عسكرة السواحل السودانية: المقامرة الإيرانية الكبرى لتخفيف الضغط الدولي

بينما تشتعل نيران الحرب الأهلية في أزقة الخرطوم ومدن السودان، تلوح في الأفق ظلال “الهلال الإيراني” وهي تحاول الامتداد نحو شواطئ البحر الأحمر.
حيث لم يعد الدعم العسكري الإيراني للجيش السوداني مجرد صفقات سلاح عابرة، بل بات يُمثل حجر زاوية في استراتيجية طهران التوسعية التي تسعى لاستبدال نفوذها المنحسر في بعض جيوب الشرق الأوسط بموطئ قدم استراتيجي في القارة السمراء، محولةً الأزمة السودانية إلى نافذة جديدة لتهديد الملاحة الدولية ومحاصرة خصومها الإقليميين.
فعودة العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسودان عام 2024 لم تكن إلا ستاراً لأطماع إيرانية بعيدة المدى، تهدف إلى إقامة قواعد لوجستية على ساحل السودان، مما يضع أمن البحر الأحمر والقرن الأفريقي في قلب صراع النفوذ الإيراني المتصاعد.
بورتسودان في المدار الإيراني
أدت الحرب الحالية إلى تحولات جذرية في الخارطة الجيوسياسية لمنطقة البحر الأحمر، حيث برزت مخاوف دولية وإقليمية متزايدة عقب استئناف العلاقات بين السودان وإيران بعد فترة وجيزة من اندلاع النزاع.
وتأتي هذه الخطوة في وقت تسعى فيه طهران لتعزيز حضورها الاستراتيجي على الممرات المائية الدولية، خاصة مع امتلاك السودان ساحلاً ممتداً لأكثر من 700 كيلومتر يمثل نافذة حيوية على البحر الأحمر.
وفي خطوة عملية تعكس هذا التقارب، استقبلت مدينة بورتسودان مؤخراً وفداً من “هيئة الموانئ البحرية الإيرانية” لتقييم القدرات الفنية للميناء ومدى جاهزيته لاستقبال السفن، وذلك وفقاً لتقارير إعلامية استندت إلى بيانات وزارة البنية التحتية السودانية.
وتشير هذه الزيارة في سياقها السياسي والعسكري الراهن إلي أن إيران والتي تسعى منذ عقود للحصول على نقطة تمركز دائمة على البحر الأحمر، فوصول وفد فني لتقييم “إمكانات الميناء” يعني أن الأمر تجاوز التفاهمات السياسية إلى “التنفيذ التقني”، وهو ما قد يمهد لتواجد سفن إيرانية (تجارية أو حتى عسكرية) بشكل منتظم في بورتسودان.
ووقوف الوفد على “المواصفات الفنية لاستقبال السفن” قد يشير إلى رغبة في إنشاء خطوط إمداد بحرية مباشرة، أو ربما تطوير أرصفة خاصة يمكنها التعامل مع نوعية محددة من الشحنات أو السفن الإيرانية الكبيرة، مما يثير مخاوف من تحويل الميناء إلى مركز لوجستي لعمليات أوسع.
ولهذا فأن هذه الزيارة ليست مجرد “بروتوكول”، بل هي خطوة عملية نحو ” شرعنة الوجود الإيراني” في السودان، وتحويل الساحل السوداني إلى جبهة جديدة ضمن صراع النفوذ الإقليمي في البحر الأحمر.
من ناحية السودان فأن هذه الزيارة تمثل “ورقة ضغط” تستخدمها تجاه القوى الدولية والإقليمية، مفادها أنه في حال استمر الضغط عليه أو غياب الدعم، فإنه سيمضي قدماً في تحالفات بديلة مع خصوم الغرب (إيران وروسيا).
المحلل السياسي أسامة الهتيمي في حديثه مع “الحل نت” يقول: “لنشير أولًا إلى أن اتفاق بكين بين المملكة العربية السعودية وإيران، برعاية صينية في آذار/مارس 2023، كان سببًا لاستعادة العلاقات مجددًا بين السودان وإيران بعد قطيعة في العلاقة بين البلدين منذ عام 2016، وذلك بعد توتر شهدته هذه العلاقة منذ عام 2014 تخللته مشاركة الجيش السوداني في عاصفة الحزم التي قادتها المملكة العربية السعودية ضد المتمردين الحوثيين في اليمن.
ويضيف الهتيمي “كان من الممكن للعلاقات السودانية الإيرانية أن تتطور بشكل متسارع، يتبعه بطبيعة الحال مظاهر لنفوذ إيراني جديد في السودان، لولا التطورات السياسية الدراماتيكية التي شهدها السودان وأسفرت عن اندلاع حرب حامية الوطيس بين الجيش وقوات الدعم السريع، التي كانت أحد مكوناته”.
هل تصبح بورتسودان القاعدة الجديدة لـ “محور المقاومة”؟
تتجاوز الطموحات الإيرانية في السودان حدود الصفقات العسكرية المباشرة، لتستهدف تموضعاً استراتيجيًا طويل الأمد في منطقة شديدة الحساسية.
وهذا ما أكد عليه ناجح مصطفى النجار، الكاتب الصحفي الباحث في الشأن الدولي في حديثه مع “الحل نت” قائلا: “إن الحديث عن دور إيران في السودان يتقاطع مع ثلاث دوائر متزامنة وهى: كسر العزلة الإقليمية، استثمار فراغات الحرب الأهلية لبناء نفوذ قابل للتوظيف، والسعي نحو التموضع على البحر الأحمر.
يضيف “النجار، “نعم إيران تسعى إلى الخروج من العزلة عبر بوابة السودان، حيث تتيح السودان لإيران قناة تواصل مع أفريقيا والبحر الأحمر بعيدًا عن نقاط الاحتكاك التقليدية، ما يمنحها ورقة حضور إقليمي لتخفيف العزلة وتعويض تراجعات في مسارح إقليمية أخرى مثل: سوريا ولبنان على سبيل المثال، رغم تواجدها المحدود هناك”.
وعلى الرغم من تمدد النفوذ الإيراني في السودان إلا أن الخطورة الحقيقية لا تأتي من مجرد دعم لأطراف محلية بل من تحويل النزاعات الداخلية إلى حروب إقليمية مفتوحة عبر استراتيجية “الدفاع الأمامي” وتشكيل ما يعرف بـ “محور المقاومة”.
هذا التدخل لم يبقَ حبيس الحدود الوطنية للدول، بل ربط مصائر هذه الساحات ببعضها البعض ضمن صراع جيوسياسي أوسع ضد إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائهما الإقليميين.
فقد تحولت الأزمة السورية من ثورة داخلية إلى ساحة تصفية حسابات إقليمية كبرى بسبب التدخل الإيراني المباشر (عبر الحرس الثوري) وغير المباشر (عبر الميليشيات العابرة للحدود).
وفي لبنان يمثل حزب الله “جوهرة التاج” في الاستراتيجية الإيرانية، ولم يعد دوره مقتصرًا على الدفاع عن لبنان، بل أصبح فاعلاً إقليميًا. فقام حزب الله، بتوجيه إيراني، بتدريب ميليشيات في العراق واليمن، مما خلق شبكة مترابطة من المقاتلين الذين يتحركون وفق أجندة واحدة، ونقل التدخل الإيراني الصراع في اليمن من نزاع على السلطة إلى تهديد للأمن القومي الإقليمي والدولي.
وذلك من خلال دعم الحوثيين بالصواريخ الباليستية والمسيرات، خلقت إيران جبهة استنزاف جنوبية لدول الخليج.
وساهم الدعم الإيراني للفصائل الفلسطينية (مثل حماس والجهاد الإسلامي) في تعزيز قدراتها العسكرية، لكنه ساهم أيضاً في ربط القضية الفلسطينية بمحاور الصراع الإقليمي.
ويري الهتيمي في هذا الإطار، أن إيران لن تتردد في أن بذل قصارى جهدها لتنفيذ ما كانت قد شرعت فيه سابقًا، بل إنها ستكون هذه المرة أحرص على تنفيذه، خاصة بعد الضربات التي تعرضت لها إيران في كل من لبنان وسوريا، والضغوط الشديدة التي يتعرض لها الحوثيون في اليمن، فقد أضحت في حاجة ماسة إلى إعادة التموضع في البحر الأحمر، مستغلةً تعلّق السودان بأي قشة تساعده على النجاة من الغرق بعد المكاسب التي حققتها قوات الدعم السريع.
ولعل ما يدعم تلك الإجراءات هو وصول وفد من هيئة الموانئ البحرية الإيرانية قبل أيام إلى بورتسودان للوقوف على إمكانات الميناء والمواصفات الفنية الخاصة باستقبال السفن”.
من جهته يرى النجار: “أنه ربما هناك دور عسكري غير مباشر، من خلال الدعم التقني والعسكري، لكنه قد يكون محدود النطاق ومشروط سياسيًا، يشمل مسيرات، قطع غيار، وتدريب، دون تورط قتالي مباشر، بجانب دور طهران في المجال الاستخباراتي واللوجستي، عبر السعي لربط نقاط رصد واتصال ونقل في الشرق السوداني، ما يعزز بل ويخدم شبكات إيران الإقليمية، مع الحفاظ على مسافة سياسية تحميها من تبعات داخلية.”
مخاطر عسكرة السواحل السودانية
يمثل ترسيخ الوجود الإيراني على السواحل السودانية نقلة نوعية في استراتيجية طهران، تمنحها القدرة على مراقبة الممرات البحرية الحيوية، والتحكم في شريان التجارة العالمية بما يخدم أجندتها الإقليمية.
إن هذا التموضع لا يقتصر على الوجود الجغرافي فحسب، بل يهدف إلى خلق “تكامل عملياتي” مع الحوثيين في اليمن، مما يضع أمن البحر الأحمر بين فكي كماشة، ويفاقم الهواجس الأمنية لدول المنطقة، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية ودول الخليج.
ولا تتوقف الخطورة عند حدود الرقابة البحرية؛ فالدعم العسكري الإيراني المباشر لحكومة بورتسودان بالأسلحة والخبرات ينذر بتصعيد أمني غير مسبوق، من شأنه إطالة أمد النزاع الداخلي السوداني وتصدير عدم الاستقرار إلى دول الجوار.
هذا التحول قد يحول البحر الأحمر من ممر دولي للتجارة إلى ساحة مفتوحة للمواجهات الدولية الكبرى، مما يضع الملاحة العالمية في دائرة الخطر الدائم. وعلى المستوى السياسي، ترى طهران في انخراطها بالسودان وسيلة “لتخفيف الضغط” عن الداخل الإيراني، عبر تشتيت الأنظار الدولية وفتح جبهات نفوذ جديدة تمنح النظام هامشاً للمناورة والالتقاط الأنفاس.
وبذلك، يتحول السودان في المنظور الإيراني من مجرد حليف محلي إلى نقطة انطلاق استراتيجية للتوسع في العمق الأفريقي، وإحكام السيطرة على الممرات المائية، وتعزيز أوراق القوة في صراع النفوذ الإقليمي.”
كما أنه ومع الوقت سيؤدي النفوذ الإيراني في السواحل السودانية إلى زيادة الضغط على القوات المسلحة السودانية، ويُضعف موقف البلاد الرافض لإنشاء قاعدة بحرية إيرانية، لا سيما في ظل تصاعد حدة الحرب الأهلية، مما يزيد من حاجة الجيش إلى الدعم الإيراني ويوكد النجار: “أن التأثير على الملاحة ممكن نظريًا، ولكن إذا تصاعد التموضع إلى قدرات تهديد، لكن البيئة الرقابية والردع الدولي يجعلان هذا السيناريو عالي الكلفة وربما يكون قابل للاحتواء مبكرًا”.
ويختم الهتيمي حديثه: “أن الدور الذي تلعبه إيران في السودان، حتى لو كان دعمًا مقدمًا إلى الجيش السوداني، يبدو في ظاهره نصرةً للشرعية في البلاد، فإن ذلك كفيل بأن يدفع القوة الدولية للتدخل من أجل وقف الاستحواذ الإيراني، مما سيساعد في إبقاء حالة الحرب فترات أطول، وذلك بدعوى أن السودان قد أصبح جزءًا من شبكة الدعم الإيرانية. وعلى الرغم من أن ذلك يبدو أيضًا مناقضًا لهدف الدعم الإيراني، فإنه يتوافق من جانب آخر مع طموحات إيران التي تسعى ربما إلى إبقاء حالة الحرب لأمد أطول، بما يكفل لها أن تجد موطئ قدم دائم داخل معادلة ما بعد الحرب.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
اقرأ أيضاً

رقم قياسي لـ اوديغارد هذا الموسم
منذ 2 دقائق




