ما بعد "قيصر".. الاقتصاد والأمن في مقاربة واشنطن الجديدة تجاه سوريا
يفتح إلغاء "قانون قيصر" مجالًا جديدًا للتعامل مع الملف السوري، يقوم على إدخال العامل الاقتصادي في صلب المقاربة الأميركية. القرار بمساراته الفعلية أزال قيودًا كانت تعرقل أي تحرّك فعلي في ملفات إعادة الإعمار وتحسين المؤشرات الاقتصادية الأساسية، وأتاح لواشنطن هامشًا أوسع للتأثير في مسار الاستقرار من خلال أدوات اقتصادية وتنظيمية.
رفع العقوبات بالكامل يرتبط مباشرة بمحاولة دفع مسار التعافي الاقتصادي، ولو بحدّه الأدنى، باعتباره شرطاً ضرورياً لأي استقرار أمني طويل الأمد. بالنسبة لواشنطن، فإن إدخال الاقتصاد في المعادلة يوفّر أداة تأثير تختلف عن العقوبات. بحيث يصبح بالإمكان التأثير من خلال ضبط مسارات التمويل، وتوجيه أولويات إعادة البناء، وربط أي توسّع اقتصادي بدرجة الاستقرار الأمني.
سوريا.. التحوّل في المقاربة الأميركية
التحوّل الأخير يعكس قراراً أميركياً بالتعامل المباشر مع واقع بات مستقراً نسبياً، وبإعادة ترتيب أدوات الانخراط بما يتناسب مع أولويات المرحلة. هذا القرار وإن كان لا يقوم على إطلاق مسار سياسي شامل، لكنه يفتح مجالاً لإدارة الملف السوري عبر أدوات اقتصادية وأمنية أكثر مرونة، مع الحفاظ على هامش تحكّم يتيح التكيّف مع التطورات.
في أدبيات علم السياسة والعلاقات الدولية، تُستخدم مقاربات مثل "إدارة المخاطر" أو "الاستقرار الأدنى" لوصف سياسات لا تهدف إلى معالجة جذور الأزمات، ولكن تهتم بمنع الانهيار، وتقليص كلفة الفوضى، والإبقاء على الوضع القائم ضمن حدود يمكن التعايش معها. في هذا الإطار، لا يكون الفاعل الدولي بصدد اختيار مسار جديد بقدر ما يكون مهتماً بالتكيّف مع واقع لم يعد قابلاً للتجاهل أو التأجيل.
بالنسبة لواشنطن فإن إعادة الإعمار في سوريا تتجاوز بكونها ملفاً إنسانياً أو اقتصادياً صرفاً في الحسابات الأميركية، بل هي أقرب إلى جزء من معادلة الاستقرار. حيث إن البنية التحتية المدمّرة، وغياب فرص العمل، كلها عوامل تضعف قدرة أي سلطة على فرض السيطرة، ومن هذا المنطلق، فإن فتح المجال أمام مشاريع إعادة البناء، ولو بشكل تدريجي، يُنظر إليه كوسيلة لتقليص دوافع الاضطراب.
ولو راجعنا أدبيات بناء السلام والدولة ما بعد النزاع، فإنه يُنظر إلى إعادة الإعمار أحياناً بوصفها أداة لضبط الاستقرار أكثر من كونها مساراً للتنمية أو النمو الاقتصادي. هذا المنظور لا يتعامل مع إعادة البناء كعملية شاملة تهدف إلى إعادة تشكيل الاقتصاد أو معالجة اختلالاته البنيوية، وإنما كوسيلة لتقليص مصادر الاضطراب المرتبطة بانهيار الخدمات، تفكك البنية التحتية، وارتفاع معدلات البطالة. وضمن هذا الإطار، تُستخدم مشاريع إعادة الإعمار المحدودة لتخفيف الضغوط الاجتماعية والأمنية، ولمنع تحوّل التدهور الاقتصادي إلى عامل تفجير سياسي أو أمني، دون أن تُقترن برؤية تحول اقتصادي طويل الأمد.
في المقابل، لا تشير المعطيات المتاحة إلى توجّه أميركي نحو دعم إعادة إعمار شاملة أو تشجيع تدفّق واسع وسريع للاستثمارات. المقاربة تبدو أقرب إلى السماح بتحسينات تدريجية في القطاعات الأساسية، بما يضمن استمرار عمل مؤسسات الدولة والحدّ من التدهور، من دون الانخراط في مسارات اقتصادية يصعب التحكّم بإيقاعها أو نتائجها.
وهنا يرتبط هذا التصور بمفهوم "القدرة الدولتية الدنيا" في علم السياسة المقارن، والذي يركّز على الحدّ الأدنى من الوظائف التي يجب أن تكون الدولة قادرة على أدائها كي تبقى قابلة للاستمرار. يشمل ذلك تشغيل المؤسسات الأساسية، توفير الخدمات الحيوية، وضبط المجال الأمني والإداري، من دون افتراض بناء دولة قوية أو اقتصاد متماسك. بحيث يصبح دعم التحسينات الاقتصادية المحدودة جزءاً من استراتيجية الحفاظ على هذا الحدّ الأدنى من القدرة الدولتية.
التنسيق في ضبط الأمن
في سياق آخر، تأتي التحركات الأخيرة لتنظيم "داعش" في ظلّ مشهد العلاقات الثنائية بين واشنطن ودمشق، وفي لحظة تشهد فيها هذه العلاقة إعادة ترتيب لأدواتها وحدودها. سواء عبر الهجمات التي استهدفت جنديين أميركيين في تدمر، أو تلك التي طالت عناصر من الأمن السوري في معرة النعمان.
التنظيم يعتمد على هجمات محدودة، تستهدف إظهار قدرته على الحضور، واختبار جاهزية الأجهزة الأمنية، وإرسال رسائل سياسية وأمنية في توقيت حسّاس.
ويشير مقتل عنصرين أميركيين في محيط تدمر، وقتل عناصر من الأمن السوري، إلى أن التنظيم يحاول استغلال أي فجوة في التنسيق أو أي ضعف ناتج عن المرحلة الحالية، سواء على المستوى الأمني أو الاقتصادي.
هذا وتتناول أدبيات التمرّد المسلّح مفهوم "الإشارة الاستراتيجية" باعتباره أحد أنماط العنف منخفض الكلفة وعالي الدلالة. في هذا النمط، تهدف الهجمات إلى إرسال رسائل مدروسة حول القدرة على الحضور، والجاهزية العملياتية، والقدرة على الاختراق. من هذا المنظور، يمكن قراءة هجمات "داعش" الأخيرة باعتبارها رسائل موجّهة إلى أكثر من طرف في آن واحد، تهدف إلى التأكيد على أن التنظيم ما زال فاعلاً، وقادراً على استغلال أي لحظة انتقالية أو إعادة ترتيب في المشهد الأمني.
وفي مواجهة هذا التهديد، يبرز التعاون الأمني بوصفه أمراً واقعاً، لا مشروعاً سياسياً. فما يمكن أن يكون قد جرى أو سيجري هو تبادل معلومات، تنسيق محدود، وضبط مناطق معيّنة، دون بناء خطاب سياسي حوله. هذا التعاون لا يقوم بالضرورة على توافق استراتيجي، وإنما يقوم بشكل أساسي على تقاطع مصالح مؤقت ومحدّد.
بالنسبة لواشنطن، الهدف هو حماية وجودها المحدود، ومنع تحوّل مناطق معيّنة إلى مساحات مفتوحة أمام التنظيم. بالنسبة لدمشق، الهدف هو تثبيت السيطرة الأمنية ومنع التنظيم من إعادة بناء شبكاته. هذا التقاطع قد ينتج ترتيبات قابلة للتغيير وفق تطوّر التهديد.
حدود العلاقة وحدود التهديد
في دراسات ما بعد الصراع، يُميَّز بين عودة التنظيمات المسلحة كقوى سيطرة، وبين ما يُعرف بـ"بقايا التمرّد"، أي شبكات محدودة تحتفظ بقدرة على الإيذاء دون امتلاك مشروع توسّع. هذا المفهوم يساعد على فهم طبيعة تحركات "داعش" الحالية، التي تحاول الحفاظ على الحد الأدنى من الفاعلية، واستثمار الفجوات الأمنية والاقتصادية، بهدف البقاء لاعباً مزعجاً لا يمكن تجاهله.
إضافة إلى ذلك، لا بد من الإشارة أيضاً إلى أن أدبيات إدارة النزاعات، تستخدم مفهوم "الفاعل المُفسِد" لوصف جماعات مسلّحة تسعى إلى تعطيل مسارات الاستقرار أو التفاهم، عبر تقويض الثقة ورفع كلفة أي ترتيبات قائمة. هذه الجماعات لا تحتاج إلى قدرات عسكرية واسعة، إذ إن ما تحتاجه فقط؛ عمليات نوعية محدودة تُعيد إدخال عنصر عدم اليقين إلى المشهد، وتدفع الأطراف الفاعلة إلى إعادة ترتيب أولوياتها الأمنية. وضمن هذا الإطار، يُنظر إلى تحركات تنظيم "داعش" خلال الأيام الماضية بوصفها محاولة للعب دور المُفسِد، عبر استهداف أطراف مختلفة في توقيتات حسّاسة، بما يعيق تثبيت أي نمط مستقر من إدارة الأمن.
عموماً، فإن تحسين الوضع الاقتصادي، ولو بشكل محدود، ينعكس مباشرة على الوضع الأمني. كذلك فإن تراجع البطالة، تحسّن الخدمات، وإعادة تشغيل بعض القطاعات، تقلّص قدرة التنظيمات المسلحة على التجنيد والتحرك. وعلى العكس فإن استمرار التدهور الاقتصادي يوسّع هامش عمل هذه التنظيمات. لهذا السبب، لا بد من النظر إلى أن الرفع الكامل للعقوبات يأتي كجزء من معالجة الملف الأمني.
العلاقة بين واشنطن ودمشق اليوم ليست علاقة شراكة، ولا علاقة صراع مفتوح. هي علاقة إدارة ملف، تقوم على التعامل مع الوقائع كما هي، دون افتراض مسارات كبرى. الانخراط الأميركي يبقى محدوداً، مرتبطاً بملفات محددة، وقابلاً للتعديل وفق تطورات الميدان.
في المدى المنظور، يبدو أن هذا النمط من العلاقة، القائم على التعاون الأمني المحدود والدفع الاقتصادي المحسوب، مرشّح للاستمرار ضمن حدوده الحالية. أي تعديل في هذا الإطار سيبقى مرتبطاً بدرجة التهديد الأمني، وبقدرة التحسّن الاقتصادي على الاستمرار، إلى جانب متغيرات ميدانية وسياسية يصعب ضبطها أو التنبؤ بمسارها بدقّة.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
اقرأ أيضاً

قوى الأمن الداخلي تنتشر في بلدة ترمانين بريف إدلب
منذ ساعة واحدة
قسد ولعبة الرهان على الزمن
منذ ساعة واحدة
حي الأكراد الدمشقي
منذ ساعة واحدة

