كافكا آخر على الشاشة: أيّ كافكا نرى في فيلم “فرانز– Franz”؟

ضمن عروض القسم الرسمي خارج المسابقة، عُرض فيلم “فرانز – Franz” في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الخامسة والاربعين، وهو فيلم بولندي من إخراج “أغنيسكا هولاند” يتناول السيرة الذاتية للكاتب التشيكي فرانز كافكا (1883-1924).منذ اللقطات الأولى وضعتني المخرجة أمام معضلة سؤال واحد ملح: أيّ كافكا هذا الذي نراه على الشاشة؟فيلم فرانز عن الكاتب التشيكي الغامض كافكا ، الذي توفي عام 1924 عن عمر لم يتجاوز الأربعين يذكّرنا الفيلم بأن نتاج كافكا كان محدودا لكنه عميق التأثير، حتى ان الاعمال المكتوبة عنه تفوق أعماله نفسها بنسبة عشرة ملايين إلى واحد. وتغدو هذه النسبة اشد إثارة للإعجاب إذا تذكرنا ان هذه الاعمال هُرّبت من أوروبا في حقيبة مع بدايات الحرب العالمية الثانية، وكان من الممكن – نظرا لجذور كافكا اليهودية – ان تضيع إلى الأبد بسهولةما تقدمه هولاند صورة مغايرة تماما لصورة كافكا الراسخة في أذهاننا عبر أدبه: فتى رقيق، مدلل، شديد الحساسية، ليس منطويا بالقدر الذي توحي به كتاباته، ولا هو بتلك الكآبة والتشاؤم اللذين التصقَا باسمه؛ بل على العكس، نراه حيويا، مرحا، كثير الحديث، جريئا بما ينسجم مع وعيه الكامل بموهبته وتقديره الكبير لها. من هنا ينشأ الارتباك: هل نحن أمام صورة مستلّة بعناية من تفاصيل سيرته، أم أمام محاولة واعية لصناعة “كافكا آخر” يهدم كل صورة نمطية سابقة؟فرانز كافكا (1883-1924) لم يكن مشهورا في حياته، فمن المدهش حقا أننا نعرف عنه كل هذا القدر. بل إن مجرد معرفتنا لأعماله أشبه بضربة حظ معجزة، إذا تذكرنا أنه أوصى صديقه والمنفذ الأدبي لوصيته، ماكس برود، بأن يتلف كل كتاباته ورسائله الشخصية بعد وفاته لحسن الحظ، لم ينفذ صديقه الوصية وقام بنشر اعمالهيخطر للمتفرج أحيانا أن الفيلم لو انطلق من فرضية واضحة تقول إننا نرى “حياة ممكنة” أو “حياة سعيدة” بديلة لكافكا، في عالم أقل قسوة، لكان ذلك سيمنحه بعدا افتراضيا أكثر إثارة للاهتمام، خاصة وأن “فرانز – Franz” هو اختيار بولندا الرسمي لسباق الأوسكار.كافكا بين الأب المتسلط وصورته الوديعةاللافت في مقاربة هولاند هو إصرارها على خلق بورتريه معاكس لصورة الكاتب “القاسي” أو “الكابوسي”: كافكا على الشاشة وديع، رقيق، مبتسم على الدوام تقريبا، يكاد يبدو أحيانا ككائن بريء أكثر منه رمزا للقلق الوجودي. هذا التكوين يزداد بروزا عبر التضاد الحاد مع صورة الأب.هرمان كافكا وجولي كافكا يتوسطهما فرانز طفلا، في مشهد عائلي صارم يفضح بجموده البصري المسافة العاطفية داخل البيت، ويضع بذرة ذلك التوتر الأبوي الذي سيطارد الكاتب لاحقا في حياته وأدبهالأب، بهيئته الضخمة، وشراهته، وصوته الجهوري، ووجهه المتجهم، مكرّس بالكامل للعمل والمال، فظ وساخر إلى حد الفجاجة. في المقابل كان كافكا: هزيل الجسد، رفيع الصوت، رقيقًا وبشوشًا وعاطفيًا إلى حد السذاجة أحيانًا.لا نعلم إن كانت تلك صورة متخيلة عن كافكا أم ملامح حقيقية، لكنها تبدو منطقية بالرجوع إلى سيرة حياته، خاصة ما يتعلق بعلاقته بأبيه.هذا التكوين يزداد بروزًا عبر التضاد مع صورة الأب المهيمن، بما يحوّل العلاقة بينهما إلى مفتاح أساسي لقراءة الفيلم كله.مشهد السباحة: جرح الطفولة المؤسسربما لهذا نجد تركيزًا من المخرجة على رصد تلك العلاقة بوصفها مرجعًا شارحًا لتركيبة كافكا. ومن تفسير أوديبي نلحظ أن كل حدث صغير في طفولته يعيد تقديم نفسه بصورة مختلفة لاحقًا.ففي مشهد مبكر، نرى كافكا طفلًا يلقيه أبوه في الماء ليتعلم السباحة بنفسه، ويزيد الأمر قسوة بأنه يرفض مساعدة الطفل بينما يغرق.عرض فيلم FRANZ وجلسة أسئلة وأجوبة مع المخرجة أغنيسكا هولاند”، التي أُقيمت في لندن يوم 26 نوفمبر 2025. (غيتي إيماجز)نلاحظ أثر تلك اللحظة على كل مرحلة من حياة الصبي والشاب كافكا؛ فنراه يتصور نفسه وهو يغرق، في حلم أو في واقع مختلق.هكذا تتحول لقطة الطفولة إلى استعارة بصرية متكررة عن شعوره الدائم بالتهديد والعجز أمام سلطة الأب والعالم.الروح الهشة، في أكثر السياقات فجاجةالتباين لا يقتصر على ثنائية الأب/الابن، بل يمتد إلى علاقة كافكا بأقرانه. في أحد أكثر المشاهد كاشفية، نراه في بيت دعارة برفقة صديقه ماكس برود؛ بينما يمارس ماكس الجنس بعنف وبدائية توحي بأنها “الطريقة المعتادة” في هذا العالم، تبدو الفتيات معتادات على هذا النمط. لكن رد فعل الفتاة التي ترافق كافكا يكشف الفرق: تتفاجأ من طريقته الناعمة، رومانسيته، رغبته في أن يرى وجهها وأن ينظر في عينيها ويقبّلها أثناء العلاقة، في مقابل رفضه الممارسة الخشنة من الخلف كما يفعل ماكس والآخرون.اشترك فيالنشرة البريديةاشترك في النشرة البريدية وتابع أحدث أفلامنا الوثائقيةالمنتجع كفردوس أخير لروح هشّةتؤكد أغنيسكا تمسكها بتلك الصورة عن كافكا أيضًا في رسمها لمكان يبدو خارجًا عن “مصفوفة” عالمه المعاصر.المكان، وهو مصح أو منتجع يذهب إليه برفقة مجموعة من الرجال العراة يمرحون ويغنون بحرية مطلقة، يظهر في المرة الأولى كمشهد واقعي في سياق زمنه.تحدثت السيناريست والمخرجة البولندية أغنيسكا هولاند عن فيلمها “فرانز” Franz-، انه يحاول النفاذ الى “جوهر” هذا الروائي، ويتناول في الوقت نفسه موضوعات ما تزال راهنة، من بينها أفكار كافكا عن مخاطر النظم الشموليةلكنه يعود في نهاية الفيلم وقد تحوّل إلى ما يشبه “جنة” أخيرة لروح هشّة مثل روحه؛ عالم رومانسي، ناعم، يغلب عليه إحساس بالتحرر الجسدي والنفسي، وبدرجة من “الأنوثة” الرمزية، كأن كافكا يجد فيه تعادلا مفقودا أمام نموذج الأب المتوحش.حكاية الدمية المفقودة ووداعة الكاتبوبالعودة إلى السؤال المحير: هل كانت تلك طبيعة كافكا فعلًا أم لا؟ أسترجع تلك القصة التي تحكي عن مقابلته فتاة صغيرة فقدت دميتها في الحديقة؛ يواسيها كافكا ويكتب لها رسالة فحواها:”الأشياء التي نحب معرضة دومًا للفقدان، لكن الحب سيعود دومًا بشكل مختلف”.يكشف الموقف والرسالة عن مدى وداعة كافكا، المختلف كثيرًا عن كتاباته الكابوسية، وهو بالضبط الجانب الذي يصر الفيلم على تتبعه وتكبيره. سرد متشظٍ لسيرة غير تقليديةتختار المخرجة سردًا غير خطي للحكي، وربما كان ذلك ملائمًا لأسباب عديدة؛ منها طبيعة كافكا وأدبه، وحياته غير التقليدية، والسياق التاريخي والمجتمعي الذي عايشه، وأيضًا بسبب اختيارها العودة المتكررة إلى الطفولة لتشريح تلك التركيبة المعقدة.نجدها تبدأ بالطفولة، ثم سريعًا ما تنتقل إلى الشباب، ثم تعود ثانية إلى الطفولة وتمزج بين الزمنين بهلاوس كافكا وتصوراته عن الأشياء والآخرين.إيقاع سريع وتداخل الأزمنةبهذا البناء يصبح الفيلم ذا إيقاع سريع نسبيًا؛ يمزج بين ماضي كافكا وحاضره، بل ويذهب أبعد من ذلك؛ فنرى مرشدة سياحية أمريكية تدل السياح على الأماكن التي سكن فيها كافكا، وعاش وكتب وتحرك، ثم ننتقل إلى تلك الأماكن رفقة كافكا نفسه.سريعًا نرى المفارقة بين المكان كما عاشه الكاتب، وبين ما آل إليه تحت وطأة السياحة والذاكرة الرسمية.هنا يتجاوز السرد ما هو تقليدي إلى سرد “ما بعد حداثي”، حيث تخطٍ للحكاية نفسها وبنيتها الروائية إلى قالب آخر يضيف ثقلًا وتأملًا. أدب كافكا داخل الكادر “في مستعمرة العقاب”: السلطة التي تأكل نفسهافي المستعمرة العقابية” هي قصة قصيرة لفرانز كافكا، كُتبت بالألمانية في أكتوبر 1914، تدور أحداث القصة في مستعمرة عقابية مجهولة الاسم، وتصف آخر استخدام لجهاز تعذيب وإعدام معقد يُنحت عليه الوصية التي يجب على المحكوم عليه اتباعها. يُصاب السجين بانتهاكٍ في جلده وهو يموت ببطء على مدار اثنتي عشرة ساعة. ومع تطور الأحداث، يتعرف القارئ على الآلة أكثر فأكثر، بما في ذلك أصلها ومبرراتها الأصليةالمميز أيضًا هو تصوير ما هو “كافكوي” وتضمينه في الفيلم.يظهر ذلك في المشهد الذي يلقي فيه كافكا قصته “في مستعمرة العقاب” على المستمعين؛ فلا تكتفي أغنيسكا بسرده للقصة، بل نراها متجسدة على الشاشة.نرى المشهد الشهير من النوفيلا حين يحكي الضابط عن آلته المتطورة المستخدمة في التعذيب، ليكون مصيره في النهاية تجربة تلك الآلة على جسده.كانت تلك رؤية كافكا لسلطة تبتلع نفسها بنفسها من فرط هوسها بالتعذيب، في تصور دقيق لمدى سادية تلك السلطة وتطرفها.إحالات بصرية متشابكةنرى أيضًا “الصرصار” كموتيفة بصرية، في إشارة متكررة إلى قصة “الانمساخ”.الإحالة الأولى هي سحق كافكا الأب للصرصار على المائدة، والثانية متجلية في ظهور يد كافكا مشوهة بما يشبه الخياشيم، وكأنه يرى مراحل تحوله إلى حشرة.وإلى جانب ذلك، تظهر ظلال “المحاكمة” و”القلعة”: كافكا يتخيل نفسه سجينا وراء القضبان في مكان ممثل على المسرح، ومريضا منقولا على عربة، في استعارة بصرية لقصة “طبيب أرياف”. هذه الإشارات كلها لا تبدو دخيلة أو متكلفة؛ بل تأتي مدمجة في نسيج الحكاية، متوغلة في لاوعي الشخصية، مصورة تشوش حدوده بين الواقع والهذيان. كافكا، كما يقدمه الفيلم، عالق دائما بين عالمين: عالم يعايشه بالفعل، وآخر يصنعه خياله، لكنه – في كل مرة تقريبا – يختار أن يصدق الهذيان ويغرق فيه. ميلينا والعلاقات العاطفية المتعددةربما مالت المخرجة إلى هذا التوغل في عالم الهلاوس والأفكار عوضًا عن التوسع في الحكايات الشخصية لكافكا.فرغم أنها اهتمت بتوثيق ما هو شخصي، إلا أنها لم تتوغل بما يكفي في علاقته بميلينا مثلًا، بل مرت عليها شذرًا، وهو ما سبب إحباطًا لبعض المشاهدين؛ إذ رأوا كافكا من دون ميلينا لوقت كبير من زمن الفيلم.يتوقف الفيلم عند قصة الحب العميقة والمأساوية بين الكاتب الألماني-التشكي اليهودي فرانز كافكا والصحفية التشيكية ميلينا يسينسكا، كما توثقها “رسائل إلى ميلينا” الشهيرة، كاشفا عن طبقات مشاعر كافكا وصراعاته الداخلية، وعن ميلينا المثقفة والمترجمة الموهوبة التي أصبحت شخصية محورية في عالمه الحميم قبل أن تنتهي حياتها نهاية مأساوية في أحد المعسكرات النازيةكما رأوا نسخة من كافكا ليست متيمة بميلينا وحدها، ولم تقتصر علاقاته العاطفية عليها؛ بل بدا محبًا للنساء، عاشقًا لهن.وأعتقد أن المخرجة كانت موفقة في رصد هذا الجانب عوضًا عن الاسترسال في حكاية واحدة، بما يعكس تعدد رغباته وتوتره إزاء الحب عمومًا.في عام 1920، بدأ فرانز كافكا وميلينا يسينسكا قصة حب من خلال الرسائل. كانت ميلينا كاتبة ومترجمة طموحة في الثالثة والعشرين من عمرها، عاشت في فيينا في زواج ينهار ببطء. أدركت ميلينا عبقرية كافكا الكتابية قبل أن يدركها الآخرونكافكا من كاتب مهمش إلى علامة رأسماليةينتهي الفيلم إلى ما يشبه برنامجًا إذاعيًا عن كافكا، بتلك المذيعة التي رأيناها في البداية كمرشدة سياحية، تعرف كل شيء عن عالمه.ظهرت هذه الشخصية في مشاهد متفرقة على مدار الفيلم، تحكي للسياح عن الأماكن التي زارها كافكا، مرّ بها وسكن فيها، إلى درجة الابتذال؛ إذ نراها تقول:“في مطعم البرغر هذا أكل كافكا، من يريد أن يأكل وجبة كافكا المفضلة؟”، ثم تضيف: “بالمناسبة، لقد أحب كافكا البطاطا”.كافكا المسجون في متحف الرأسماليةكان التطرق إلى ذلك من قبل أغنيسكا مميزًا وساخرًا إلى حد كبير؛ فهو من جهة يهاجم سياسة الرأسمالية التي تحول كل ما حولها إلى سلعة، ومن جهة أخرى يقدم محاكاة رائعة لأدب كافكا، خصوصًا جانبه الساخر.في مشهد بليغ، نرى كافكا نفسه بينما تحكي المرشدة عن غرفة سكن فيها؛ يظهر محبوسًا داخل تلك الغرفة لا يقدر على الخروج منها، بينما تتطاير رسائله من شباك الغرفة.كأن كافكا ما زال مستغرقًا في كتاباته إلى الآن، بينما هو سجين داخل متحف للزائرين الأجانب؛ في إحالة إلى صراع كافكا الأبدي، كونه ما زال مستمرًا وقائمًا، فيما تحول هو نفسه إلى مجرد أداة رأسمالية غير قادرة على تغيير أي شيء.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه




