقافية واجتماعية، لا مجرد ألحان ونغمات) أن كلا الفنين، الغيطة في صحارى ليبيا والهارد روك في الولايات المتحدة، ينهلان من ذات النبع الأفريقي القديم، وإن اختلفت الآلات وتباينت السياقات.جينات موسيقية أفريقية – الدنقة: الجد الأفريقي للغيطةتؤكد المصادر التاريخية أن الغيطة لم تولد من فراغ، بل تطورت من رقصة أفريقية قديمة تُدعى “الدنقة”. وقد حملها إلى ليبيا أبناء الساحل الأفريقي الذين استقروا في مدينة بنغازي، وتحديداً في منطقة “زرائب الصابري”، حيث تشكلت نواة هذا الفن في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين.لكن جذور الغيطة أعمق من ذلك بكثير. فثمة روايات تؤرخ لوجود هذا النمط الإيقاعي في مدينة طبرق منذ قرون أربعة خلت. وهذا التضارب الجغرافي والزمني لا يُلغي أياً من الروايتين، بل يؤكد أن الغيطة تمثل “تياراً موسيقياً مفتوحاً” في المنطقة الشرقية من ليبيا، تراكمت طبقاته الثقافية عبر العصور.النداء والاستجابة: الشفرة الأفريقية المشتركةتقوم بنية الغيطة الأدائية على نظام “النداء والاستجابة” (Call and Response) ، وهو ذات النظام الذي يشكل العمود الفقري للموسيقى الأفريقية منذ آلاف السنين. في هذا النظام، يُطلق “المسارك” أو “المنشد” نداءه الأول، فتتلقفه مجموعة “الكومبارس” بالرد الجماعي، مخلقةً حالة من التفاعل الإيقاعي الحي.هذه البنية ليست حكراً على الغيطة الليبية. إنها ذاتها التي نجدها في أغاني العمل في حقول القطن الأمريكية، وفي الروحانيات الزنجية التي ولّدت البلوز، ومن ثم الروك آند رول والهارد روك. إنها الشفرة الجينية المشتركة التي تربط موسيقى السود في كل مكان.المسار الأمريكي: السلم الخماسي: الميراث الأفريقي في أمريكاحين وصل الأفارقة مقيدين بالسلاسل إلى شواطئ العالم الجديد، حملوا معهم ما لا تستطيع السلاسل تقييده: إرثهم الموسيقي. السلم الخماسي (Pentatonic Scale) الذي تأسست عليه موسيقى غرب أفريقيا لآلاف السنين، انتقل معهم ليصبح الأساس الذي بُني عليه البلوز الأمريكي.يشير الباحث الإثنوموسيقي غيرهارد كوبيك إلى أن هذا النظام السلمي الأفريقي الذي يشكل جذر البلوز يعود إلى آلاف السنين في ثقافات زراعة الدخن في منطقة السافانا بغرب أفريقيا. وقد تمازج هذا الإرث مع عناصر عربية-إسلامية — خاصة تقنية الميليسما في الغناء — ليُنتج ذلك الصوت المميز للبلوز.الإيقاع السداسي الأفريقي وولادة الروكوكما أوضح عازف الجاز الشهير وينتون مارساليس في محاضرته بجامعة هارفارد عام 2011، فإن إيقاع “الشافل” (Shuffle Beat) الذي يميز البلوز الأمريكي الأفريقي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالإيقاع الأفريقي 6/8. كذلك فإن الإيقاع 12/8 الشائع في البلوز والروك والبوب والفانك يحمل سمات أفريقية واضحة، كما يؤكد الباحثون في الإثنوموسيقى.من هذا الرحم الأفريقي-الأمريكي وُلد الهارد روك في ستينيات القرن العشرين. فرق مثل ليد زيبلين وديب بيربل وكريم لم تكن تبتكر من فراغ، بل كانت تُعيد صياغة الإرث الأفريقي المتجسد في البلوز بقالب أكثر صخباً وعنفاً.