قراءة نقدية لفيلم الخيال السياسي “بيت الديناميت”: إدريس إلبا رئيسا للولايات المتحدة بين وهم السيطرة وعبء ال...

بعد ثماني سنوات من الصمت السينمائي، تعود المخرجة كاثرين بيغلو بفيلم “بيت الديناميت” (A House of Dynamite) ، لتقدم عملاً يضع الزمن في قلب السرد، ليس مجرد إطار للحكاية، بل خصماً عنيداً ومنهجاً لتشريح هشاشة المنظومة الأمنية والسياسية في مواجهة تهديد نووي وشيك.بيت الديناميت A House of Dynamite 2025 اخراج كاثرين بيغلو كتابة نوا اوبنهايم انتاج وعرض عبر نتفليكس، بطولة “ادريس البا – ريبيكا فيرغسون – غابرييل باسو – تريسي لتس جاريد – هاريس موسز انغرام غريتا لي- و كايل الن”. وقد عرض لأول مرة بمهرجان البندقية السينمائي الدولي 82 في سبتمبر 2025، ورشح لجائزة الأسد الذهبي، وإطلاق عالميا على منصة نتفليكس في 24 أكتوبر الجاري.السجادة الحمراء لفيلم “بيت من ديناميت” — مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي (الدورة 82)،(من اليسار إلى اليمين) جاريد هاريس، أنتوني راموس، إدريس إلبا، تريسي ليتس، كاثرين بيغلو، ريبيكا فيرغسون، غريتا لي، وغابرييل باسو، خلال فعالية السجادة الحمراء للفيلم. تصوير: كيت غرين/غيتي إيماجزيقدم الفيلم حبكة بسيطة في ظاهرها: صاروخ مجهول المصدر يتجه نحو شيكاغو، ومنظومة الدفاع تفشل في اعتراضه. لكن الأثر الحقيقي للفيلم لا يكمن في مفاجآت الحبكة، بل في الطريقة التي يُروى بها الحدث، حيث تتكرر 18 دقيقة ثلاث مرات، لتختبر أعصاب الجمهور، عبر كشف قدرة المؤسسات على اتخاذ القرار تحت ضغط لا يرحم.يفتتح الفيلم بالكابتن أوليفيا ووكر (ريبيكا فيرغسون)، الضابط المناوب الأقدم في غرفة عمليات البيت الأبيض؛ تصل إلى عملها ظناً أنه يوم روتيني، ثم تتلقى إنذار إطلاق صاروخ فتتحرك فوراً لتحييد التهديد. احترافية باردة تخفي قلقاً حاداً: الهاتف في اليد، والعين على شاشات ترسم مساراً قد لا يرحم. دقيقة تضيق، ورسالة قد تسقط منها كلمة فتبدل معنى القرار؛ هنا تتجسد مفارقة منظومة تبدو متماسكة على الورق لكنها تتشقق عند أول ارتباك في الاتصال. الزمن ليس خلفية بل خصماً مباشراً يختبر الأعصاب ويقيس كفاءة المؤسسة قبل شجاعة الأفرادالبيروقراطية والضعف الإنسانيمنذ البداية، يتضح أن “بيت الديناميت” ليس فيلماً عن أبطال فرديين أو صراعات شخصية بين الخير والشر. يكمن جوهره في تداخل البيروقراطية مع الضعف الإنساني. تتحول الاجتماعات، الشاشات، والممرات الإدارية إلى مسرح داخلي لوجوه متوترة تحاول فهم ما يحدث.الممثل “أنتوني راموس” يجسد الرائد دانيال غونزاليس — ضابط يركع على أرض حصوية وخلفه آلة حرب صامتة تبدو بلا جدوى؛ كل ما تعلمه عن الردع يتبخر أمام لحظة بلا يقين ولا أمر واضح، مشهد يكشف الثمن الانساني لمنظومة تدعي السيطرة، بينما تترك الافراد يواجهون الوقت وحدهم بين واجب الطاعة وغريزة النجاة، وتحت سماء مثقلة بالاحتمالاتهذا التركيز على المكان والبروتوكولات يميز الفيلم عن أفلام الكوارث التقليدية التي تعتمد على الفوضى الخارجية والصور الاستعراضية. تمثل عودة “بيغلو” هنا امتداداً منطقياً لتجربتها في أفلام مثل “خزانة الألم” (The Hurt Locker)، حيث تقترب من المؤسسة العسكرية لكنها ترفض الاحتفال البطولي الساذج. إلا أن “بيت الديناميت” أكثر صرامة في بنائه وراديكالية في نظرته إلى الزمن كأداة درامية.البنية السردية: التكرار كأداة كشفيعتمد الفيلم بناءً زمنياً متكرراً يقسم القصة إلى ثلاثة فصول، كل فصل يعيد نفس المدة الزمنية من لحظة رصد الصاروخ. هذا التكرار ليس استعراضاً شكلياً، بل اختيار بنيوي ينقل التركيز من “ماذا سيحدث؟” إلى “كيف نفهم ما يحدث؟”.تتكثف لغة الأوامر وسط جدل التقديرات الميدانية والإستراتيجية، وتتشابك النظرات بين جنرال يطالب بحسم فوري، وأخرون يحللون المخاطر، ينحني الشاب فوق الشاشات كي يلحق بما يفوت في كل ثانية يتجسد صراع تعريف المشكلة قبل صناعة الحل، تمديد الرد ام احتواء التصعيد؟ وداخل هذا الشق تتسرب الدقيقة مثل رمل ناعم فتفضح المنظومة التي تبدو قوية وهي تتعثر عند لحظة القرارالفصل الأول: غرفة العمليات في البيت الأبيض: هنا تتشابك الأوامر العسكرية مع الحسابات السياسية.الفصل الثاني: القيادة الاستراتيجية: تتكدس البيانات وتضيق نافذة القرار.الفصل الثالث: منظور الرئيس: تتواجه المسؤولية التاريخية مع نقص المعلومات.يقوم إدريس إلبا بدور رئيس الولايات المتحدة؛ وقد أثار أداؤه جدلا بين مادح وناقد، كرئيس يقرأ العالم بعينين مثقلتين لا بسلطة مطلقة. الضوء من النافذة بارد والحقيقة على الطاولة ناقصة. بين شارة المنصب وثقل الدقيقة يتبخر وهم السيطرة، وتظهر مفارقة القرار الكبير حين تصنعه معلومات متقطعة. لحظة تقول إن الهيبة وحدها لا توقف صاروخا ولا تصلح خللا في منظومة اتصال تتأخر دائما نصف خطوةيكشف هذا التكرار عن ثلاثة مستويات رئيسية للانهيار:انقطاع الاتصالات: يصبح العطب التقني استعارة للعطب البشري، حيث لا يسمع أحد أحداً تماماً حين يصبح الزمن أقصر من القدرة على الإصغاء.اشترك فيالنشرة البريديةاشترك في النشرة البريدية وتابع أحدث أفلامنا الوثائقيةالخلافات في التقييم: يُقرأ المشهد نفسه في كل مرة بعيون مغايرة، مما ينتج عنه تردد نابع من تضارب تعريف المشكلة قبل تضارب حلولها.الانهيار الإنساني: يتسرب تدريجياً عبر ملامح الوجوه ونبرة الأصوات، ليتحول الصمت إلى حامل للذعر.الصنعة السينمائيةتشتغل المخرجة “بيغلو” بمزيج من الاقتصاد والصرامة في أدواتها السينمائية:الكاميرا: قريبة من الوجوه لالتقاط التغيرات الدقيقة، وبعيدة لتذكيرنا بأن الشخصيات عالقة داخل هندسة مكانية أكبر منها.المونتاج: يشبه نبض القلب، لا يستعرض القطع السريع ولا يترك المشاهد يسترخي، خالقاً شعوراً بأن الدقيقة أقصر من أن تحتوي كل ما يراد فعله فيها.
إعلان
الموسيقى التصويرية: تشد الحبل النفسي في الخلفية، تاركة للتوتر الداخلي أن يؤدي دوره.أحد بوسترات الفيلم يبدو أنه اختير لوجوه تتجاور دون بطل واحد، لتقول ان البيت كله على فوهة الخطر. كل الملامح هنا تحمل نصيبها من الدقائق الحرجة، ومن القرار الناقص. إعادة ترتيب السلطة من الفرد الى المنظومة، ومن اليقين الى الشك، حيث المعيار هو الزمن، والنجاة لا تصنعها الشجاعة وحدها، بل وضوح الطريق بين المعلومة والفعلالسينوغرافيا: الشاشات المتعددة تشارك الممثلين البطولة، والألوان الباردة في قاعات القيادة تقابلها إضاءة أكثر دفئاً في المشاهد القليلة خارج غرف القرار.يقف الأداء التمثيلي كأداة لإظهار تناقض الإنسان حين يقف بين منظومة صارمة ونفس بشرية مرتابة:إدريس إلبا: يقدم رئيساً يعرف كيف يبدو واثقاً وهو ليس كذلك، محاصراً بمعلومات غير مكتملة ووهم السيطرة. ريبيكا فيرغسون: تمنح شخصية الضابطة بعداً إنسانياً لا ينال من احترافيتها. غابرييل باسو: يفاجئ في دور المستشار الشاب بطاقة عصبية محكومة تكشف ثقل القرار على موظف لا يملك رفاهية الخطأ. تريسي ليتس: يقدم جنرالاً يقف على الحد الفاصل بين الحِدة والانفعال.الممثل البريطاني “إدريس إلبا” وزوجته “سابرينا دوور إلبا” على السجادة الحمراء لفيلم “A House of Dynamite” المشارك في المسابقة الرسمية للدورة 82 من مهرجان فينيسيا السينمائيمع ذلك، لا يترك البناء المتكرر مساحة واسعة لنمو الشخصيات، وهو خيار فني محسوب يخدم فكرة الفيلم الأساسية، لكنه أثار انتقادات أيضا.النهاية المعلقةتبلغ المقامرة أقصاها في النهاية المعلقة، حيث لا حسم نهائي ولا مشهد كارثي. يتركنا السرد على أعتاب القرار. يرى المدافعون عن هذا الخيار أنه بيان فني وفلسفي لا يريد بيع وهم الخلاص، بينما يرى منتقدوه أنه تهرب من ذروة درامية مطلوبة. لكن حتى هؤلاء يعترفون بأن اختيار “بيغلو” ينسجم مع منطق الفيلم الذي يشرّح ولا يحسم، يقلق ولا يسكّن.وصفت المخرجة كاثرين بيغلو، البالغة 73 عاما والتي دخلت التاريخ باعتبارها أول امرأة تفوز بأوسكار أفضل مخرج، النهاية المعلّقة للفيلم بأنها دعوة إلى الفعل. قالت: “شعرت أن عدم انفجار القنبلة كان فرصة لبدء محادثة. أود أن أرى الناس يقررون أنهم لا يريدون العيش في عالم شديد التقلب والاشتعال إلى هذا الحدالسياق السياسي والصناعيأثار الفيلم جدلاً سياسياً وإعلامياً حول دقة تصوير منظومة الدفاع الصاروخي، ونجح في نقل النقاش من قاعة العرض إلى المجال العام. وعلى المستوى الصناعي، يمثل الفيلم رهاناً محسوباً لمنصة البث التي أنتجته، لترسيخ صورتها كمنتج لأفلام مرموقة وجريئة. وتسببت مذاكرات داخلية للبنتاغون بحسب “بلومبيرغ” في جدل اضافي حول الفيلم، ساهم في التعريف وتداوله بالتأكيد.نقاط القوة والضعفبحسب النقاد وصفحات وماقع المراجعات السينمائية فمن نقاط قوة الفيلم خطابه البصري المتماسك، حيث التكرار ليس زينة بل أداة تشريح. ومن نقاط ضعفه المحتملة أنه يطالب المشاهد بصبر نقدي قد لا يتوفر دائماً، كما أن تضييقه لمساحات التعاطف الفردي قد يحرم بعض المتلقين من منفذ إنساني.نواه أوبنهايم (كاتب سيناريو الفيلم والرئيس السابق لـ NBC News) يتحدث على خشبة المسرح خلال عرض وسؤال وجواب لفيلم نتفليكس “بيت من الديناميت” التابع لأكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة (AMPAS) في مقر وكالة CAA بتاريخ 17 أكتوبر 2025 في لوس أنجلوس، كاليفورنياما هو السؤال الصحيح؟“بيت الديناميت” فيلم لا يريد الإجابة بقدر ما يريد طرح السؤال الذي يراه صحيحا: ماذا تفعل بمنظومة تتداعى حين يضيق الوقت؟ ينجح الفيلم في تحويل الدقيقة إلى بطل درامي، وقاعة الاجتماعات إلى مرآة للوعي الجمعي وهو يكتشف حدوده. في عالم يبدو كبيت مليء بالديناميت، يذكرنا هذا العمل أن الفتيل ليس خارجنا دائماً، بل قد يكون في داخل مؤسساتنا، وفي داخلنا نحن.ماذا عن نتفلكس؟حقّق الفيلم انطلاقة قوية من حيث المشاهدة: فهو تصدّر قوائم المنصّة في عدّة دول خلال أيامه الأولى، ما يُمثّل دفعة تسويقية مهمّة لنتفلكس كمنصة تنتج وتوزّع أعمالًا سينمائية “كبرى”.كما أن التعاون مع مخرِجة “ماركة” مثل “كاثرين بيغلو” التي سبق وأن حصلت على جوائز كبرى – يمنح نتفلكس مصداقية إنتاجية في أفلامٍ تُحاول الجمع بين الترفيه والرسالة السياسية/الإنسانية.أما من الناحية التسويقية، طرح الفيلم فكرة “ما يحدث خلف الكواليس” وخطر نووي “واقع” أولاً بأول، ما خلق نقاشا ومشاركة اجتماعية وهو أمر مطلوب في عصر البث الرقمي بالذات.السينما بين حد الكشف وحدود التوظيفتؤكد هذه التجربة ان السينما ليست ترفا جماليا بل اداة سياسية حية قادرة على مساءلة الانظمة وزحزحة سرديات القوة وكشف ثغراتها حين تضيق المسافة بين الصورة والقرار.فريق التمثيل والاخراج والانتاج يقفون كتفاً الى كتف في مهرجان نيويورك السينمائي، محاولين تأكيد أن “بيت الديناميت” مشروع جماعي قبل ان يكون اسما على ملصق. في مثل هذه الوقفات التي تتجاوز الذكرى والتوثيق إلى إبراز روح الأفلام، حين يتوزع الثقل على شبكة من الادوار والقرارات، ويبحث عن سينما تفكر وتجادل وتحرر الخطاب من مركزية البطل الواحدلكنها في اللحظة نفسها عرضة للتوظيف والتكييف بوصفها بنية رمزية عالية التأثير يمكن ان تستوعبها المنظومة لتلميع صورتها او لتمرير رؤيتها الامنية والاخلاقية كما يمكن ان تستولي عليها جماعات أصغر بوصفها “لوبيات” ضغط فنية تدافع عن اجندات افراد او مؤسسات.لذلك تصبح مشاغبة السينما للأجهزة الرسمية رهانا مزدوجا يربح حين يحافظ العمل على استقلال خياله النقدي ويخسر حين يتحول الى ملصق دعائي مهما بدا انيقا. والسؤال المفتوح دائما كيف نحمي هذه المساحة الحرة كي تظل قادرة على ازعاج السلطة وتحرير المتلقي من كسل السرد الواحد لا على اعادة تدويره بوجوه جديدة؟
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه




