يعتبر استقلال القضاء في المنظومة الليبرالية الغربية من المبادئ الأساسية التي تقوم عليها دولة القانون، وهي تهدف إلى تمكين القاضي من إصدار أحكامه دون الخضوع إلى ضغوط أو تعليمات من طرف السلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية، أو أي سلطات خارجية ويشكل العمل بهذا المبدأ حسب تلك المنظومة ضمانة أساسية للمحاكمة العادلة ومساواة الجميع أمام القانون.ولتوفير شروط فاعلية هذا المبدأ فقد حرص المشرع الغربي في تنظيم القانون الأساسي للقضاة على تكريس مبدأ عدم إمكانية نقل القاضي من مكان عمله دون رضاه، أو عزله إلا عبر إجراءات معقدة من رفع الحصانة عنه وتمكينه من الضمانات المطلوبة؛ حفظا للأمن والاستقرار الوظيفي.وللعلم فإن القاضي لا يعتبر في صلب تلك المنظومة [الليبرالية الغربية] موظفا عموميا، وإنما هو في وضع عون دولة لارتباط الأول [أي الموظف العمومي] بالإدارة، بينما يرتبط الثاني [القاضي] بإحدى سلطات الدولة وهي السلطة القضائية.ولا يخفى أن القضاء يعد من مؤسسات الدولة التي تتأثر مباشرة بسياساتها التي تتخذ شكل قوانين. وهو إما سلطة منبثقة من المجتمع وعقائده حسب طبيعة الدولة مستقلة أم تابعة أو أنه مجرد أداة لتنفيذ مخططات الوصاية وفرض مصالح القوى المتسلطة عليه.وفي ضوء ذلك نقوم هنا بتقويم تاريخي وسياسي لوضع القضاء عبر حقبتين مرت بهما تونس، وهي حقبة الاستعمار الفرنسي، ثم ما يسمى بحقبة الاستقلال أو استخلاف الاستعمار التي شهدت تكريس تشريعه وهيكلته ضمن خيار التغريب، أي زرع المؤسسة القضائية في جسم مجتمع سبق استعماره.السياسات الاستعمارية في مجال القضاءسعت فرنسا الاستعمارية إلى انتهاج سياسة في المجال العدلي تخدم أهدافها في إضعاف أداء القضاء المحلي عبر إهمال تطوير إدارته وتكوين قضائه وتمويله عن طريق ميزانية الدولة، وفي الآن نفسه بناء منظومة قضائية دخيلة واسعة الاختصاص واعتماد وسائل تنظيم تمكنها من توفير الأمن والاستقرار للنظام الاستعماري، ولهذا الغرض فقد فرضت على الباي [حاكم تونس] اتفاقية "المرسى" الموقعة في 8 يونيو/تموز 1883 التي كرست الهيمنة الإدارية على الإيالة [الولاية] التونسية الكفيلة بفرض تنظيم النموذج العدلي الذي يخدم مصالحها في وضع يدها على البلاد. إعلان وقد جاء بالفصل 1 من الاتفاقية المذكورة: "لما كان مراد حضرة الباي المعظم أن يسهل للحكومة الفرنساوية إتمام حمايتها، تكفل بإجراء الإصلاحات الإدارية والعدلية والمالية التي ترى الحكومة المشار إليها فائدة في إجرائها".ولبلوغ أهدافها، لجأت السلطة الاستعمارية إلى تجريد "الباي" من سلطته التشريعية إذ يقتصر دوره على إمضاء التشريع الاستعماري وإدراجه بالرائد الرسمي [الجريدة الرسمية] وأشفعت ذلك بتسمية الكاتب العام للحكومة فرنسي الجنسية، وهو أهم سلطة إدارية كلفت بمراقبة الفريق الوزاري (المتكون من عدد 7 وزراء منهم تونسيان اثنان)، والمصادقة على الأحكام التي تصدر عن المحاكم الأهلية قبل عرضها على مصادقة الباي.ضرب السيادة الوطنيةيعتبر عمل القضاء مظهرا من ممارسة سيادة الدولة أي الفصل في النزاعات وقطعها على مقتضى تشريع يعبر عن إرادة الشعب الحر دون فرض من طرف قوة خارجية.وما يتعين الإشارة إليه هو أن القضاء في تونس شهد انقلابا في مستوى التشريع والهيكلة بعد احتلال الاستعمار دياره سنة 1881؛ إذ فرض التشريع الفرنسي والمحاكم الفرنسية، وضيق مجال عمل القضاء الأهلي خاصة في المادة الجزائية عبر فرض ما يسمى بالقضاء المقيد، وهو يعني أن أحكام محكمة الوزارة [أي المحكمة الجنائية] لا تكون قابلة للتنفيذ إلا بعد أن يكسيها الكاتب العام للحكومة الفرنسية الصيغة التنفيذية، وإن سلمت من هذا القيد المحاكم الشرعية التي تختص بالنظر في مادة الأحوال الشخصية والشؤون العقارية.وقد شهدت حقبة الاستعمار حل المحاكم القنصلية التي تشكلت في أواخر القرن الـ19 من طرف الدول الأوروبية التي رفضت خضوع جاليتها للمحاكم التونسية، مما يمثل تعديا على سيادة الإيالة آنذاك.وفرض الاستعمار الفرنسي إعادة تنظيم المحاكم الفرنسية عبر إقامة محاكم ابتدائية بأهم المدن التونسية: (تونس، بنزرت، صفاقس، سوسة) يغطي اختصاصها كامل تراب الإيالة ووسع اختصاصها الحكمي للفرنسيين والمتمتعين بالحماية الفرنسية من الأوروبيين وإلى التونسيين في بعض الحالات، كما اقتضى أمر 29 يناير/كانون الثاني 1926 عرض القضايا السياسية مهما كانت جنسية فاعلها على أنظار المحاكم الفرنسية، أما الطور الاستئنافي فتنظر فيه محكمة الجزائر للاستئناف.وغني عن البيان أن قضاء الحماية، إضافة إلى ما فرضه من وصاية إدارية على القضاء الأهلي فإنه تميز بالانحياز ضد أهل البلاد. فقد نظرت المحكمة الجناحية بتونس [محكمة الجنح] في جلستها يوم 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 1905 في قضية اعتداء بالضرب تسبب في موت المعتدى عليه أحيل فيها أحد الفرنسيين للمحاكمة وهو مطلق السراح! وقد أدانته المحكمة بالتهمة، وحكمت عليه بغرامة 50 فرنكا مع تأجيل التنفيذ!ولم يكن القضاء الأهلي ليوفر ضمانات أفضل للمتقاضي أو المتهم. إذ كانت محكمة الوزارة [الجنايات] تشتغل بواسطة موظفين يعملون تحت إشراف كاتب عام ومدير للأقسام العدلية يعينهما مباشرة رئيس الجمهورية الفرنسية، ومهمة هؤلاء هي إعداد الملفات وتولي التحقيق، ثم يتدخل الباي ليصادق على الحكم فيها، بعد مصادقة أولى صادرة عن الكاتب العام للحكومة، وهو ما يطلق عليه نظام العدالة المقيدة الذي أشرنا إليه آنفا. إعلان وهكذا كان القضاء من مهام الإدارة، والحكم من اختصاص الباي، وهو قضاء يفتقر إلى أدنى الضمانات القانونية ويكرس الاستبداد وينال من الشعور بالأمن.وكان هناك ما يسمى بقضاء "القياد نواب الباي" لدى القبائل، الذين يتمتعون بصلاحيات إدارية (الجباية أساسا)، وقضائية تتمثل في تنفيذ الأحكام الصادرة عن المحكمة ومراقبة المبعدين، كما أن لهم صلاحيات الضابطة العدلية يبحثون في الجرائم ويعاينونها ويوقفون المتهمين، وكانوا يلجؤون إلى أساليب التعذيب الجسدي وشتى وسائل الإرهاب.تلك كانت صورة القضاء الأهلي والمستعمر، اللذين يشتركان في أنهما تحت سلطة الإدارة الاستعمارية ووصايتها وهو ما يكشف ازدواجية المعايير لدى الدولة المستعمرة التي تعمل بعقيدة فصل السلطات داخل حدود ما يسمى بالمركز الاستعماري (المتروبول)، أما في مستعمراتها فتلجأ لسياسة الوصاية وفرض الأمن وخدمة مصالح القوة الخارجية، وهي المعايير المعمول بها في مجال التنظيم القضائي.الاستعمار لم يلغِ المحاكم فحسب، بل غرس نموذجا عدليا يخدم مصالحه ويقوض السيادةشهادة تاريخية على وضع القضاءالزعيم عبدالعزيز الثعالبي هو القيادة المؤسسة للحزب الحر الدستوري في تونس، وهو مع قيادات الحزب الآخرين من خريجي جامع الزيتونة وينتمون إلى ما يسمى بالمدرسة المحافظة أو التقليدية في تكوينهم ومرجعيتهم الفكرية، وقد تناول الثعالبي وضع القضاء في ظل "الحماية الفرنسية" في كتابه الشهير "تونس الشهيدة" الذي ألفه سنة 1920 (نشر دار الغرب الإسلامي 1988)، وقد اعتبر في مقدمته أن نظام العدلية بالبلاد التونسية هو "هيكل مريع يسوده الظلم وفقدان الأمن، وهو من أقوى وسائل الحكم والاضطراب الاجتماعي".وقد أتى في تحليله لوضع القضاء على مختلف المحاكم القائمة أو التي بعثها الاستعمار، ونقد بشدة افتقارها لنظام إداري مناسب يحفظ حقوق المتقاضي، إذ تُلقى المؤيدات بمقاعد المحكمة أو بمساكن القضاة أو بمكاتب العدول، كما أنها تفتقر لدفاتر يسجل بها قرارات المحكمة التي لا يجري تعليلها مخالفة منها للتشريع الإسلامي.كما أنه في حالة عدم توفر إجماع لدى هيئة المحكمة يحال الأمر على الكاتب العام للحكومة (فرنسي الجنسية)، والحال أن الأمر يهم المجلس الشرعي المختص بالأحوال الشخصية والشؤون العقارية الذي يرجح أحد المواقف أو يتخذ القرار بمفرده إلى غير ذلك من النقائص والإخلالات، منتقدا عدم التمويل الحكومي وعدم الإصلاح الإداري المطلوبين.كما انتقد عدم وجود مجلات قانونية ونصوص تشريعية إذ لم تصدر المجلات إلا بعد أربعة عقود من الاستعمار واقتصار وظيفة القضاة على اقتراح مشروع حكم يعرض على مصادقة الكاتب العام للحكومة، ثم على مصادقة الباي الذي يحتفظ "بالنفوذ القضائي".وانتقد عند استعراض أوضاع محكمة الوزارة (مقرها بالعاصمة) التي تختص في النظر في جنايات وهي تشتغل أيضا كمحكمة استئناف ومحكمة نقض، أساليبَ العمل المتخلفة بها .كما أشار إلى اكتظاظ المحاكم وضعف المستوى الثقافي للقضاة حتى إنهم لا يستطيعون استيعاب ما جرى سنه من قوانين ومجلات (القانون المدني 1906 قانون المرافعات 1910 الذي لا تطبق أحكامه على الإدارة، القانون الجنائي 1914)، وكذلك تدخل الإدارة الفرنسية في القضاء عبر مدير الأقسام العدلية والكاتب العام للحكومة.لاحظ الثعالبي أن بعث المجلس العقاري المختلط سنة 1885 هو أداة للحرب والاغتصاب ويهدف إلى تطبيق سياسة ترمي إلى "منح الجنسية الفرنسية للعقارات المسجلة" التي يصبح النزاع حولها من اختصاص المحاكم الفرنسية، وأن إدارة الحماية أصبحت تحتفظ بالسلطتين: التشريعية والتنفيذية إضافة إلى السلطة القضائية.وجاء في الصفحة 93 من كتاب "تونس الشهيدة" قول الثعالبي عن المستعمر: إن "سياسة الحكومة الفرنسية تريد أن تجعل من كل سلطة اجتماعية أداة من أدوات الاضطهاد والاستغلال". وهو بهذا النص يعيد للقضاء مصدره الطبيعي وهو المجتمع وعقائده وخياراته الحرة على نقيض مفهوم القضاء كأداة لتنفيذ سياسات قوى الوصاية والاستبداد.ما بعد"الاستقلال": الأزمة مستمرةولكن على خلاف تلك الرؤية للقائد المؤسس للحزب الحر الدستوري، فإن المجموعة المنشقة عن هذا الحزب والتي أسست عام 1934 ما يسمى الحزب الحر الدستوري (الجديد) لم يكن لها على مستوى التصور المرجعي والأيديولوجي خلاف مع "منظومة القضاء الفرنسي" الذي يعتبر مكونا من مكوناتها الفكرية ومشروعا مطلوبا للتعميم بعد الحصول على "الاستقلال".كما أن هذه النخبة التي تسلمت الحكم بعد إبرام الاتفاقيات العامة مع المستعمر السابق في 3 يونيو/حزيران 1955 (بورقيبة وفريقه)، لا تخرج تصوراتها في شأن الدولة والإدارة والأمن والقضاء عن ثقافة المستعمر عقيدة وتنظيما، إذ إن ما حصل بعد الاستقلال هو ما سمي "بتونسة الدولة" وأجهزتها، أي تغيير الماسكين بشؤونها دون المساس بهيكلتها وعقيدتها، بل كان جميعهم يعتبرون أن ما أقامه الاستعمار من محاكم وما أصدره من تشريع يمثل إنجازا في اتجاه عصرنة البلاد وحتى تحضيرها وتمدينها.كذلك أثبتت التجربة أن الحكام الجدد استعملوا نفس أساليب الاستعمار للتدخل في الشأن القضائي عبر الإدارة والتشريع وحتى باللجوء إلى استكمال التدخل المباشر من القائمين على السلطة التنفيذية.القضاء أداة حسم النزاع البورقيبي- اليوسفي:وفي الواقع لم يكن لبورقيبة مشروع بديل عن النموذج الفرنسي في القضاء وبعد اختيار نهج القطيعة الثقافية والحضارية واختيار التغريب؛ أي اقتباس المؤسسات الفرنسية وزرعها في مجتمع له خصائصه التاريخية، وذلك اقتناعا منه بأنه سبيل للتقدم والتخلص من مظاهر التخلف، ممتدحا الاستعمار فيما أنجزه على مستوى بناء مقومات شخصيتنا وثقافتنا، بالقول في خطابه الذي ألقاه بمدينة بنزرت في 13 يناير/تموز 1952: "نحن مدينون لفرنسا بتشكيل الجزء الأعظم من شخصيتنا وثقافتنا".لذلك تم الإبقاء على المحاكم في تنظيمها وتشريعها الفرنسي بصنفيها؛ العادي والاستثنائي (المحاكم العسكرية)، بل عمدت السلطة الجديدة إلى بعث المحكمة العليا في سياق محاربة الشق اليوسفي من الحركة الوطنية [نسبة إلى صالح بن يوسف] الذي رفض الاتفاقية العامة وطالب بالاستقلال التام.وفي معرض حديثه عن بعث المحكمة العليا صرح بورقيبة -رئيس الحكومة آنذاك- في خطاب ألقاه أمام المجلس القومي التأسيسي بتاريخ 24 أبريل/نيسان 1956 قائلا: "إن المحكمة العليا ستتكفل بالحكم على المجرمين والإرهابيين وقد أنشئت تحديدا لمعاقبة المجرمين في أقرب أجل وبتوافق مع توجه الشعب وليس من عملها تفحص التفاصيل والوقوف على الأخطاء النحوية…".وبذلك يتضح أن المفهوم المكرس للقضاء هو القضاء كأداة في يد السياسي لحسم نزاعاته وعداواته مع معارضيه.شهادة قاضٍ حول تدخل بورقيبة في عمل القضاءيعتبر بورقيبة خريج الجامعة الفرنسية ضمن النخبة التي تشبعت بقيم ثقافة استقلال القضاء وفصل السلطات. وقد كانت له مواقف في الإشادة ببعض القضاة الذين تمسكوا باستقلالهم إلا أن موقفه تغير حسبما جاء بشهادة القاضي محمود شمام المضمنة بمؤلفه: "من وحي الذاكرة" بعد أن باشر أمور دولة الاستقلال بنفسه "وتغيرت نظرته وتبدل اتجاهه وأصبح يعتقد أن كل المؤسسات هي خلايا وشعب تعمل تحت إمرته وتخضع لأوامره ونواهيه المطلقة؛ لأنه القائد الذي يحقق مصالح البلاد والعباد ولا يمكن لأي مؤسسة أن تخرج عن نفوذه والاستقلال عنه".كما روى ما حصل من اصطدام لبورقيبة مع القضاة يوم أن دعاهم في فواتح حكمه لحفل أقامه بقصره وأعد لهم الطعام والشراب ثم باشرهم بما كان يريده "وأشعرهم بأنه الآمر الناهي في كل شيء وأن الولاة نواب عنه وأن الجميع يخضع لما يصدر لهم ولا استقلال لأحد ولا يمكن التمسك بأي قانون إزاء الأوامر الصادرة عنه مباشرة أو من نوابه الولاة…" (ص 95 من المؤلف السابق ذكره).ومن المعلوم أن بورقيبة وحد تنظيم المحاكم وذلك بتعميم نمط المحاكم الفرنسية، وألغى المجلس الشرعي الخاص بالمسلمين والمجلس الموسوي الخاص بالجالية اليهودية، إلا أنه أحل ما يسمى بالوكالة العامة محل مدير الشؤون العدلية وأسندها إلى قاضٍ موثوق في إخلاصه المدعو محمد فرحات، وكلفه بالإشراف المطلق على سير دواليب القضاء إداريا وعدليا وقضائيا وانتخاب رجاله وتوجيههم وترقيتهم ومراقبتهم وإقصائهم؛ "وهكذا كان القضاء يسير بهدي من محمد فرحات لا من الوزير الذي له الإشراف على الأمور الإدارية، وإن كان ظاهريا يشرف على الجميع" (ص96 من ذات المصدر).ولم يقف أمر انتهاك مبدأ استقلال القضاء عند حد تسمية قاضٍ مخلص وموالٍ مشرف على جميع شؤون القضاء (محمد فرحات) بل "فرض بورقيبة ما يسمى بالمجلس الأسبوعي، يدعو إليه كبار القضاة بقصره وتعرض عليه بعض الملفات القضائية وقد حضرها المؤلف، وهي شكل من أشكال التدخل في شؤون القضاء"، ومظاهر حب بورقيبة للهيمنة المطلقة على كل الأمور حتى لو داس القوانين ولوي عنقها بتصرف مطلق لا يقف في وجهه أحد وهو يتباهى بعمله هذا ولا يخجل منه" (الصفحة 97 من ذات المصدر) وقد ساق المؤلف عدة أمثلة على تدخل بورقيبة في البت في ملفات قضائية عرضت عليه وبطلب منه.تغيير الوجوه بعد الاستعمار لم يكن استقلالا، بل استمرارية بنخب جديدة وأدوات قديمةدستور 1959: استقلال القضاة لا القضاء!يلاحظ أنه وإن نص بتوطئة الدستور على "إقامة ديمقراطية أساسها سيادة الشعب وقوامها نظام سياسي مستقر على قاعدة تفريق السلطات"، فإن الباب الرابع الذي عنوانه السلطة القضائية لم يتضمن أكثر من أربعة فصول وقد جاء به الفصل 65: "القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون". إعلان وبذلك لم يقع تكريس مبدأ استقلال القضاء وإنما استقلال القضاة، وقد كشفت الأعمال التحضيرية للمجلس التأسيسي أنه تم اختيار عبارة "القضاة" بقصد تحاشي الحديث عن "سلطة قضائية" تحظى بالاستقلال المالي والتنظيمي عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، بل إن الفصل 67 الذي أرسى المجلس الأعلى للقضاء الذي يسهر على الضمانات اللازمة للقضاة من حيث التعيين والترقية والنقلة والتأديب، قد أحال مسألة تركيبته واختصاصه على القانون الأساسي للقضاة الذي جعل من رئيس السلطة التنفيذية رئيسا له، ومن وزير العدل نائبا له بما كرس إشراف السلطة التنفيذية عليه.في حين نص الفصل 15 (جديد) من القانون الأساسي عدد 79 لسنة 1985 المؤرخ في 11 أغسطس/آب 1985 على ما يلي: "قضاة قلم الادعاء العام خاضعون لإدارة ومراقبة رؤسائهم المباشرين ولسلطة وزير العدل، أما أثناء الجلسة فلهم حرية الكلام".وإذا ما اعتبرنا الاختلال في توازن الصلاحيات بين النيابة العمومية ولسان الدفاع كما كرسته أحكام مجلة الإجراءات الجزائية، فإن هذا الفصل يشرع لتدخل السلطة التنفيذية في شخص وزير العدل في إجراءات التتبع والمحاكمة على حد السواء.ويعتبر القضاء الاستثنائي الأداة الخطيرة بيد السلطة التنفيذية لتلفيق القضايا السياسية ضد خصومها بعد حرمانهم من ضمانات المحاكمة العادلة مثل حياد القاضي ونزاهته وعلائية المحاكمة، وحرمانه من التقاضي على درجتين، كما جرى في محكمة أمن الدولة في عهد حكم بورقيبة، وفي المحكمة العسكرية الخاضعة لتعليمات وزير الدفاع الوطني، وقد كان مقرهما داخل ثكنة عسكرية مغلقة في وجه الصحافة ومراقبة المواطن.ولنا وقفة ثانية مع هذا الموضوع يكون محورها توظيف عملية "التشريع" كأداة لتغريب المجتمع. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
اقرأ أيضاً

وثيقة.. رواية حماس بشأن معركة طوفان الأقصى
منذ دقيقة واحدة




