ارتفاع الأدوية يدفع السوريين إلى الطب البديل: مؤشر على انهيار المنظومة الصحية؟

أدى الارتفاع الكبير في أسعار الأدوية والمعاينات الطبية في سوريا إلى تغيّر واضح في سلوك شريحة واسعة من المواطنين، الذين وجدوا أنفسهم عاجزين عن تحمّل تكاليف العلاج في المستشفيات والعيادات الخاصة، ما دفعهم إلى اللجوء المتزايد نحو الطب العربي البديل، وعلى رأسه الأعشاب الطبية، ليصبح الذهاب إلى “البزورية” في دمشق ليس فقط لشراء التوابل، بل للاستطباب أيضاً.
وخلال الأشهر الماضية، ارتفعت حركة الإقبال على محال العطارة والأعشاب في سوق “البزورية” بشكل لافت، إذ بات كثير من المرضى يبحثون عن وصفات بديلة لعلاج أمراض مزمنة أو طارئة، في ظل أسعار أدوية باتت خارج متناول الغالبية.
هذا التحوّل لم يعد خياراً ثقافياً أو تراثياً فحسب، بل أصبح ضرورة فرضها الواقع الاقتصادي، وسط غياب رقابة فعالة على أسعار الدواء، وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين.
الدواء رفاهية لمحدودي الدخل
قبل سنوات، كان الدواء جزءاً أساسياً من أي علاج، أما اليوم فقد بات بالنسبة لكثير من السوريين رفاهية لا يمكن الوصول إليها.
سوق البزورية في دمشق 17 كانون أول/ديسمبر – “الحل نت”
تشير شهادات مرضى لـ “الحل نت”، إلى أن أسعار بعض الأدوية تضاعفت عدة مرات خلال فترة قصيرة، في حين أصبحت أجور المعاينات في العيادات الخاصة عبئاً إضافياً لا يقل ثقلاً عن ثمن الدواء نفسه.
يقول محمود نقرش، موظف متقاعد من ريف دمشق، إن طبيبه وصف له دواءً للقلب، لكن سعر العلبة الواحدة تجاوز راتبه الشهري. ويضيف لـ “الحل نت”: “الدكتور قال لي لازم آخذه بشكل دائم، سألت عن سعره، حسّيت حالي عم أشتري ذهب مو دوا، رجعت على البيت وقلت خلص، الله كريم”.
بعد أيام، نصحه أحد جيرانه بالذهاب إلى “البزورية” وشراء خلطة أعشاب “مجرّبة”، فكانت تلك زيارته الأولى للسوق بقصد العلاج لا الطبخ.
في سوق البزورية، تتراص محال العطارة التي تفوح منها روائح الأعشاب، ويقف عطّارون تحوّلوا بالنسبة لكثير من الزبائن، إلى بديل عن الطبيب.
يسأل مرتادو السوق عن علاج للسكري، للضغط، للمعدة، للأعصاب، وحتى للاكتئاب، وتُقدَّم لهم خلطات جاهزة أو وصفات “موروثة”.
يقول أبو فادي دالاتي، عطّار يعمل في السوق منذ أكثر من 30 عاماً، إن الإقبال تضاعف بشكل كبير. ويضيف لـ “الحل نت“: “زمان كان يجي لعندي الناس تسأل عن بهار الكبّة أو القرفة، اليوم بيسألوني عن أعشاب للقلب وللسكري وللربو، في عالم ما معها ثمن حبة دواء”.
وفق أبو فادي، فإن كثيرين يأتون حاملين وصفات طبية، ويسألون إن كان هناك بديل عشبي “أرخص”، مشيراً إلى أن بعض المرضى باتوا يعتمدون كلياً على الأعشاب بسبب عجزهم عن شراء الدواء، خصوصا المرضى ممن يعانون من مشاكل المعدة بشكل عام، وتنظيم داء السكري من النمط الثاني.
مرضى بين التجربة والمخاطرة
رغم أن الطب البديل يشكّل متنفساً اقتصادياً للعديد من المرضى، إلا أن الاعتماد عليه بشكل كامل لا يخلو من مخاطر، خصوصاً في حالات الأمراض المزمنة أو الخطيرة.
سوق البزورية في دمشق 17 كانون أول/ديسمبر – “الحل نت”
تقول سعاد سكر، وهي سيدة خمسينية مصابة بالسكري، إنها اضطرت للتوقف عن دوائها بسبب غلاء السعر، الذي يتجاوز مليون ليرة سورية في الشهر، وهو ما يعد خارج قدرتها المادية، ما أجبرها على اللجوء إلى الأعشاب، رغم عدم فعاليتها المجدية.
وتضيف سكر لـ “الحل نت“، أنها تخشى المضاعفات، لكنها لا ترى بديلاً آخر، مؤكدة أن خيارها ليس نابعاً من قناعة، بل من عجز.
يحذّر أطباء من الاعتماد العشوائي على الأعشاب دون إشراف طبي، مؤكدين أن بعض الخلطات قد تتعارض مع أدوية أخرى أو تسبب مضاعفات خطيرة.
يقول طبيب باطنية في دمشق، فضّل عدم ذكر اسمه، إن ما يحدث “نتيجة طبيعية لانهيار المنظومة الصحية، موضحا أن “عندما يصبح الدواء أغلى من دخل المريض، فمن الطبيعي أن يبحث عن بدائل، حتى لو كانت غير مضمونة”.
ويضيف الطبيب في حديث لـ “الحل نت”، أن المشكلة لا تكمن في الطب البديل بحد ذاته، بل في غياب أي تنظيم أو رقابة، فيما حذر من “الجرعات والتداخلات التي تتسبب بها الأعشاب ومصدرها، والمريض هو من يدفع الثمن”.
“البزورية”: صيدلية الفقراء
لطالما كان الطب العربي جزءاً من الثقافة السورية، لكن عودته القوية اليوم لا تأتي بدافع الحفاظ على التراث، بل كحل اضطراري فرضته الأزمة الاقتصادية. حيث ما يزال معظم السوريين ضمن مستويات الفقر والفقر المدقع، نتيجة تدني الدخل وعدم تحسن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية.
سوق البزورية في دمشق 17 كانون أول/ديسمبر – “الحل نت”
نتيجة لذلك، يرى كثير من السوريين أن “البزورية” باتت “صيدلية الفقراء”، في وقت تزداد فيه أسعار الدواء دون أي ضوابط حقيقية.
تقول أم أحمد، ربة منزل من دمشق: “أنا مو ضد الطب الحديث، بس شو أعمل؟ لما معاينة الدكتور صارت 100 ألف، والدواء فوق طاقتي، بروح على العطّار”.
بين أسعار دواء لا تُحتمل، وبدائل غير مضمونة النتائج، ومع غياب سياسات واضحة لدعم القطاع الصحي وضبط أسعار الأدوية، يستمر الاعتماد على الحلول الفردية، رغم أنها محفوفة بالمخاطر، إذ يتفق الجميع على أن ارتفاع أسعار الأدوية والمعاينات هو السبب الرئيسي لهذا التحوّل الواسع.
ففي كل يوم، ترتفع الأسعار دون إعلان واضح أو تسعيرة مستقرة، فيما تُترك الخيارات أمام المرضى مفتوحة على المجهول.
وبين صيدليات بأسعار خارج قدرة معظم السوريين، وعطّارين بلا شهادات، تبقى الصحة معلّقة بين الحاجة والخطر، في مشهد يعكس عمق الأزمة المعيشية، حيث لم يعد السؤال: ما هو العلاج الأفضل؟ بل: ما هو العلاج الممكن؟
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه





