عن القوالب الغنائية في وادي الفرات.. حوار مع الفنان السوري كمال حميد

ذات يوم؛ اصطحبني أحد الأصدقاء لحضور محاضرة بعنوان: "القوالب الغنائية في وادي الفرات"، للفنان كمال حميد الذي كان اسمه جديداً على ذاكرتي حينذاك. في تلك المحاضرة وجدتني بين سوريتين: سوريا التي نراها، وسوريا التي نسمعها. من تلك المسافة المثقلة بالتباين المدهش بدأ كمال حميد يفض الاشتباك والتداخل بين البنى الموسيقية السائدة في وادي الفرات.

مرّت تسع سنوات قبل أن تصلني -منذ أيام- دعوة لحضور سهرة خاصة مع الفنان كمال حميد، فاستيقظت رغبتي القديمة بإجراء حوار يسلّط الضوء فيه على القوالب الغنائية في وادي الفرات.

سأستعمل عنوان إحدى محاضراتك كسؤال؛ ما القوالب الغنائية التي يضمّها حوض الفرات؟

يقسم الغناء في وادي الفرات إلى ثلاثة أقسام:

أولا: الغناء في منطقة الفرات الأعلى؛ التي تمتدّ من مدينة جرابلس إلى مدينة الطبقة، مرورا بمنبج؛ ومسكنة.

ثانيا: الغناء في منطقة الفرات الأوسط؛ التي تمتدّ من مدينة الطبقة إلى محافظة دير الزور، مرورا بالرقة.

ثالثا: الغناء في منطقة الفرات الأدنى؛ التي تمتدّ من دير الزور إلى البوكمال، مرورا بموحسن والعشارة والميادين.

الموسيقا السائدة في هذه المناطق الثلاث، تعتمد على مقامات ذات خصوصية، مثل مقام المخالف، والمحمداوي. أما الإيقاعات والأوزان فهي بالعموم ثنائية ورباعية. ونادرا ما تجد أوزانا عرجاء. يستثنى من هذا التعميم الإنشاد الديني، والصوفي على وجه الخصوص؛ في "الحضرات" و "الموالد" والأعياد الدينية، حيث تجد إيقاع الجورجينا والهيوا، وهناك غنى حقيقي بالأوزان والمقامات والإيقاعات المستعملة في هذا الضرب الغنائي. والاعتماد الأساسي في الإيقاع المرافق على آلة الدف. وأحيانا تضاف آلة "الناي" في بعض الأذكار.

الاختلاف نجده في مراكز المدن "الرقة" و "دير الزور". لأن علاقة الغناء بالموسيقا تقوم على التأثير المتبادل، فإذا تنوعت الآلات الموسيقية تتنوع معها طبيعة الأغاني، إضافة لطبيعة الناس وثقافتهم

هذا التنوع في المقامات والإيقاعات نجده في ضروب الغناء السائدة في جرابلس ومنبج أيضا. أما في مدينتي الرقة ودير الزور، فإن الغناء الحضري هو السائد، أو المدني إذا صح التعبير.

من حيث المبدأ يمكننا القول إن القوالب الغنائية في حوض الفرات متشابهة، نسبيا. فالقوالب الغنائية السائدة هي: القصيد، الموال، الأبوذية، العتابا، والسويحلي والدارمي والنايل واللقاحي، والعميانة، واللطميات في الجنائز، وهدهدات الأطفال، إضافة للأغاني الخاصة بالأعراس والعمل والمواسم.

الاختلاف نجده في مراكز المدن "الرقة" و "دير الزور". لأن علاقة الغناء بالموسيقا تقوم على التأثير المتبادل، فإذا تنوعت الآلات الموسيقية تتنوع معها طبيعة الأغاني، إضافة لطبيعة الناس وثقافتهم، وعلاقتهم بالثقافات الأخرى، وهذا نجده في مراكز المدن. إضافة لذلك يمكن القول إن المدن والقرى الواقعة على ضفتي نهر الفرات؛ يختلف غناؤها عن المدن والقرى البعيدة عن مجرى النهر. لذلك ترى أن القصائد والموال السبعاوي يكاد ينحصر غناؤهما في مدينتي الرقة ودير الزور ومنبج أيضا.

الغناء في مدينة جرابلس ومنبج له خصوصية نتيجة لتنوع النسيج الاجتماعي (عرب، كرد، تركمان، مسيحيون، شركس، ماردل).

هل ثمة تنوع في الآلات الموسيقية يرافق تنوع قوالب الغناء؟

طبعا هناك تنوع في الآلات الموسيقية المستعملة في وادي الفرات (الربابة، آلات النفخ البدائية، الناي، الشاخولة، القصبة، الزمر، الزرناي، البزق، العود، الكمان، ودخلت مؤخرا الآلات الحديثة)، ويرافق الغناء والموسيقا دبكات ورقصات تختلف من منطقة إلى أخرى، فهي مرتبطة بطبيعة الأغاني، والمستوى المعيشي للناس، والتركيبة السكانية والثقافية والحضارية لكل جماعة.

فالمسافة بين المدن السورية؛ هي نفس المسافة بين طبيعة العمران بين هذه المدينة؛ وتلك. وهي نفس المسافة بين لهجة هذه المدينة؛ وتلك. وهي نفس المسافة بين طبيعة الإنتاج بين هذه المدينة؛ وتلك. أي أن الغناء مرتبط بطبيعة المكان، وطبيعة السكان.

ذكرت القوالب الغنائية السائدة "السويحلي والدارمي والنايل والأبوذية... إلخ" من أين جاءت تلك المسميات، وما الذي يميزها عن بعضها؟

الدارمي: هو ضرب من الغناء في وادي الفرات، وشهرته في العراق أكثر من شهرته في سورية، ويسمى "غزل البنات"؛ يتألف من شطرين؛ ويغنى على عدة مقامات؛ أشهرها مقام البيات.

الأبوذيّة: وهذا النوع من الغناء يشبه العتابا والميجانا، ولكنه يختلف عن العتابا بقفلة الشطر الرابع، أو بحرف الروي كما يقولون في اوزان الشعر الفصيح. فإذا كانت القفلة بحرف الياء؛ فهو أبوذيّة؛ وإذا قفل بحرف الباء؛ فهو عتابا، وإذا قفل بحرف الألف؛ فهو ميجانا. ويعتمد على الجناس في النظم.

السويحلي: وهو ضرب غنائي يتألف من شطرين؛ ويغنى على مقام البيات بشكل أساسي، وأحيانا يغنى على مقام الحجاز.

النايل: وهذا النوع هو الآخر يتألف من شطرين، ولكنه غالبا يغنى على مقام الصبا، ويمكن أن يغنى على مقام الحجاز أيضا. وسبب تسميته بـ "النايل" جاءت من تأثيره على النفس؛ فهو ينال منها. وكذلك الأبوذيّة: أي أن سماعها لشدة تأثيره يكاد يؤذي المستمع.

العميانه: ضرب من الغناء الفراتي؛ يشبه النايل في التركيب؛ لكنه يختلف في طريقة أدائه؛ ويغنى على مقام البيات؛ أو مقام الحجاز. ومصدر التسمية مأخوذ من "عمت عيني" تلك الجملة التي تقولها عادة الأمهات في حالات الندم والحسرة.

أمّا القصيد فهو الشعر العمودي، وشاع استعماله في الغناء الديني في وادي الفرات من قبل المتصوفة، ومن ثم استعمل في الغناء العام، وخاصة في مراكز المدن "الرقة والطبقة ودير الزور" وبشكل أقل في مدينة منبج.

