هل ستكون "الدولة الدرزية" المأمولة: مدنية، وديمقراطية وتشاركية؟

عادةً ما يُستخدم تعبير "رؤية"، لتوصيف صورة ذهنية للمستقبل المطروح من جانب "قائد" أو مجموعة سياسية، يتم تقديمها لأنصاره، ويتم الترويج لها من جانب منظّرين محسوبين على هذا "القائد" أو "المجموعة السياسية".
وبقدر ما تكون هذه "الرؤية" منطلقة من الواقع، كما هو قائم، لا كما هو مأمول، كلما كان هذا "القائد" أو تلك "المجموعة السياسية"، أكثر صدقية مع أنصارها، في الوعد المقدّم بتحقيق هذا المستقبل.
وفي كثير من الأحيان، تنجح البروباغندا المروَّجة من جانب المنظّرين الموالين لهذا "القائد" أو "المجموعة السياسية" في حرف أنظار وعقول أنصارهم، عن هشاشة "الرؤية" المزعومة، جراء عدم انطلاقها من واقع قائم، بالفعل.
خلال الأسبوعين الفائتين، أطل الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز في سوريا، الشيخ حكمت الهجري، في تسجيلين مصوّرين، يكشف فيهما عن ركائز لـ "الرؤية"، التي يقدّمها لأنصاره. ومنذ سقوط نظام الأسد، في 8 كانون الأول الفائت، أشار الهجري إلى جملة ركائز، كان يراها هي الأنسب لبناء سوريا الجديدة. أولى تلك الركائز، هي اللامركزية، وثانيها، هي المدنية. ناهيك عن التشاركية في صنع القرار، التي كان يشير إليها بتعبيرات غير مباشرة. لكن ذلك تم تجاوزه بعد الأحداث الأليمة التي وقعت في السويداء، منتصف شهر تموز الفائت. وفي الإطلالات الأخيرة للهجري، كان يمكن التقاط تغيّر نوعي في الركائز، لتصبح: الاستقلال، المدنية، الديمقراطية. التغيّر الأبرز كان في أولى الركائز. بينما المدنية، والديمقراطية التي تتبع ضمناً، مبدأ التشاركية، بقيت الركائز التي يقدّم الهجري، بموجبها، "رؤية" تميّز المستقبل المأمول للـ "الدروز"، عن ذاك الذي ينتظرهم في ظل دولة سورية واحدة، تحكمها سلطة مركزية، هي الحكومة الانتقالية في دمشق، المُـتهمة بالإقصاء والاستفراد بالسلطة، واعتماد أدوات توحي بالتوجه نحو ديكتاتورية مستقبلية، تقوم على أساس التمييز الطائفي والعِرقي. وهي السردية التي تقوم عليها كتابات المنظّرين الداعمين لـ "رؤية" الهجري.
إن المخالفين لمطلب استقلال "الدروز"، من الشخصيات القيادية الدرزية ذاتها (كـ سليمان عبد الباقي، وليث البلعوس)، تم توصيفهم بـ "الخونة" في خطاب الهجري وجمهوره.
ونحن هنا نريد تجاوز كل ما يتعلّق بالكيفية التي يمكن بموجبها تحقيق "الرؤية" التي يقدّمها الهجري لجمهوره. فذلك مما تم الحديث عنه بكثافة في الآونة الأخيرة. ما نريد نقاشه هنا، هو، إلى أي حد يمكن للـ "رؤية" الهجري أن تؤسس كياناً سياسياً مغايراً لذاك الكيان الذي يدعو للانفصال عنه، بسبب طبيعته؟ ونكرر هنا، أن تلك الطبيعة محددة بصورة أساسية، وفق سردية أنصار "رؤية" الهجري، بثلاثية: التمييز الطائفي والعِرقي، والاستبداد، والإقصاء. لذا، يتم تأسيس "رؤية" الهجري، بالضد منها، وفق محددات ثلاثة: المدنية (ضد التمييز بين مواطني الدولة الواحدة على أساس الدين أو العِرق)، والديمقرطية (ضد الاستبداد)، والتشاركية (ضد الإقصاء). فهل يمكن تحقيق هذه "الرؤية" في "الدولة الدرزية" المأمولة، وفق وعد الهجري لأنصاره، بالانطلاق من الواقع القائم؟
يمكن استنباط الجواب من تعبيرات الشيخ الهجري، في إطلالتيه الأخيرتين. فهو تحدث عن اعتماده لما توافق عليه "المجتمع"، وهو حق تقرير المصير، "مهما كانت التضحيات". لكن كيف عرف الهجري، أن ذاك ما توافق عليه "المجتمع الدرزي"؟ نجد الجواب في إشارته إلى "الساحات والتجمعات اللي عم يعملوها شبابنا وحرائرنا"، أي التظاهرات المطالبة بالانفصال. لكن، هل تلك التظاهرات تعبير متفق عليه، عن إرادة "الدروز"؟ كيف نستطيع الجزم بذلك؟ ببساطة، استندت مطالبة الهجري بالاستقلال، إلى بضع تظاهرات، من السهل لسلطات الأمر الواقع في أي مكان، تنظيم أضخم منها بمرات، دون أن تعبّر بالضرورة عن إرادة الجمهور.
الملفت، أن المخالفين لمطلب استقلال "الدروز"، من الشخصيات القيادية الدرزية ذاتها (كـ سليمان عبد الباقي، وليث البلعوس)، تم توصيفهم بـ "الخونة" في خطاب الهجري وجمهوره. وإذا افترضنا أن الأغلبية "الدرزية" مصطفة بالفعل، وراء مطلب الهجري بالاستقلال عن سوريا، ماذا عن حق "الأقلية" التي تمثّلها "رؤية" عبد الباقي والبلعوس، بالوصول لتسوية سياسية مع دمشق ضمن سوريا موحّدة؟ ألا يحق لهذه "الأقلية"، إن افترضنا مجازاً أنها "أقلية"، أن تشارك في قرار مصيري ومُكلِف للغاية، بحجم قرار الاستقلال عن دمشق في بقعة جغرافية محصورة ومحدودة الموارد؟ إن كان الجواب: هو قرار "الأكثرية"، وإن افترضنا مجازاً أن ذلك صحيح، ألا يكون هو الوجه الآخر لسردية أنصار الحكومة في دمشق، أنهم يمثلون "الأكثرية"، ويحق لهم الاستفراد برسم معالم مستقبل البلاد؟! ألا يكون أنصار الهجري، بذلك، يقومون بما عابوه على الحكومة في دمشق، التي ادعت تمثيل "الأكثرية"؟!
يبقى أن هناك "أقليات"، بالمعنى الطائفي للكلمة، قد لا تحبّذ خياراً بحجم الانفصال المُكلف عن سوريا.
إحدى أبرز مؤشرات عدم وضوح "رؤية" الهجري، للهجري نفسه، تكراره ثلاث مرات على الأقل، الإشارة إلى المطالبة بالاستقلال في المنطقة الجنوبية في سوريا. فأي منطقة يقصد؟ كما نعلم، المنطقة الجنوبية تشمل درعا وريف القنيطرة. ونعلم جيداً، أن أبرز مشكلة قد تواجه مشروع الاستقلال للسويداء هو انعدام الوصل اللوجستي مع طرف خارجي يمكن أن يدعم هذا المشروع بشكل مباشر، والممر لذلك، هو عبر درعا حصراً، أو بقبول أردني غير متوافر. فهل كان استخدام الهجري لتعبير "المنطقة الجنوبية"، مراراً، عبثياً؟ أم أنه يعبّر عن إدراكه لهذا المقتَل اللوجستي للدولة المأمولة التي يعد بها أنصاره؟
وحتى مع الإقرار بأغلبية ساحقة لأهلنا الدروز في محافظة السويداء (بنسبة 90% تقريباً)، يبقى أن هناك "أقليات"، بالمعنى الطائفي للكلمة، قد لا تحبّذ خياراً بحجم الانفصال المُكلف عن سوريا. وقد استخدم الهجري تعبيرات حصرية خاصة بـ "الدروز" بوصفهم من ستمثّلهم الدولة المأمولة. ألا يشكل ذلك وجهاً آخر لما يُعاب على بعض أنصار الحكومة في دمشق، من الموتورين، الذين يتحدثون عن "سُنيِّة" الدولة السورية، بوصفها حقاً للـ "الأكثرية"؟
في الختام، لا يعني ما سبق، أننا نُغفِل حجم الخطيئة الكبرى التي اقترفتها الحكومة الانتقالية في دمشق، أثناء معالجتها لأزمة السويداء قبل شهرين. خطيئة جرتنا إلى ما نحن فيه اليوم، دون أن نغفل مسؤولية الهجري نفسه، ومن معه، في الدفع نحو هذه الخطيئة، أيضاً. أما الخطيئة الأخرى المُناظرة لها، الجارية اليوم، فهي تقديم "رؤية" كارثية لمستقبل الدروز، لا تستند إلى واقع، بل إلى مأمول غير قائم أساساً. هي بروباغندا سلطوية جديدة، تماثل ما يصدر عن مختلف السلطويات في العالم، والتي تستثمر في شد عصب أنصارها، بكل الطرق الملائمة، مهما "كانت التضحيات"، كما قال الهجري بنفسه. هي الوجه الآخر تماماً، لما يُعيبونه، فيمن يريدون الانفصال عنهم.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه