وثائقي “السيد سكورسيزي”.. بورتريه حميم ومعقد لأحد أهم مخرجي السينما في كل العصور

“هناك فقط “مارتن سكورسيزي” واحد وهو حجر أساس في هذا الفن الذي اسمه السينما. لم يكن هناك شخص مثله ولن يكون هناك شخص مثله مرة أخرى”.
“ستيفن سبيلبرغ” في مسلسل “السيد سكورسيزي”.منذ اللحظة الأولى تخبرنا المخرجة “ريبيكا ميلر” بما تسعى بإثره في مسلسلها “السيد سكورسيزي” حين تضيف للعنوان الرئيسي آخر فرعيا “بورتريه فيلمي” (Film Portrait). ترسم حكايات “مارتن سكورسيزي” عن نفسه، وما يقصه أصدقائه ومحبيه عنه، الى جانب حكايات أفلامه وكواليسها بورتريها معقدا وحميميا لواحد من أعظم صانعي الأفلام على مر العصور، وربما أيضا أعظم عاشق للسينما على قيد الحياة اليوم.ما صُمّم بالأساس كمحادثة بين “ميلر” و”سكورسيزي” تسمح للجمهور برؤية مباشرة لخياراته الإبداعية ودوافعه الفنية صار عملا عن حياة الرجل وشخصيته الإنسانية والفنية.لقطة لـ”تشارلي” من فيلم “شوارع وضيعة” وهو بين البار حيث عالم الخطيئة، وفي الكنيسة”ما تفعله هو التعمق في أرشيف “سكورسيزي” ، مُستكشفة طفولته، وعائلته، وأصدقائه، ومحبته للسينما قبل أن تنتقل إلى مسيرته الطويلة الحافلة بالنجاحات والإخفاقات. ولا يلقى المسلسل ضوءه على إخفاقات مهنته فقط بل على ظلاله الشخصية مثل نوبات غضبه العنيفة وعلاقته المضطربة بالمرأة وصراعه مع الإدمان.اقرأ أيضا list of 4 itemslist 1 of 4“فرانسيس فورد كوبولا”.. مسيرة متوجة بالجوائز وأحلام مغامرةlist 2 of 4“جولييت بينوش”.. لقطة مقربة لأجمل امرأة في السينماlist 3 of 4فيلم “طوفان”.. مأساة مفعمة بالأمل عن قطة تواجه فناء العالمlist 4 of 4المخرج الايطالي “باولو سورينتينو” يتأمل مدينته وذاته والوجود الإنساني..في فيلمه” الجمال العظيم”end of listومثل سينما “سكورسيزي” لا تتجنب “ميلر” في عملها الجوانب المظلمة لبطلها، بل تستكشف العالم المتناقض في قلبه بين الايمان والشك وبين الخطيئة والخلاص وبين النور والظلام.نحاول هنا تبين الملامح الأبرز في “بورتريه سكورسيزي” كما أظهرتها وأطّرتها “ريبيكا ميلر”.الخروج من الجنة.. إيقاعات العنف في حياة الطفل “مارتي”تستكشف “ميلر” طيلة مسلسلها الممتد لخمس ساعات الروابط بين حياة “سكورسيزي” الشخصية وأفلامه من خلال مقابلات مباشرة معه ومع زملائه، وشركائه المبدعين مثل “دي نيرو”، و”دي كابريو”، و”ثيلما شوماكر”، و”بول شرايدر” مدعومة بمقاطع من أفلامه وحكايات عن صناعتها.يحكي “سكورسيزي” عن واحدة من الحوادث المبكرة والمؤثرة في حياته والتي وقعت في “كورونا- كوينز”، حيث كان “مارتي” الصغير يعيش مع أخيه الأكبر ووالديه. كان الحي أشبه بجنة صغيرة في عيني الطفل.الملصق الترويجي للمسلسل الوثائقيشب شجار عنيف بين والده ومالك العقار الذي يسكنه. يتذكر “سكورسيزي” العنف والصدمة جراء ما رأى. يقول: “أتذكر أن أحدهم أخرج فأسا، قبل أن تتدخل خالتي لوقف الشجار”. حسم الأمر قبل أن يتفاقم العنف، لكن النتيجة كانت إجبار عائلة “سكورسيزي” على المغادرة. يقول “سكورسيزي” بأسى: “لقد طُردنا من الجنة”. استقروا لاحقا في مكان من شارع “إليزابيث” في حي “ليتل إيتالي” والذي كان مكانا للخوف بالنسبة له، كان أشبه بالجحيم.إن سماع “سكورسيزي” يتحدث عن هذه اللحظة على خلفية مشاهد من أفلامه يشهد فيها الأطفال أعمال عنف وعدوان مروعة مثل فيلمي “الثور الهائج” و”الأيرلندي” يجعلنا نرى مثل هذه المشاهد كصدى لتلك اللحظة المؤلمة الممتدة في عمق الطفولة. هذا هو نهج “ميلر” الأساسي في مسلسلها حيث الربط الذكي والحساس بين حياة “سكورسيزي” وسينماه.الملصق الدعائي لفيلم “رفقاء طيبون”يحكى “سكورسيزي” أيضا عن نهاية فيلم “سارقو الدراجة” للمخرج الإيطالي “فيتوريو دي سيكا” حيث يتم اتهام الأب بالسرقة وتعنيفه أمام طفله والأثر العميق الذي تركته في قلبه. حين يفكر في عمق تأثير هذه النهاية فيه يرى أن الأمر يعود لاستعادة لحظة الطرد من “كورونا” واحساس الخزي الذي شعروا به آنذاك مثلما شعر به الأب وطفله في تحفة “دي سيكا”.اشترك فيالنشرة البريديةاشترك في النشرة البريدية وتابع أحدث أفلامنا الوثائقية“سكورسيزي” والوقوع في حب السينما.. السينما كخلاصيغوص المسلسل في طفولته بحي “ليتل إيتالي” بمانهاتن السفلى وهو أحد أكثر الأحياء الأمريكية عنفا، متتبعا الشخصيات الحقيقية التي تسللت الى أفلامه اللاحقة عن العصابات وعن إصابته بالربو وعن وقوعه في حب السينما التي جاءته كخلاص على أكثر من مستوى.عندما كان طفلا مصابا بالربو، كان يختنق حرفيا تحت حر الصيف بينما كانت قاعة السينما هي المكان الوحيد المكيف في الحي، ومن ثم لجأ والداه للسينما لإنقاذ الطفل من نوبات مرضه التي تزداد في الصيف غير مدركين أنهم بذلك قد غيروا مصير طفلهم الى الأبد.“سكورسيزي” مع “ريبيكا ميلر” مخرجة المسلسل من الكواليسهناك داخل السينما عرف “سكورسيزي” كيف يتنفس وهكذا بدأ شغفه الكبير بالأفلام. يحكى “سكورسيزي” عن فترات مرضه وكيف حرم من اللعب مع أقرانه، ما دفعه لكي يشاهد العالم من نافذته. يقول “سكورسيزي” ربما لهذا أحب اللقطات المصورة من زاوية علوية لأنها تماثل وجهة نظر الطفل “سكورسيزي” في نافذة مسكنه في “ليتل ايتالي” وهو يتطلع للعالم. تعرض “ميلر” عددا من لقطات الزاوية العلوية من أفلام سائق التاكسي، رفقة “طيبون” و”عصابات نيويورك”. يمزح المخرج “سبايك لي” في أحد مشاهد الفيلم: شكرا للرب على الربو لأنه منحنا مارتن “سكورسيزي”.تتجلى السينما مرة أخرى في حياة “سكورسيزي” كخلاص على مستوى آخر ربما أكثر جوهرية. لقد منحه شعفه الهائل والممتد بالسينما وعمله بها لاحقا تذكرة خروج من مكان يقتات على العنف، لم يكن لفتى كـ”مارتي” أن ينجو فيه.لقطة من فيلم “سائق التاكسي” توضح تفضيل “سكورسيزي” للقطات الزاوية العلوية في أفلامهيحكي “سكورسيزي” عن حوار جمعه بالكاتب “غور فيدال”، أخبره أنه في الحي الذي نشأ فيه عليك لتنجو أن تكون رجل عصابات أو قسّا، ليخبره “فيدال”: “حسنا لقد أصبحت الاثنين”. ما يقصده “فيدال” هو أن سينما “سكورسيزي” طالما كانت فضاء لرجال العصابات لكنها أيضا تطرح أسئلة دينية جوهرية، أسئلة عمن نكون وعن طبيعة الخير الشر بداخلنا وفي العالم.في مراهقته أراد “سكورسيزي” أن يكون قِسّا وبدأ بالفعل في دراسة اللاهوت، ولكنه ترك دراسته بعد فترة قصيرة ليُلبّي نداء آخر هو السينما. وحين يتحدث “مارتن سكورسيزي” عن شغفه بالسينما فإنه يمنحه مسحة دينية حين يسميه “نداء باطنيا” (Calling).أبطال “سكورسيزي”.. رقصة عنيفة بين القداسة والإثمحين يتحدث “سكورسيزي” عن أحد مشاريع أحلامه وهو فيلم “الإغواء الأخير للمسيح”، وهو فيلمه الأكثر جدلا، يخبرنا أنه قرأ رواية “كازنتزاكيس” التي تحمل الاسم نفسه مطلع السبعينات، ومن وقتها وهو يحلم بأفلمتها. وأن هذا الفيلم تحديدا لم يكن مجرد فيلم آخر بالنسبة له، بل كان أهم فيلم ينبغي أن يصنعه. كان مرجع ذلك حسب تعبيره “بسبب خلفيتي الدينية وحقيقة أني أردت أن أكون قسا وحقيقة أني لم أترك الكنيسة ولم تتركني”.لقطة من المسلسل لطفلين من فيلم “الثور الهائج” يشاهدان عنفا وإلى جانبهما سكورسيزي الذي كان هذا الطفل ذات يومتصفه زوجته السابقة “إيزابيلا روسليني” بأنه قديس آثم. إنه وصف ينطبق على أبطاله أيضا. هناك شيء من القداسة يتجلى عبر أسئلة الروح وسط عالم غارق في الخطيئة. تعرض “ميلر” بذكاء هذا الانقسام داخل بطل “سكورسيزي”، تشارلي (هارفي كايتل) في فيلم “شوارع وضيعة” (1973)، بتقسيم الشاشة لنصفين؛ في أحدهما تشارلي (الأنا الأخرى للمخرج) غارقا في الضوء الأحمر لحياة الخطيئة التي يعيشها، وفي الآخر نجده راكعا أمام المسيح يصلي.لا ترتبط روحانية سينما “سكورسيزي” إذن بأفلامه ذات التيمات الدينية الواضحة مثل “الإغواء الأخير للمسيح”، و”كوندون والصمت”؛ حتى وهو يخوض في أكثر العوالم قسوة ودموية ظل مخلصا دائما لأحلام الروح.“سكورسيزي” الوحيد.. ذئب يتطلع من بعيد لنيران المدينةيتحدث “سكورسيزي” لـ”ميلر” كثيرا عن شعوره المزمن بالوحدة، رغم كونه اجتماعيا، تبعه دوما ظل اغترابه. ففي جامعة نيويورك -حيث درس السينما- كان الزملاء يعيشون في أماكن جميلة وينحدرون من عائلات من الأطباء والمحامين، لذلك طالما شعر بالحرج من الحديث عن نفسه ومن أين أتى. سحره سيناريو “سائق التاكسي” الذي كتبه “بول شريدر”، فكان يردد بعد قراءته “يا الهي كأني ألفته بنفسي”.كانت أصداء الوحدة والغضب والاستياء هي ما جمعت “سكورسيزي” بـ”ترافيس بيكل” بطل “سائق التاكسي” الذي يردد في الفيلم: أنا أكثر أبناء الرب وحدة.لقطة من مسلسل “الإغواء الأخير للمسيح” حيث “سكورسيزي” واقف وفي الخلفية الرجل المصلوبهناك جملة فتنت “سكورسيزي” في سيناريو “شريدر” الأصلي وهي تصف “ترافيس” وهو يراقب “بيتسي” في مقر حملة الانتخابات، فقد وصفه “شريدر” بذئب يراقب نار المخيم من بعيد. تلك الصورة صدمت “مارتي” لأنه أحسها بعمق؛ فقد كان “سكورسيزي” دائما الطفل على طرف الملعب؛ قصير ومصاب بالربو ويخشى دائما ألا يتم قبوله من الآخرين.فكيف صمم “سكورسيزي” هذه العزلة سينمائيا؟ إنه يضع “ترافيس” دائما وحيدا في الكادر. إنه موجود في كادر الآخرين، لكنه حين يعود بالكاميرا إليه فهو وحده. إنه وحيد حتى وسط الحشود، يبقى كل من حوله مضببا وغير مرئي بوضوح. هذا البحر من الناس غير قادر على اختراق وحدته.“سكورسيزي” وهوليود.. غريب في بلاد غريبةحين خرج “سكورسيزي” أخيرا من “ليتل إيتالي” متوجها نحو هوليوود في بداية عشريناته، كان يحلم أن تصير هوليوود بيته، لكن مدينة السينما -مدينة شغفه الكبير- عاملته كغريب. يصفه صديقه “براين دي بالما” آنذاك “كان مثل غريب في بلاد غريبة”.كان مقودا تماما بطموح هائل وكان ليفعل أي شيء للوصول لحلمه حتى لو قتله ذلك. يمكن أن تجد صدى هذا الهوس لدى شخصياته، فهم يمتلكون أيضا هذا العذاب المرتبط بالحصول على شئ يتعذر الوصول إليه. كان “سكورسيزي” خلال هذه الفترة هو المستضعف “الأندر دوج” (Underdog) الذي يحلم بالنجاح.لقطة علوية من فيلم “عصابات نيويورك”يجد “نيكولاس بيليجي” صديقه وكاتب السيناريو الذي عمل معه في أفلام مثل كازينو” و”رفقة طيبون” أن هذه التيمة تخترق العديد من أفلامه سواء كان ذلك “جوردان بيلفورت” في “ذئب وول ستريتط أو “روبرت بامبكين” في “ملك الكوميديا” أو “الفتى هنري هيل” في “رفقة طيبون”، فكلهم مستضعفون، لا يتوقع أحد نجاحهم ومستعدون لفعل أي شئ ليصبحوا شخصيات مهمة.أراد “سكورسيزي” أن يصنع أفلاما من قلبه وعن شخصيات تهمه، شخصيات لديها ظلامها الداخلي ودفعها للحدود القصوي. إذا آمن الشخص بما يريد أن يقوله، فعليه أن يخاطر. كان “سكورسيزي” على استعداد للمخاطرة دائما، لكن هوليوود لم تكن أرض المخاطرة ومن ثم ظلت علاقته بهوليوود تحمل هذا التوتر الدائم بين ما يريده وما تفرضه الأستوديوهات حتى بعد تحقيق أفلام بقيمة سائق التاكسي والثور الهائج.“سكورسيزي” وإعادة اختراع الذاتبعد اخفاق “سكورسيزي” الكبير في أفلام مثل “نيويورك نيويورك” أو “ملك الكوميديا”، كان يقال في هوليوود إنه انتهى، لكنه دائما ما أعاد ابتكار نفسه. وترى “ميلر” في حوار لها عن العمل أن حياة “سكورسيزي” ومسيرته المتأرجحة بين صعود وهبوط تمنحنا نوعا من الأمل في أن هنالك طريقة لإعادة تعريف أنفسنا دائما.لقد سقط “سكورسيزي” إلى القاع ومع ذلك نهض مجددا. مر بتجارب اقتراب حقيقي من الموت لكنه عاد للحياة. يتذكر “دي نيرو” زيارته لـ”سكورسيزي” في المستشفى، حاملا مذكرات الملاكم السابق “جيك لاموتا”، وسأله إن كان يرغب في الموت أم العيش والمشاركة في هذا الفيلم عن “لاموتا”. يعترف “سكورسيزي” لميلر: “كان جزء كبير مني يرغب في الموت”.لقطة علوية من فيلم “رفقاء طيبون”أدرك “سكورسيزي” في ضوء أزمته الخاصة جوهر حكاية “لاموتا”، حكاية رجل يهبط الي جحيمه الخاص بقوة دفع غضبه المكبوت، وشكوكه وعواطفه الهائجة. حكاية رجل كان بإمكانه أن يحقق كل ما يحلم به لكنه أضاع كل شئ وخرب حياته.تعرف “سكورسيزي” علي نفسه ومصيره في تراجيديا السقوط التي عصفت بحياة “لاموتا” وصار دافعه لإخراج فيلم “الثور الهائج” هو فهم شخصيته وسلوكه المدمر لذاته وكأنه عبر ذلك سوف يفهم نفسه وما الذي أوصله هو الآخر إلى هذه الهوّة السحيقة. يختتم “سكورسيزي” فيلمه باقتباس من إنجيل يوحنا ( كنت أعمى والآن أبصر) وهو اقتباس يضئ معنى الفيلم.في السنوات الأخيرة، أصبح “سكورسيزي” معلم السينما المفضل لدى الجميع، بابتسامته وهدوءه اللطيف وحديثه الشغوف دائما بالسينما. شئ ما تغير في “سكورسيزي” صار أكثر سلاما مع نفسه ومع العالم. تلتقط “ميلر” هذا التحول في فيلمها وتؤطره بوضوح. يخبر “سكورسيزي” ميلر إنه تعلم العيش مع غضبه عبر الحب. سيظل الغضب موجودا لكن صار بالإمكان الآن أن يحافظ على هدوئه.عمل “ميلر” مثمر ومثير ومؤثر، ويترك فينا جميعا تلك الرغبة في إعادة مشاهدة سينما “سكورسيزي” بعيون جديدة.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
اقرأ أيضاً