اللقاحي: وهو نظم شعري شعبي بسيط؛ يتألف من شطرين؛ ويغنى حصرا على مقام المخالف؛ مع إيقاع الهجع، وإيقاع الهجع هو إيقاع رباعي، يشبه مشية الجمل، فالجمل هو الحيوان الوحيد الذي يمشي بخلاف المخلوقات الأخرى التي تمشي على أربع، إذ تتحرك يده الشمال مع حركة قدمه الشمال، واليمين مع اليمين.

الموليا: وهي ضرب من الغناء الرباعي، وغالبا تقفل على حرف الياء. وهذا النوع من الغناء موجود في كل مناطق حوض الفرات " الريف والمدينة على حد سواء"، وتغنى بعدة أساليب، وعلى عدة نغمات موسيقية، أشهرها الصبا والبيات والكورد والحجاز.

هل من خصوصية للرقص والدبك في وادي الفرات؟

لكل منطقة من مناطق وادي الفرات في سورية خصوصيتها، وخاصة في الدبكات، وعادة تكون مختلطة بين الإناث والذكور، وإيقاعها بشكل عام رباعي الوزن. والشائع منها دبكة الجوبي والولدة والجولاقية والحوشة. أما الرقص فهو حالة مدنية؛ لذلك نجدها في الرقة ودير الزور والطبقة، وليس في القرى.

والآلات الموسيقية التي ترافق الدبكات؛ هي آلات النفخ البدائية مثل القصبة والشاخولة والزمّارة؛ التي هي الآلة الموسيقية الوحيدة التي ترافق الدبكات في القرى الواقعة على مجرى نهر الفرات؛ مع مغني وحيد، ورديدة. أما في الجلسات الغنائية فإن الآلة الموسيقية الشائعة هي الربابة.

وقد تأثرت المنطقة؛ وخاصة منطقة الفرات الأعلى "جرابلس ومنبج وصرين ودير حافر ومسكنة والطبقة" بغناء الغجر؛ أو ما يسمى"الحجيات" وعزف "العبدال" على الزورنا.

هذه لمحة عامة، فمنطقة حوض الفرات لا يمكن اختصار تراثها الغنائي والموسيقي بلقاء أو مقال، فالحضارات -كما تعلم- قامت حيث توجد الماء، والفرات موغل في القدم، وكذلك الحضارات التي قامت على ضفتيه. وقد سبق وحاولت جمع ذلك التراث، وتسجيله، فكتبت، وسجلت كل ما استطعت الوصول إليه، وهو قليل قياسا بتاريخ المنطقة، وكثير بالنسبة لجهد فردي، وقد ضاع كله؛ كما ضعت أنا.

كمال حميد، فنان وموسيقي من مواليد ريف حلب الشرقي عام 1964. عضو نقابة الفنانين في سوريا.

درس الغناء والموسيقا على كبار الموسيقيين في حلب: محمد عاطف خياطة، وعلى أولاد الشيخ علي الدرويش: نديم الدرويش ومصطفى الدرويش وإبراهيم الدرويش. وعلى الأستاذ نوري إسكندر ومحمد قدري دلال وبشار حسن.

عزف العود مع أغلب المطربين، وخاصة العراقيين: ياس خضر وفؤاد سالم وسعدون جابر وحميد منصور وحسين نعمة وصلاح عبد الغفور ورضا الخياط وسعدي الحلي. ولديه الكثير من الألحان.

في المسلسلات، عمل على إعداد وتلحين أغاني مسلسل خان الحرير/ ج2.

في المسرح، لحّن أغاني مسرحية "الملك هو الملك" لسعد الله ونوس. إخراج: فراس نعناع.

في السينما، لحن أغاني الفيلم السينمائي "التجلي الأخير لغيلان الدمشقي". إخراج هيثم حقي.

إضافة لتلحين الكثير من الأغاني للمطربين، وخاصة الشعبيين.

تفرغ منذ عام 2000 ولغاية عام 2010 لجمع التراث الموسيقي والغنائي في وادي الفرات.