Syria News
جاري تحميل الأخبار العاجلة...
2 ساعات

ديمقراطية من دون صحة وتعليم؟ الإنسان أولًا لا البرلمان

الأحد، 14 سبتمبر 2025
ديمقراطية من دون صحة وتعليم؟ الإنسان أولًا لا البرلمان

أحمد عسيلي

تُجرى حاليًا في سوريا تحضيرات لتشكيل مجلس تشريعي انتقالي يضم 210 مقاعد، 140 بانتخاب غير مباشر تديره لجان مناطقية، مع مراعاة التنوع الديني واللغوي والطبقي، و70 يعيّنهم الرئيس بهدف إدخال التكنوقراط وأصحاب الخبرة في الاقتصاد والقانون والإدارة (أو هكذا يفترض على الأقل).

منذ البداية، يجب أن ندرك، بل ونعترف، أن هذا البرلمان سيكون شكليًا، فهو بالنهاية ليس منتخبًا من الشعب، ولا يعبّر حقًا عن إرادته، ودوره يجب أن يقتصر على إدارة المرحلة الانتقالية لا أكثر، ثم إن جزءًا من البلاد ما زال خارج سلطة الدولة، مثل شرقي سوريا ومحافظة السويداء، ما يجعل أي مجلس ناقص الشرعية ما لم يتم الوصول إلى تسوية سلمية شاملة، وهو ما يمكن أن يستغرق أشهرًا وربما سنوات.

على كل حال، تجارب الشعوب الأخرى، المتقدمة منها والمتأخرة، تذكرنا بأن شكل الحكم بعد الانهيارات الكبرى لا يستقر من أول مرة. خذوا فرنسا مثلًا، هذه البلاد عاشت 13 عامًا تحت الجمهورية الرابعة بعد الحرب العالمية الثانية، كانت مرحلة تخبط سياسي رهيب، قبل أن تنتقل إلى الجمهورية الخامسة بدستور 1958، الذي ما زال نافذًا حتى اليوم. البرتغال بعد سقوط دكتاتورية سالازار عاشت شيئًا مشابهًا تقريبًا، وكذلك إسبانيا لفترة محدودة بعد سقوط فرانكو، ثم استقرت جميعها لاحقًا. في المقابل، أخفق العراق حين بدأ بمجلس حكم انتقالي، وكذلك لبنان، الذي كرّس اتفاق “الطائف” صيغة المحاصصة فيه، فتحولت من حل مؤقت إلى نظام دائم، يعيد إنتاج نفسه بأسماء ووجوه متشابهة، بل أحيانًا هي نفسها، منذ أكثر من ثلاثة عقود، الفارق بين الحالتين ليس صيغة البرلمان بحد ذاتها، وإنما قدرة المجتمع على أن يرى في البرلمان ومراحله الانتقالية جسر عبور لا فخًا أبديًا، لذلك فالأولوية اليوم ليست لشكل الحكم، لأنه قابل للتغيير، بل لـبناء الإنسان السوري نفسه، ليصبح قادرًا على تحقيق ديمقراطيته والدفاع عنها، الخطوة الأولى في هذا المسار واضحة: تلبية الحاجات الأساسية، هذا ما أكده عالم النفس الأمريكي أبراهام ماسلو في هرمه الشهير، إذ يبدأ الإنسان بالبحث عن الغذاء والماء ثم الأمان، قبل أن يفكر بالانتماء وتحقيق الذات، القفز مباشرة إلى قمة الهرم، أي إلى الحرية السياسية، يعني مؤسسات فارغة فوق مجتمع جائع، الفكرة نفسها بلورها إريك فروم في كتابه الشهير “الهروب من الحرية”: “حين يفتقد الإنسان الأمان، قد يرى الحرية عبئًا ثقيلًا فيهرب منها إلى أحضان دكتاتورية توفر له وهم الطمأنينة”.

هذا المنطق لم يقتصر على علماء النفس فقط، بل أكده أيضًا علماء الاقتصاد والاجتماع، من بينهم أمارتيا سن، الحائز على جائزة “نوبل” في الاقتصاد، وهو كاتب لا أخفي انبهاري به وبأفكاره، فقد درس تجربة الهند بعمق، وشدد في نظرياته على مفهوم القدرات (capabilities’) أي أن الديمقراطية ليست مجرد صناديق اقتراع، بل قدرة فعلية للإنسان على أن يتعلم ويعمل ويعيش بكرامة، فإذا غابت هذه القدرات فلن تصمد الديمقراطية. المثال الهندي كان لافتًا: صحيح أن الفقر ظلّ قائمًا، لكن وجود الصحافة والانتخابات منع وقوع مجاعات كما حدث في جارتها الصين، لأن الحكومة لم تعد قادرة على تجاهل أصوات الناس، كما فعل الزعيم الصيني ماو، ومع ذلك، بقيت ديمقراطية الهند ناقصة بسبب ضعف الاستثمار في التعليم والصحة.

وما قاله سن يلتقي مع ما توصل له كارل ماركس قبل قرن، وإن طرحه بلغة حالمة ثورية، فالمجتمع اللاطبقي، حيث المساواة المطلقة كما تخيلها ماركس، لا يمكن أن ينشأ إلا في دول صناعية قوية مثل ألمانيا أو إنجلترا، حيث توجد طبقة عاملة منظمة ونقابات نشطة، أما المجتمعات الفقيرة والضعيفة، فلم يكن يعول عليها في بناء العدالة الكاملة، حتى لينين، حين بدأ تجربته في روسيا، كان يعي أن نجاحها يظل ناقصًا ما لم تنتصر الثورة في ألمانيا، الفكرة إذًا واحدة: لا حرية ولا مساواة ولا عدالة من دون قاعدة قوية.

من هنا يصبح واضحًا أن البنية الفوقية للدولة الآن ليست ذات أهمية كبرى، حتى لو أُنجز أعظم برلمان أو أُقرت أفضل القوانين، فلن تصمد إذا لم يُبنَ الإنسان أولًا، والمقصود ببناء الإنسان ليس شعارًا أدبيًا أو مصطلحًا ثوريًا، بل حقيقة واقعية: تأمين مقومات الحياة الأساسية من مأكل ومشرب وفرص عمل وتعليم وصحة، ثم الحفاظ على أمن الفرد وحريته، وتعليمه فن الاعتراض ورفض الاستكانة.

والاعتراض هنا ليس اختلاقًا ولا كذبًا ولا حربًا إعلامية، بل مواجهة الأخطاء الحقيقية وتسمية التجاوزات كما هي، عندها فقط يصبح بناء الدولة ممكنًا بحق، دولة تقف على أقدامها وتستمد قوتها من مواطنين أحرار وواعين.

Loading ads...

لذلك، فإن مشروع بناء مستشفى، أو مدرسة، أو توفير فرصة عمل، أو منصة إعلامية تتمتع بحرية كاملة، هو اليوم أهم بكثير من أي قانون برلماني، فالمؤسسات لا تحمي الناس ما لم تُلبَّ حاجاتهم الأساسية، بينما الإنسان الذي يملك عملًا وعلاجًا وتعليمًا هو وحده القادر على حماية مؤسساته وصون ديمقراطيته، الأولوية ليست في القوانين على الورق، بل في الحياة اليومية التي تمنح المواطن القدرة على أن يكون شريكًا حقيقيًا في بناء الدولة.

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه