يزور وزيرٌ ما زميلَه الآخر ليشرب القهوة معه، فيظهر اللقاء على الوسائل الإعلامية على أنه اجتماع عمل! وفي مكانٍ ما، يذهب أحد أعضاء الحكومة لتفقد التحضيرات لحدثٍ ما، فيُظهره المكتب الإعلامي التابع لوزارته في لقطات بطيئة مع موسيقى حماسية، فنشعر أن بطل المشهد يمضي نحو فتح الأندلس.
وفي الأمسيات والفعاليات لا بدّ من أن يجلس هؤلاء في الصف الأول، وكأنهم "يتبروظون"، كما يقول السوريون في منطوقهم الشعبي. و"البروظة" قد تتحول إلى سببٍ للشجار بين مرافقي الوزراء، كما حدث قبل أيام! ويبدو أن بعضهم قد التقط عند هؤلاء حاجتهم الهائلة للشعور بالتميّز، فقرر أن يصفهم بأنهم مبشّرون بالجنة!
هل نحن أمام سلوك طبيعي لأفراد حكومة، أم أن بعضهم فقد رشده فعليًا، ونسي أن المنصب يعني العمل لا الاستعراض، وأن الإفراط في الظهور بهذا الشكل المجاني يحيل المشاهد إلى عطبٍ من نوعٍ ما يعاني منه هؤلاء؟
يترافق هذا التحول مع انزلاق واضح من السياسة بوصفها إدارة معقّدة للمصالح والموارد، إلى السياسة بوصفها أداءً لغويًا.
أم أن الموضوع أعمق بكثير من مجرد القبول بما يقترحه المنافقون، ممن يحومون حول الوزراء، ويقنعونهم بأن التاريخ قد بدأ وسينتهي بهم، رغم أن مواقعهم الحالية مرتبطة بصفة المؤقت الزائل، لا الباقي الدائم؟
المشكلة أن هؤلاء المكلّفين بمناصبهم يقودون الجمهور، الذي خبر مثل هذه السلوكيات، إلى استنتاجات قد لا تكون صحيحة على الأرض. لكن إدمان التصرف بهذه الخفة يؤدي إلى الالتباس، حيث لم يعد استعراض أفراد السلطة أمام الكاميرات تفصيلًا هامشيًا في السياسة المعاصرة، بل بات أحد مفاتيح فهم طريقة الحكم ذاتها. في كثير من الدول، وخصوصًا تلك التي تمر بمراحل انتقالية أو أزمات شرعية، نشهد تحوّل الوزير من صانع قرار إلى مؤدٍ لدور، ومن مسؤول إداري إلى وجه إعلامي. المشكلة ليست في الظهور بحد ذاته، بل في أن تكراره بهذا الشكل سيبدو على أنه قد بات بديلًا عن الفعل، وأن الصورة حلّت محلّ السياسة.
تاريخيًا، ارتبط الاستعراض السياسي بالأنظمة الشمولية، فقد كان حضور الزعيم الدائم ضرورة رمزية لإثبات السيطرة وملء الفراغ. غير أن اللافت اليوم هو انتقال هذا المنطق إلى أنظمة لا تُعرّف نفسها بوصفها شمولية، بل مؤقتة أو إصلاحية أو حتى ديمقراطية. في هذه السياقات، يصبح الحكم بلا أفق طويل، وتتحول الدولة من مشروع تراكمي إلى حالة آنية، تحتاج كل يوم إلى إعادة إثبات وجودها. وهنا تظهر الكاميرا بوصفها أداة إنقاذ: ما يُرى يُفترض أنه موجود، وما لا يُصوَّر يُخشى أن يكون غائبًا.
على المستوى النفسي، لا يعكس هذا الاستعراض المبالغ فيه ثقة السلطة بنفسها بقدر ما يكشف هشاشتها. الوزير الذي يكثر من الجولات المصوّرة والتصريحات المتكررة غالبًا ما يعوّض عن غياب رسوخ مؤسسي يشعر به في العمق.
هنا، نحن أمام نرجسية سياسية دفاعية، تقوم على معادلة بسيطة: أنا أظهر، إذًا أنا شرعي. الكاميرا ليست مجرد وسيلة تواصل مع الجمهور، بل مرآة تطمئن صاحب السلطة إلى أنه لا يزال حاضرًا. لذلك يصبح النقد تهديدًا شخصيًا، لا جزءًا طبيعيًا من المجال العام، وتتحول السياسة إلى عملية دفاع مستمرة عن الصورة.
خطابيًا، يترافق هذا التحول مع انزلاق واضح من السياسة بوصفها إدارة معقّدة للمصالح والموارد، إلى السياسة بوصفها أداءً لغويًا. تهيمن اللغة الإنشائية وتعبيراتها القريبة من القصائد الشعرية، وتُستبدل البرامج بالمفردات العامة، مثل: "العمل المتواصل"، و"الوقوف على الواقع"، و"خدمة المواطن". يغيب الزمن المحدد، وتغيب الأرقام، وتغيب
معايير القياس. الخطاب لا يُنتج التزامًا يمكن محاسبة السلطة عليه، بل يخلق حالة وجدانية مؤقتة. وهكذا لا يعود الوزير مسؤولًا عن نتائج، بل عن انطباعات.
لكن الذروة الأكثر خطورة في هذا المسار تظهر في الهوس المتزايد بما يُسمّى "الهوية البصرية". في الظروف الطبيعية، تأتي الهوية البصرية للدولة أو المؤسسة تتويجًا لمسار طويل من الاستقرار والتراكم الإداري، وتكون انعكاسًا لجوهر قائم. أما في حالات الهشاشة السياسية، فتنقلب المعادلة: يُصمَّم الشعار قبل أن تُحسم السياسات، وتُوحَّد الألوان قبل أن تتوحّد القوانين، وتُنتج القوالب البصرية قبل أن تُبنى المرجعيات.
تُصرف طاقة كبيرة على الشعار/اللوغو، والخط، وتناسق المنشورات، والفيديوهات الدعائية، وكأن الدولة يمكن اختزالها في علامة تجارية متقنة.
السياسة التي تُبنى على الصورة تنهار بالصورة. أما الدولة، فلا تقوم إلا بما ينفع الناس، ويمكث في الأرض..
الهوية البصرية هنا لا تعرّف المؤسسة، بل تحاول إثبات وجودها. تتحول من واجهة إلى قناع، ومن أداة تواصل إلى بديل عن الشرعية. وكأن الرسالة الضمنية تقول: نحن متماسكون بصريًا، إذًا نحن متماسكون سياسيًا.
المشكلة ليست في التصميم، ولا في التواصل البصري بحد ذاته، بل في تحميله وظيفة لا يستطيع أداءها. وكما أن الدولة لا تُبنى بقصيدة شعرية، فإنها لا تُبنى بالألوان، ولا تُدار بالشعارات، ولا تُقاس بعدد المشاهدات في صفحات السوشال ميديا. حيث تُختزل السياسة في المشهد، تُختزل المسؤولية، ويُختزل الزمن، وتصبح المحاسبة مستحيلة، لأن ما يُدار ليس سياسات، بل صورًا.
في تلاقي هذه المستويات — التاريخي، النفسي، الخطابي، والبصري — نجد أنفسنا أمام نمط جديد من الحكم: دولة تُدار كعلامة تجارية. الوزير فيها يلبس هيئة المؤثّر، والمؤسسة حساب رسمي، والسياسة محتوى قابل للاستهلاك السريع.
دولة كهذه قد تبدو نشطة، حاضرة، ومرئية، لكنها في العمق هشّة، لأنها تفتقر إلى ما لا تصوّره الكاميرا: الزمن، التراكم، والصمت الضروري للعمل الحقيقي.
السياسة التي تُبنى على الصورة تنهار بالصورة. أما الدولة، فلا تقوم إلا بما ينفع الناس، ويمكث في الأرض..
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه



