باحثون يكتشفون أول رواسب كهرمان في أميركا الجنوبية تحتوي على حشرات

اكتشف فريق دولي من الباحثين أول رواسب كهرمان في أميركا الجنوبية تحتوي على حشرات محفوظة في محجر "جنوفيفا" شرقي الإكوادور.
ويعود عمر هذه الرواسب إلى نحو 112 مليون سنة، أي إلى منتصف العصر الطباشيري، ما يوفر لمحة نادرة عن غابة قديمة كانت جزءا من القارة العملاقة "جندوانا".
الكهرمان، وهو راتنج متحجر من أشجار قديمة، يُعد من أهم المواد الحافظة للآثار البيولوجية، إذ يحبس داخله أجزاء من نباتات أو حشرات نادرة الحفظ في غيره من السجلات الأحفورية.
ورغم وجود عينات تعود إلى 320 مليون سنة، فإن معظم الرواسب الكبرى المكتشفة حتى اليوم وجدت في نصف الكرة الشمالي، ما ترك فجوة معرفية كبيرة بشأن التنوع الحيوي والنظم البيئية في نصف الكرة الجنوبي خلال "العصر الطباشيري" والممتد بين 143 و66 مليون سنة مضت.
وبحسب دراسة نُشرت في دورية "كومينيكيشنز إيرث آند إنفايرونمنت" (Communications Earth & Environment)، حلّل الباحثون عينات من الكهرمان وصخور التكوين المحيط به، المعروف باسم "تكوين هولين"، ووجدوا نوعين من الكهرمان: أحدهما تشكّل تحت سطح الأرض حول جذور الأشجار المنتجة للراتنج، والآخر تكوّن في الهواء عند تعرّض الراتنج مباشرة للعوامل الجوية.
وفي 60 عينة من الكهرمان الهوائي، اكتشف الفريق 21 شظية بيولوجية محفوظة، شملت حشرات من خمس رتب مختلفة، منها الذباب والخنافس والدبابير والنمل إضافة إلى جزء من خيوط نسيج عنكبوت، كما كشفوا في الصخور المحيطة عن بقايا نباتية متنوعة مثل الأبواغ (خلايا تكاثر لاجنسية) وحبوب اللقاح.
الأحواض الرسوبية
الكهرمان راتنج متحجر، أصبح واسع الانتشار خلال فترة تُعرف باسم "الفترة الباريمية" الممتدة من نحو 122 مليون سنة مضت مما يمثّل بداية فترة الراتنج الطباشيري ما بين 125-72 مليون سنة مضت، وبينما كان الكهرمان شائعاً في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، لم يسبق الإبلاغ عن وجود كهرمان يحتوي على شوائب من المفصليات الأرضية من العصر الميزوزوي في أميركا الجنوبية.
وفي قلب شرق الإكوادور، يمتد حوض الأورينتي، أحد أغنى الأحواض الرسوبية في أميركا اللاتينية. ولا يُعد هذا الحوض مجرد تراكم للصخور الرسوبية، بل يمثل مسرحاً لصراعات جيولوجية امتدت لعشرات الملايين من السنين، حيث تعاقبت عليه أنهار وغابات مدارية كثيفة، دُفنت معها أسرار نباتية وحيوانية تحوّلت بمرور الزمن إلى مصادر للطاقة والمعرفة.
ومن هذا الحوض تُستخرج اليوم غالبية صادرات النفط الإكوادورية، كما أنه يضم في طبقاته رواسب كهرمان نادرة، أعادت العلماء إلى "حقبة الميوسين"، أي قبل نحو 15 إلى 20 مليون سنة.
في وسط الحوض يقع ما يُعرف بـ"تكوين هولين"، وهو مجموعة من الطبقات الرسوبية التي تعود إلى العصر الطباشيري المبكر، وتتميّز بغناها بالمواد العضوية. وقد احتفظت هذه الطبقات ببقايا من الراتنجات النباتية التي تحوّلت لاحقاً إلى كهرمان.
ويؤكد العلماء أن هذا الحوض لا يُعد مجرد "مستودع أحافير"، بل يمثّل سجلاً لظروف بيئية مركّبة، إذ وُجدت داخله أنهار عذبة، وغابات استوائية، ورواسب غنية بالمواد العضوية، شكّلت لاحقاً أساساً لأكبر حقول النفط في البلاد.
وقد كشفت الدراسة عن وجود نوعين مميزين من الكهرمان في تكوين "هولين" ما يفتح نافذة جديدة على النظم البيئية القديمة في أميركا الجنوبية.
وأظهر التحليل الميداني أن الكهرمان الأكثر شيوعاً تكوّن حول جذور النباتات المنتجة للراتنج، بينما تَشكّل النوع الأقل انتشاراً في الهواء عندما خرجت قطرات الراتنج إلى السطح.
واتسم الكهرمان الجذري بأحجام كبيرة قد تصل إلى 40 سنتيمتراً، لكنه خلا من بقايا الكائنات الدقيقة بسبب ظروف تكوينه المغلقة، في حين احتوى الكهرمان الهوائي، الأصغر حجما -أقل من 7 سنتيمترات- على حشرات وقطع من شبكات العناكب.
وأجرى الباحثون تحاليل بالأشعة تحت الحمراء لعينات الكهرمان من موقع "جينوفيفا"، وقارنوها بعينات من مواقع إكوادورية أخرى ورواسب كهرمان كريتاسي في لبنان، وإسبانيا، وفرنسا، وميانمار، والولايات المتحدة.
وأظهرت النتائج تشابهاً واضحاً يشير إلى أن مصدر الراتنج كان أشجاراً صنوبرية من فصيلة "الأروكارية"، وأثبتت الاختبارات الكيميائية أن الكهرمان يحتوي على مواد هيدروكربونية مرتبطة بالبيتومين الموجود في الصخور الحاملة للنفط في تكوين "هولّين".
وبيّنت النتائج أن البترول تسرب إلى داخل الكهرمان وغيّر من تركيبه الجزيئي، ما أدى إلى فقدان بعض المكونات الأخف واحتفاظه بمركبات ثقيلة غير مألوفة.
وتعزز هذه العلاقة الجيولوجية بين الكهرمان وحقول النفط من قيمة التكوين كمصدر لفهم كل من تاريخ الغابات القديمة وتاريخ البترول في الأمازون.
كائنات داخل الكهرمان
وكشف الفريق البحثي عن 21 تضميناً حيوياً داخل عينات الكهرمان الهوائي، تنوعت بين ذبابيات صغيرة وخنافس نادرة من فصيلة "تيتراتوميدي"، وأنواع من الدبابير الطفيلية إضافة إلى حشرة مائية وبقايا شبكة عنكبوت.
عاشت الذبابيات الصغيرة في بيئات رطبة قريبة من المسطحات المائية، وكان بعض أنواعها يتغذّى على دم الفقاريات الصغيرة أو على الحشرات الأخرى عبر أجزاء فم ثاقبة، بينما تغذّى بعضها الآخر على الطحالب والمواد العضوية الدقيقة في الماء. ويُشير وجودها إلى أن الغابة كانت تضم بركاً وجداول وفّرت موئلاً مثالياً لهذه الكائنات.
أما الخنافس النادرة، فقد عاشت غالباً على جذوع الأشجار الميتة أو داخل الأخشاب المتحللة، حيث تغذّت على الفطريات التي تنمو في تلك البيئات. ويُلمّح وجودها إلى دورة بيئية متكاملة، إذ ساهمت هذه الحشرات في إعادة تدوير المواد العضوية والحفاظ على التوازن بين الأشجار والفطريات.
واشتهرت الدبابير الصغيرة بقدرتها على وضع بيضها داخل بيض حشرات أخرى، وعاشت كطفيليات طبيعية تحدّ من أعداد الكائنات المضيفة مثل الجراد أو الحشرات الطائرة الصغيرة. وقد شكّل هذا الدور الطفيلي عنصراً مهماً في ضبط التوازن البيئي، إذ منع الانفجار العددي لبعض الأنواع.
وارتبطت الحشرات المائية الصغيرة بالأنهار والجداول، حيث قضت يرقاتها معظم حياتها، وبنت أنابيب صغيرة من الرمل أو الحصى لتعيش بداخلها، وتغذّت على الطحالب أو المواد العضوية المتحللة في الماء. ويُشير وجودها داخل الكهرمان إلى قرب الغابة من نظام نهري غني، ما يعزّز صورة الغابة كمكان رطب يفيض بالمياه العذبة والرطوبة العالية، وهو ما يعكس طبيعة الغابة الطباشيرية في تلك الحقبة.
مثّلت بقايا الشبكات دليلاً على نشاط المفترسات الصغيرة في الغابة؛ إذ نسجت العناكب خيوطها بين الأغصان لاصطياد الذبابيات والحشرات الطائرة الأخرى، ما يعكس تفاعلاً يومياً بين المفترس والفريسة داخل ذلك النظام البيئي.
وأظهرت النتائج أن الذبابيات كانت الأكثر شيوعاً، كما هو الحال في مواقع كهرمان أخرى تعود إلى العصر الطباشيري، بينما وفّر وجود حشرات المياه ويرقاتها المرتبطة بها دليلاً قوياً على وجود مسطحات مائية أو أنهار في الغابة القديمة.
وتشير النتائج إلى أن هذه الغابة كانت بيئة رطبة كثيفة الغطاء النباتي، يغلب عليها وجود أشجار منتجة للراتنج بكثرة، ما أتاح تشكّل الكهرمان وحفظ تفاصيل دقيقة عن الحياة القديمة.
ويرى الباحثون أن هذا الاكتشاف يمثّل خطوة محورية نحو فهم أعمق للتنوع البيولوجي في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية خلال العصر الطباشيري، ويساهم في سد فجوة مهمة في السجل الأحفوري العالمي.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
اقرأ أيضاً