الغيطة والهارد روك — توأمان من رحم أفريقيالعنف الإيقاعي: السمة المشتركة: حين يصف المحللون إيقاع الغيطة بـ”العنف الشديد”، فإنهم يُشيرون إلى خاصية جوهرية تجعلها قابلة للمقارنة وظيفياً بالهارد روك الأمريكي. كلاهما يسعى إلى تحقيق أقصى قدر من التأثير الصوتي والجسدي، وإن اختلفت الآلات المستخدمة.في الغيطة، تتضافر الطبلة الكبيرة والدربوكة والدف مع التصفيق الجماعي “العنيف والسريع” للكومبارس لخلق كثافة صوتية هائلة. هذا التكامل بين الإيقاع الآلي والإيقاع البشري يُنتج ما يمكن وصفه بـ”مضاعف القوة” الصوتية، تماماً كما تفعل المضخمات الكهربائية والدرامز المكثفة في الهارد روك.موسيقى الشباب الذكور: قاسم مشترك آخرثمة تشابه سوسيولوجي لافت: كلا الفنين يُصنّف تقليدياً بوصفه “موسيقى للشباب الذكور”. الغيطة في سياقها الليبي تُؤدّى في مناسبات الزّفّة والاحتفالات الرياضية، حيث تتجمع جموع الشباب للتعبير عن الفخر والقوة الجماعية. والهارد روك في سياقه الغربي نشأ أيضاً بوصفه تعبيراً عن طاقة الشباب المتمردة.هذا التشابه ليس صدفة، بل يعكس وظيفة مشتركة: كلا الفنين يُوفّر متنفساً للطاقة الشبابية المكبوتة، ويُجسّد رغبة في التعبير عن الذات بأقصى كثافة ممكنة.الجسر المغاربي — موسيقى الغناوة والصوفيةالغناوة: الأخ المغربي للغيطة: لا يمكن فهم الغيطة الليبية بمعزل عن سياقها المغاربي الأوسع. ففي المغرب، تزدهر موسيقى “الغناوة” التي تشترك مع الغيطة في جذورها الأفريقية السوداء. كلاهما نشأ في أوساط السود الذين جُلبوا من منطقة الساحل الأفريقي — من إمبراطورية سونغاي وشعوب الهاوسا والفولاني والبامبارا.وكلاهما وظّف الموسيقى في طقوس الشفاء والنشوة الروحية. الغناوة في طقوس “الليلة” تستخدم الإيقاع المتكرر لاستحضار الأرواح والوصول إلى حالة الجذب. والغيطة في بنغازي دخلت الطقوس الصوفية عبر مزارات الصوفية، حيث تُستخدم كثافتها الإيقاعية في مراحل محددة من الحضرة تتطلب استحثاث النشوة الجماعية.الآلة الأم: الغيطة/الرايتةتجدر الإشارة إلى أن اسم “الغيطة” في ليبيا يُطلق على النمط الموسيقي الإيقاعي، بينما في المغرب والجزائر تُسمّى الآلة النفخية ذات القصبة المزدوجة بـ”الغيطة” أو “الرايتة”. هذه الآلة — التي تشبه المزمار الغربي — تُستخدم في الاحتفالات والأعراس والطقوس الصوفية عبر المغرب العربي، من المحيط إلى الصحراء.يصفها الموسيقيون بأنها تُنتج صوتاً حاداً ومخترقاً قادراً على حمل المسافات البعيدة، وهي ذات خصائص روحانية في الموسيقى الصوفية. استُخدمت هذه الآلة حتى في موسيقى هوليوود، حيث وظّفها الموسيقار هوارد شور في موسيقى “سيد الخواتم” لخلق أجواء موردور الدرامية.بلوز الصحراء — حيث تلتقي الخيوطتيناريوين وصونغوي بلوز الدليل الحي: لمن يشكك في العلاقة بين موسيقى الصحراء الأفريقية والبلوز/الروك الأمريكي، تكفيه نظرة واحدة إلى ظاهرة “بلوز الصحراء” (Desert Blues) أو “روك الصحراء” كما يُسمّى أيضاً. فرق مثل “تيناريوين” من مالي و”صونغوي بلوز” و”مدو مختار” — الذي لُقّب بـ”هندريكس الصحراء” — تُقدّم دليلاً سمعياً على أن الموسيقى الأفريقية التقليدية هي السلف المباشر للبلوز والروك.هذه الفرق التي نشأت في منطقة الساحل — بين مالي والنيجر وليبيا والجزائر — تمزج إيقاعات الطبل التقليدي مع الجيتار الكهربائي، مُنتجةً صوتاً يُثبت بلا أدنى شك أن البلوز والروك ليسا اختراعاً أمريكياً، بل هما إعادة صياغة لإرث أفريقي أقدم بكثير.الغيطة في هذا السياقتقع الغيطة الليبية في منتصف هذه الجغرافيا الموسيقية تماماً. فليبيا — وخاصة منطقة برقة — تمثل نقطة التقاء بين عالمين: عالم الساحل الأفريقي جنوباً، وعالم البحر المتوسط شمالاً. وقد امتصت الغيطة من كليهما، محتفظةً بالكثافة الإيقاعية الأفريقية، مع إضافة لمسات من التأثيرات العربية والمتوسطية.فرقة شباب أجدابيا — إعادة الهندسة المعاصرةمن الأداء الشفاهي إلى الإنتاج الرقمي: في العقود الأخيرة، برزت “فرقة شباب أجدابيا” كمهندس ثقافي أعاد تشكيل فن الغيطة للعصر الرقمي. لم تكتفِ الفرقة بالأداء التقليدي، بل أدخلت آلة “الأورغ” الإلكترونية لتوفير خلفية لحنية وهارمونية كانت مفقودة في الغيطة التقليدية.هذا التحديث لم يُفقد الغيطة هويتها، بل ضاعف قدرتها الصوتية ومكّنها من الانتقال من الساحات الصغيرة إلى الحفلات الكبرى. الأورغ يوفر نغمات مُضخّمة تحاكي قوة الزكرة التقليدية، لكن بمستوى كثافة أعلى يناسب التجمعات الحديثة.توسيع الوظيفة الاجتماعيةوالأهم من التحديث الآلي هو التوسع في الوظيفة الاجتماعية. فبينما كانت الغيطة تقليدياً حكراً على الأعراس والاحتفالات الرياضية، وسّعت فرقة شباب أجدابيا نطاقها ليشمل مناسبات جيل الألفية الجديدة — وعلى رأسها احتفالات التخرج الجامعي.أغانٍ مثل “باي باي يا كلية” جعلت من الغيطة “موسيقى عبور” (Rite of Passage Music) تحتفي بانتقال الشباب من مرحلة إلى أخرى. وبذلك صارت الغيطة تعبيراً عن الهوية الشبابية المعاصرة، لا مجرد إرث فلكلوري متحفي.ما وراء الحدودقصة الغيطة الليبية هي في جوهرها قصة عن قدرة الموسيقى على عبور الحدود — الجغرافية والزمنية والثقافية. من رقصة “الدنقة” الأفريقية، إلى زرائب الصابري في بنغازي، إلى استوديوهات التسجيل الحديثة، حافظت الغيطة على جوهرها الإيقاعي العنيف، بينما تكيّفت مع كل سياق جديد.وحين ندرك أن هذا الفن الليبي المحلي يشترك في جذوره مع البلوز والهارد روك الأمريكي، ومع موسيقى الغناوة المغربية، ومع بلوز الصحراء في مالي والنيجر — ندرك أننا أمام ظاهرة أكبر بكثير من مجرد فن شعبي محلي. نحن أمام تيار موسيقي أفريقي عابر للقارات، وجد تجلياته المتعددة في كل مكان حلّ فيه أبناء أفريقيا.ربما آن الأوان أن تخرج الغيطة الليبية من عزلتها، وأن تُقدَّم للعالم بوصفها جزءاً لا يتجزأ من هذا الإرث الموسيقي الأفريقي العظيم. فكما أثرت موسيقى الغناوة في موسيقيين غربيين من برايان جونز إلى روبرت بلانت وجيمي بيج، قد تجد الغيطة يوماً طريقها إلى آذان العالم، حاملةً معها صدى الصحراء وإيقاعات القارة السمراء.“في كل نقرة طبل ليبية، صدى لأجداد عبروا الصحراء قبل قرون، وفي كل موجة هارد روك أمريكية، ذات الصدى يتردد”.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
اقرأ أيضاً




