معجم الدوحة التاريخي.. من المعنى إلى الزمن: ثورة لغوية في خدمة العربية
انطلق اليوم الإثنين، بشكل رسمي، معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، مشروع كبير ومهم وملهم نفّذه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بتمويل كامل من الحكومة القطرية، على الشكل الذي وُلد به معجم أكسفورد التاريخي للغة الإنكليزية في القرن الثامن عشر، وقد كانت هناك محاولات عدة لتنفيذ هذا المشروع في مصر بعد تأسيس مجمع اللغة العربية في ثلاثينيات القرن الماضي، وفي تونس بعد ذلك، ولكن الفكرة لم تكتمل.
صحيح أن هذه المشاريع تحتاج إلى مال وفير وكثير، ولكن الأهم هي النية والمثابرة والفكرة الطموحة والتصميم للوصول إلى التنفيذ، والذي أخذ جهداً استمر على مدار 13 عاماً من العمل الدؤوب حتى الوصول إلى نضوج العمل وصيغته النهائية.
وفي الحقيقة، فالمشروع واحد من أكبر المشاريع المعنية بتاريخ اللغة العربية، فهو ليس جائزة أدبية ولا تكريم جهد فردي، بل يحمل بين دفتيه تاريخ الألفاظ العربية مكتوباً بالزمن والدلالة، ويوثّق مسار الكلمات عبر قرون طويلة من الاستعمال والتحوّل حتى وقتنا الراهن.
ويضمّ المعجم في بوابته الإلكترونية الضخمة، بعد اكتماله، عدداً هائلاً من الألفاظ يصل إلى أكثر من 300 ألف مدخل معجمي، وقرابة 10 آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة، إلى جانب ببليوغرافيا تضم أكثر من 10 آلاف مصدر، مما يجعله من أوسع المعاجم التاريخية العربية من حيث التغطية الزمنية والمادة العلمية.
ولعلّ السؤال المطروق: ما هو الفرق بين المعاجم الموجودة والمعجم التاريخي؟ والحقيقة أن المعجم التقليدي يركّز على شرح معاني الكلمات وضبط استعمالها في زمن معيّن، فيقدّم اللفظ بدلالته الشائعة أو الصحيحة، ويهدف أساساً إلى مساعدة القارئ على الفهم والاستعمال اللغوي السليم، دون تتبّع تطوّر الكلمة عبر العصور.
أما المعجم التاريخي فيتجاوز هذا الدور الوصفي، إذ يُعنى بتأريخ الكلمة، فيسجّل أول ظهور لها، وتحوّلاتها الصوتية والبنيوية والدلالية، وتغيّر استعمالها عبر الزمن، مع توثيق ذلك بالشواهد النصية وتحديد السياقات الاجتماعية والعلمية والحضارية التي استُخدمت فيها.
وبذلك يكون المعجم التقليدي، كالعين ولسان العرب والقاموس المحيط وتاج العروس وجمهرة اللغة، ليجيب عن سؤال: ماذا تعني الكلمة؟ أما معجم الدوحة التاريخي للغة العربية فمهمته أن يجيب عن سؤال: كيف ومتى ولماذا تغيّر معنى الكلمة؟
تأسّس معجم الدوحة التاريخي للغة العربية في الـ25 من أيار 2013 في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بإشراف مدير المركز الدكتور عزمي بشارة، ونخبة من العلماء والباحثين العرب مثل العالم المعجمي الدكتور رمزي البعلبكي، ويدير المعجم تنفيذياً منذ تأسيسه العالم اللساني الدكتور عز الدين البوشيخي، الذي يشرف على هيئة تنفيذية تضم نخبة مختارة من خبراء اللغة والمصطلح داخل الدوحة وخارجها، بالإضافة إلى نخبة من خبراء الحوسبة والتقنيات الحديثة.
ويهدف المعجم إلى رصد ألفاظ اللغة العربية، مقرونة بمعانيها وشواهدها وتواريخ استعمالها وأسماء مؤلفيها، منذ ظهورها في النصوص حتى عصرنا الراهن.
وقد جرى العمل في بناء المعجم على انتقاء المصادر واختيار أفضل الطبعات، وتأريخ النصوص (شعر، ورجز، ورسائل، وخطب، وترجمات، ومؤلفات في شتى التخصصات، ونحو ذلك)، وهيكلتها وتوسيمها واستخلاص الألفاظ منها مربوطة بسياقاتها.
تتميّز العربية عن بقية لغات العالم بأنها من اللغات الحية التصويرية للكلمة، مليئة بالحس والروح والموسيقى والبيان والمعنى، ومئات الاشتقاقات بتصريفات ومدلولات.
وحفظ القرآن الكريم اللغة العربية وحماها من الضياع أو الاندثار، فبقيت ولم تندرس كما اندرست مئات اللغات الأخرى عبر الزمن، محافظة على بريقها وتصاويرها وتميّزها وبلاغتها وبيانها.
وقد تزامن إطلاق المنصة الإلكترونية للمعجم مع اليوم العالمي للغة العربية، الذي يوافق يوم 18 كانون الأول/ ديسمبر من كل عام، وهو اليوم الذي يُعترف فيه بفضل هذه اللغة تاريخياً وأممياً.
تكمن أهمية معجم الدوحة التاريخي في أنه يعيد بناء الذاكرة اللغوية للأمة، ويكشف الصلة العضوية بين تطوّر اللغة وتطوّر الفكر والحضارة. فمن خلاله يمكن للباحث أن يقرأ تاريخ العلوم، وأنماط التفكير، والتحولات الاجتماعية، لا بوصفها أحداثاً منفصلة، بل بوصفها منعكسة في اللغة ذاتها. كما يقدّم المعجم أداة علمية دقيقة للباحثين في مجالات اللسانيات، والتاريخ، والدراسات القرآنية، والفقه، والترجمة، ويضع العربية في مصاف اللغات العالمية التي تمتلك معاجم تاريخية رصينة.
إلى جانب ذلك، يسهم المعجم في حماية العربية من الفوضى الدلالية وسوء التأويل، عبر ضبط المعاني في سياقها الزمني، والتمييز بين الدلالات الأصلية والمستحدثة. وهو بذلك لا يخدم الماضي فحسب، بل يدعم حاضر اللغة ومستقبلها، ويشكّل ركيزة أساسية لأي مشروع نهضوي ينطلق من الوعي باللغة بوصفها أداة معرفة وهوية وحضارة.
ويتميّز معجم الدوحة التاريخي للغة العربية بتعدّد بواباته الرقمية، التي لا تقتصر على عرض المادة المعجمية، بل توفّر أدوات بحث علمية متقدمة تخدم الباحث والقارئ العام. ومن أبرز بواباته:
تُعد البوابة الرئيسة، وتتيح البحث في المداخل المعجمية، مع تتبّع تاريخ الكلمة منذ أقدم استعمال موثّق لها، ورصد تطوّر بنيتها ومعانيها عبر العصور، مدعومة بالشواهد النصية المؤرَّخة.
تمكّن المستخدم من استعراض الجذر اللغوي وما تفرّع عنه من ألفاظ، مع بيان العلاقات الاشتقاقية بينها، وتطوّر استعمال الجذر ودلالاته في السياقات المختلفة عبر الزمن.
بوابة مصادر المعجم
توفّر معلومات دقيقة عن المصادر المعتمدة في بناء المعجم، من كتب تراثية ونصوص أدبية وعلمية ودينية، مع توثيقها زمنياً، مما يتيح التعرف على الأساس العلمي والمنهجي الذي بُنيت عليه المادة المعجمية.
بوابة المدونة اللغوية
تتيح الوصول إلى مدونة نصية ضخمة تضم نصوصاً عربية من عصور متعددة، جرى توثيقها ومعالجتها حاسوبيّاً، وتُعد أداة أساسية للبحث اللغوي والتاريخي، وربط الألفاظ بسياقاتها الأصلية.
بوابة الإحصاءات
تقدّم معطيات رقمية حول تواتر الألفاظ والجذور، وانتشارها الزمني، وتراجعها أو شيوعها في فترات تاريخية معيّنة، بما يخدم الدراسات اللسانية الكمية والتحليل التاريخي للغة.
وبذلك يكون هذا المشروع إنجازاً معرفياً يُسجَّل باسم كل عربي ومسلم، وأي شخص مهتم بهذه اللغة البديعة، يتعرّف على تاريخ الكلمة وجذرها وزمن استخدامها وتطوّرها، وكيف يمكن للأمة أن تتقرّب من تاريخ لغتها أكثر من خلال الاهتمام بالاستثمار في المعرفة، التي تُعد نتاجاً حضارياً وثقافياً أصيلاً لا طارئاً، غارقاً في التاريخ والزمن والمعنى والمغزى أيضاً. فالشكر لكل من ساهم في إتمام هذا العمل، وعمل جاهداً ليرى النور، ويستفيد منه بنو البشر على تنوّعهم واختلاف أشكالهم وألوانهم ومشاربهم.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه





