آفاق مستقبلية للحملات الأهلية في سوريا.. من مبادرات مؤقتة إلى مشاريع مستدامة

بدأت في سوريا موجة من الحملات المجتمعية النموذجية التي حملت في طياتها روح التكافل والتضامن الأهلي في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة. وقد استُهلت بحملة في مدينة حمص حملت عنوان "أربعاء حمص"، التي أُطلقت منتصف آب 2025 من قصر جوليا، وتمكنت من جمع أكثر من 13 مليون دولار، وجاءت بالتعاون بين محافظة حمص ووزارة الثقافة وفريق "ملهم التطوعي".
واستهدفت الحملة دعم التعليم والصحة وإعادة تأهيل المدارس والمشافي، إلى جانب إصلاح شبكات المياه والآبار وتجهيز معدات النظافة. وتميزت هذه المبادرة بآلية إشراف شفافة من خلال "مجلس أمناء" يضم وجهاء من حمص، وفريق ملهم، بهدف تعزيز ثقة المتبرعين وضمان توجيه الأموال نحو مشاريع ذات أثر ملموس.
تلتها حملة "أبشري حوران" التي انطلقت من مدرج بصرى الشام الأثري، واستهدفت جمع نحو 33 مليون دولار لدعم قطاعات التعليم والصحة والمياه وتأهيل البنى التحتية. لكن التبرعات سرعان ما تجاوزت هذا السقف لتصل في يومها الأول إلى أكثر من 36 مليون دولار، وتخطت 37 مليون دولار مع نهاية اليوم الثاني. وقد خُصصت هذه المبالغ لترميم مئات المدارس والمراكز الصحية ومحطات مياه الشرب، إضافة إلى تعبيد الطرق وإعادة تأهيل مرافق أساسية في الجنوب السوري.
أما في الشرق السوري، فتستعد محافظة دير الزور لإطلاق حملة "دير العز" في 11 أيلول 2025، بمستهدف يبلغ نحو 5 ملايين دولار. وتهدف الحملة إلى تمويل مشاريع حيوية تشمل شراء آليات لإزالة الأنقاض وفتح الطرق، تعبيد الشوارع الرئيسية، تركيب كاميرات مراقبة، تأهيل مئة منزل لأرامل الشهداء، تجهيز المشفى المركزي بجهاز رنين مغناطيسي حديث، إصلاح خمس مدارس، ترميم بعض المساجد، وإنشاء أفران حديثة لتأمين الخبز.
تشكل هذه الحملات الثلاث نموذجاً متقدماً من العمل الأهلي المنظم، إذ تحوّلت التبرعات الشعبية إلى قوة اقتصادية ومجتمعية قادرة على معالجة فجوات مزمنة في البنية التحتية والخدمات الأساسية. كما أنها تعبر عن إرادة جماعية متنامية لإعادة الإعمار من الداخل، بعيداً عن انتظار الحلول الخارجية أو المساعدات الرسمية المحدودة.
البعد الاجتماعي للحملات
لا يمكن النظر إلى هذه الحملات على أنها مجرد مبادرات مالية لجمع التبرعات، بل هي قبل كل شيء فعل اجتماعي أعاد صياغة العلاقة بين أفراد المجتمع السوري. فمثلاً، وحّدت حملة "أبشري حوران" سكان درعا والمغتربين منها مع مختلف الأطراف المشاركة، من منظمات خيرية إلى منصات شبابية، وهو ما منح الحملة طابعاً جماعياً يعكس قوة التلاحم الأهلي.
أما في حمص، فقد شكّلت حملة "أربعاء حمص" مساحة التقاء بين وجهاء المدينة وفعالياتها الرسمية والشعبية، بما عزز الثقة بين المجتمع المحلي والجهات المنظمة. ووجود "مجلس أمناء" للإشراف على التبرعات اعتُبر إجراءً إدارياً مهماً ورسالة واضحة إلى أبناء حمص في الداخل والخارج بأن صوتهم ومالهم لهما دور مباشر في إعادة بناء مدينتهم.
وفي دير الزور، يُتوقع أن تلعب حملة "دير العز" دوراً مهماً في استنهاض روح الانتماء، إذ أعلنت أهدافاً مرتبطة بحاجات ملموسة لأبناء المحافظة. هذه الرؤية ستجعل الأهالي والمغتربين يشعرون بأن مساهماتهم ستنعكس مباشرة على حياة ذويهم ومجتمعهم المحلي.
إلى جانب ذلك، أسهمت هذه الحملات في تعزيز روح العمل التطوعي بين الشباب، إذ شارك العشرات في التنظيم والإشراف وجمع التبرعات والترويج الإعلامي. ولم يقتصر دور الشباب على الجانب اللوجستي، بل كان عاملاً أساسياً في نشر الحماسة والإيجابية بين الناس، ما خلق حالة عامة من المشاركة والانتماء.
كما لعبت الروابط مع المغتربين السوريين دوراً محورياً، حيث شكّلت التبرعات القادمة من الخارج نسبة كبيرة من الدعم. وأسهم ذلك في إعادة ربط أبناء الشتات بمدنهم وقراهم، إذ رأى كثير من السوريين في المهجر أن هذه الحملات فرصة عملية لرد الجميل لمناطقهم وتعويض جزء مما فقدته خلال سنوات الحرب.
ومن زاوية أخرى، مثلت هذه المبادرات حالة من كسر الحواجز بين المجتمع والسلطات المحلية. فمشاركة مسؤولين رسميين ووجهاء وناشطين في منصة واحدة، كما حصل في بصرى الشام وحمص، ساعدت في تذويب بعض الفجوات وفتح المجال أمام تعاون مشترك بعيداً عن الخطاب السياسي التقليدي.
وبذلك يمكن القول إن الأثر الاجتماعي لهذه الحملات لا يتوقف عند حدود جمع المال، بل يمتد ليعيد تشكيل شبكة العلاقات الاجتماعية، ويُحيي مفهوم "العمل العام" الذي يقوم على الثقة والمشاركة والشعور بالمسؤولية الجماعية. وهكذا تساهم هذه الحملات في إعادة بناء الثقة بين الأفراد، وتوليد شعور جماعي بالمسؤولية، وكأنها تقول: "مصيرنا بأيدينا، وإن لم نبادر نحن، فلن يفعل أحد مكاننا".
الانعكاس على الاقتصاد السوري
تشكل الحملات المجتمعية رافعة اقتصادية حقيقية، إذ لا تتوقف عند كونها مبادرات خيرية، بل تتحول إلى أدوات تنموية تعيد تشغيل عجلة الاقتصاد المحلي عبر أكثر من قطاع.
ففي قطاع التعليم، تسهم هذه الحملات في إعادة تأهيل المدارس وتجهيزها بمستلزمات حديثة، بالتالي إعادة آلاف الأطفال إلى مقاعد الدراسة، الأمر الذي يخفف الأعباء عن الأهالي ويعزز الاستثمار في رأس المال البشري على المدى الطويل. ولا يقتصر الأثر على الطلاب فقط، بل يفتح فرص عمل للمدرسين والكوادر الإدارية والفنيين المشاركين في صيانة المدارس وتجهيزها.
وفي القطاع الصحي، توجه التبرعات نحو المشافي والمراكز الصحية وتزويدها بمعدات حديثة مثل أجهزة الأشعة والرنين المغناطيسي. ومن المتوقع أن ينعكس ذلك مباشرة على صحة المجتمع، كما أن تحسين مستوى الخدمات الطبية يقلل من التكاليف الباهظة للعلاج في الخارج أو في مدن بعيدة، ويمنح الأهالي شعوراً بالأمان الصحي، وهو ما يعزز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
أما في قطاع البنية التحتية، فتسهم الحملات في إصلاح الطرق وتعبيد الشوارع وصيانة شبكات المياه والكهرباء. وهذه استثمارات طويلة الأمد ترفع من قيمة الأصول المحلية وتسهّل الحركة التجارية، فالطريق المعبد ليس مجرد خدمة، بل هو شريان اقتصادي يربط الأسواق ببعضها ويسمح بانتقال السلع بسرعة أكبر وكلفة أقل.
وفي القطاع المعيشي والخدمي، يساعد إنشاء الأفران وتأمين المواد الغذائية الأساسية على تقليل أعباء المعيشة وضمان استقرار الأسعار. كما تسهم الحملات في شراء معدات نظافة وآليات خدمية للبلديات، ما ينعكس على البيئة العامة والصحة العامة للسكان.
وفي قطاع سوق العمل، يُتوقع أن تضخ هذه المشاريع سيولة مالية في الأسواق المحلية، وتوفر فرص عمل لعشرات المقاولين والحرفيين والعمال، إضافة إلى تحريك الطلب على مواد البناء والخدمات اللوجستية. والنتيجة المتوقعة هي تشكيل دورة اقتصادية صغيرة لكنها فعالة، تبدأ برأس المال الاجتماعي وتنتهي بفوائد ملموسة على الأفراد والمجتمع.
في هذا الإطار، يقول الباحث أدهم قضيماتي: "لن يكون هناك انعكاس كبير على كامل الاقتصاد لأن هذا الدعم ليس مخصصاً للقطاعات الإنتاجية، فالبنية التحتية تحتاج إلى أضعاف هذه المبالغ، لكن تصب هذه المبادرات في خانة إعادة تأهيل أساسيات البنية التحتية، لكون خزانة الدولة ما تزال غير قادرة على إعادة تأهيلها، وبالتالي تمكّن هذه الحملات والمبادرات من تقديم الدعم للمشاريع العاجلة والاستثنائية".
الأثر المعنوي والسياسي
من المتوقع أن تترك هذه الحملات المجتمعية أثراً معنوياً عميقاً في نفوس السوريين، إذ تعزز الأمل بقدرة المجتمع على صناعة التغيير من الداخل، بعيداً عن انتظار الحلول الخارجية أو الاستدانة من المؤسسات الدولية التي ترهق الدول ببرامج اقتصادية معقدة. كما أن رؤية أبناء المدن والقرى يتكاتفون لإعادة بناء مدارسهم ومستشفياتهم تمنح شعوراً متنامياً بالفخر والانتماء، وتعيد الثقة بالقدرة على تجاوز الأزمات عبر التضامن الشعبي.
وعلى الصعيد السياسي، يمكن أن تسهم هذه المبادرات في إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، من خلال مشاركة وجهاء محليين ومنظمات أهلية ومغتربين جنباً إلى جنب مع السلطات الرسمية. وهذا من شأنه أن يخلق مساحات أوسع للتعاون، ويسهم في تقليص الفجوة القائمة بين الطرفين.
كذلك، إذا واصلت هذه الحملات جذب الاهتمام الإعلامي المحلي والدولي، فإنها ستقدّم صورة جديدة عن السوريين، باعتبارهم قادرين على تنظيم أنفسهم وإيجاد حلول عملية لمشكلاتهم. وهذا الأمر قد يعزز مكانة المجتمع المدني في المستقبل، ويؤهله ليكون شريكاً أساسياً في أي عملية إعادة إعمار شاملة أو حوار وطني حول مستقبل البلاد.
التحديات والآفاق المستقبلية للحملات المجتمعية
رغم ما تبشر به هذه الحملات من نتائج إيجابية، إلا أن استمرارها ونجاحها على المدى الطويل سيواجه عدة تحديات. أول هذه التحديات يتمثل في ضمان الشفافية والحوكمة الرشيدة، فكلما كبرت الحملات وارتفعت مبالغ التبرعات، زادت الحاجة إلى آليات رقابة واضحة تضمن وصول الأموال إلى المشاريع المعلنة وتحافظ على ثقة المتبرعين.
كما يبرز تحدي الاستمرارية، إذ قد تتراجع الحماسة الشعبية مع مرور الوقت ما لم تتحول هذه المبادرات إلى أطر مؤسسية أكثر ثباتاً، مثل صناديق دائمة أو جمعيات تنموية محلية تدير المشاريع بشكل مستمر. وإلى جانب ذلك، فإن الوضع الاقتصادي الصعب داخل سوريا قد يحد من قدرة السكان المحليين على المشاركة المالية، ما يجعل الاعتماد على المغتربين عاملاً مهماً في بقاء هذه الحملات فعالة.
ومن المتوقع أن تتسع آفاق هذه المبادرات إذا ما نجحت في بناء شبكات أوسع من الشراكات مع خبراء الاقتصاد والتنمية، ومع مؤسسات المجتمع المدني في الداخل والخارج. عندها يمكن أن تتحول من حملات إغاثية أو خدمية قصيرة المدى إلى مشاريع استثمارية صغيرة تخلق موارد مستدامة، مثل المشاريع الزراعية أو الصناعية أو الخدمية التي توفر فرص عمل وتدعم الاقتصاد المحلي. كما أن نجاح هذه الحملات قد يفتح الباب أمام انتشار النموذج إلى محافظات سورية أخرى، بحيث تتكرر التجربة في مدن وبلدات متعددة، بما يحولها إلى حركة وطنية شاملة لإعادة الإعمار الأهلي من الداخل.
في هذا الإطار، يضيف قضيماتي: "لن يكون هناك تحديات كبيرة في هذا الإطار، بل سيكون هناك حالة تكافل بين القائمين على الحملات وبين المؤسسات التي سيتم دعمها، خصوصاً أن المنظمين والراعين للحملات قسم منهم من هذه المؤسسات، ولا يتوقع وقوع حالات فساد في هذه الحالة".
بشكل عام، تشكل الحملات المجتمعية اليوم واحدة من أبرز أشكال التعبير عن قدرة السوريين على تجاوز التحديات بأدواتهم الخاصة. فهي لا تقتصر على كونها مبادرات خيرية، بل تحمل مشروعاً لإعادة بناء الثقة والاقتصاد والمجتمع معاً. ومع التوقع باتساع نطاقها، يرجح أن تتحول هذه التجارب إلى حراك أهلي أوسع يفتح آفاقاً جديدة للتنمية من الداخل، لتبقى هذه المبادرات بمثابة نواة أمل لمستقبل أكثر تماسكاً لسوريا وأبنائها.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه