“هافانا في أحلامي”.. الحضور العربي في قلب الجزيرة الكاريبية

كوبا أرض الأحلام والحب والتعايش، بلد الرقص والتحدي والسيجار، تسترخي وادعة أمام أمواج الكاريبي العاتية، وكانت قد أدت من قبل أدوارا في غاية الدقة والأهمية على المسرح الدولي، وسط تجاذبات قطبي الحرب الباردة آنذاك، الدب السوفياتي والنسر الأطلسي.لكن قصتنا اليوم مختلفة، ففي الفيلم الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية، وعرضته على منصاتها بعنوان: “هافانا في أحلامي”، يتحدث ضيوف الفيلم -وهم كوبيّون عرب- عن يومياتهم، وعن أسرار هذا التعايش في المجتمع الكوبي، بين مكوناته من أعراق وجذور شتى.فيلم “هافانا في أحلامي” على منصة الجزيرة 360ويركزون على إسهامات المكوِّن العربي -علما وثقافة وفنونا وأعمالا- في المجتمع الكوبي، ويتحدثون عن الأسباب التي دفعت العرب إلى استيطان هذه البقعة النائية من العالم، وعن العوامل التي ساعدتهم على الاندماج في هذا المجتمع الوادع، والذوبان فيه.اقرأ أيضا list of 3 itemslist 1 of 3“تشي غيفارا”.. قصة ثائر تلتقي به في كل مدن العالمlist 2 of 3“عزيزي الديكتاتور”.. كوميديا سوداء عن الجنرال الكوبي الذي أرّق أمريكاlist 3 of 3“كاسترو” وكوبا.. كما لم تعرفهما من قبلend of listالموسيقى والرقص.. أثر الفنون في إرساء قواعد التعايش المجتمعيضيفتنا الأولى “غريتل سانشيز لابري”، مالكة شركة “سوهو” ومديرتها، وهي متخصصة في الرقص الشرقي والموسيقى، وتقول: تهدف شركتنا إلى دمج الموسيقى العربية والرقص الشرقي بالإيقاعات الكوبية والكوبية-الأفريقية، وقد صممتُ رقصات على إيقاع الطبل العربي، ورقصات أخرى على إيقاع الطبول الأفريقية.ضيوف الفيلم.. كوبيون عرب مهاجرونأركز في تصميم الرقصات على التباين، ففي بعض الأغاني ذات الطابع الرومانسي الناعم، أحاول خلقَ نوع من التباين بإيقاع الطبل مثلا، وأنا أحب الارتجال في الرقص، لأن فيه حرية وانفتاحا أكبر على المسرح، وأحاول الاستفادة من كل شيء في تصميم رقصاتي، ويسهم معي كل أعضاء الفرقة في الإبداع والابتكار.لقد ترك عملنا على مدار السنوات أثرا ملحوظا على الجمهور الكوبي، وشجّعنا الآخرين على إنشاء شركاتهم، ومع الوقت تتوسع شركتنا باستمرار. ولدينا هدف أساسي، يتمثل في رعاية ذوي الأصول العربية ودعم الثقافة الكوبية.عائلة لبنانية هاجرت إلى كوبا مطلع القرن الـ20لا يبخل أهلي علي بالدعم المعنوي والمادي، ووالداي يعتنيان بطفليّ، حين أكون منشغلة بأمور شركتي. كانت لي أختٌ رائعة تقيم في الدنمارك، لكنها توفيت بالسرطان في 2019، كانت معنا في كل لحظات حياتنا، تزورنا كل عام وتدعم شركتنا وتؤازرني وتشجعني، إنني أفتقدها دائما. قالتها والعَبرات تداعب وجنتيها.أزمات الشرق تدفع لهجرة عربية إلى كوباوتقول أمها “غلوريا لابري راوريل”: ولد أبي في بلدة حدشيت بلبنان سنة 1911، ثم هاجر وعائلته جميعا إلى كوبا، بسبب مشاكل في لبنان، وسكنوا في قرية ماتانزاس الصغيرة. هاجر كثير من اللبنانيين إلى كوبا وبلاد أخرى منها البرازيل، ليضمنوا مستقبلا أفضل لأبنائهم، فقد كان الشرق الأوسط ذا مشاكل اقتصادية وسياسية كثيرة.صور من الاندماج الفني الكوبي العربيوالتقينا أيضا “ماركوس باديا”، عازف الكمان في فرقة سوهو، وهو يعزف بيانو وآلة أخرى تسمى ميلوديكا، فقال: ولدت بوسط العاصمة هافانا، وطوّرت منذ صغري القدرة على تعلّم الموسيقى سماعيا، كان لدى أبي بيانو تلقاه هدية، وشجعتني عائلتي وساعدتني على تعلم العزف، وحين بلغت تسعا كنت أعزف كل أغاني المسلسلات.ثم يقول: تعرفت “غريتل” منذ 15 عاما، وأعمل في شركتها في مجال الموسيقى العربية منذ عدة سنوات، وأدين بالفضل لها ولأعضاء الفرقة في سرعة تعلّمي للموسيقى العربية.اشترك فيالنشرة البريديةاشترك في النشرة البريدية وتابع أحدث أفلامنا الوثائقيةطبق أخياكو.. تنوّع النسيج الكوبيفي “بيت العرب”، التقينا “جاكلين دياز فوينتيس”، مديرة بيت العرب ومتحف كوبا، وهو أول متحف إثنوغرافي، أسسه المؤرخ د. “أوسيبيو ليال سبنغلر” في نوفمبر/ تشرين الثاني 1983، فقد أدرك برؤيته الثاقبة ضرورة إنشاء متحف ينشر الثقافة العربية والإسلامية بكل ألوانها.وقد وصف الحكيم الكوبي “فرناندو أورتيز” الهوية الكوبية بأنها مثل “طبق أخياكو”، وهو طبق كوبي تقليدي، يتكون من مكونات متعددة، منها الخضر واللحوم وغيرها. فالمكوّن العربي مهم جدا في الثقافة الكوبية.هافانا القديمة.. بعض مظاهر العمران العربي الأندلسي على نمط “مديهار”تقول “جاكلين”: بلغ التراث العربي كوبا بعدة طرق، أولها التراث الإسباني، فقد حكم العرب إسبانيا 8 قرون، وسيطروا على جنوبها حتى 1492. فجلب الإسبان إلى كوبا ثقافتهم الممزوجة بالثقافة العربية على مدى 8 قرون.وفي اللغة الإسبانية كلمات كثيرة ذات جذور عربية، وتقدر بنحو 10 آلاف كلمة بحسب خبراء اللغة.ولا يقتصر التأثر الإسباني بالتراث العربي على اللغة فقط، فالعمارة في القرن الـ17 خلال استعمار كوبا هي من نمط “مديهار” الذي جلبه الإسبان من إقليم الأندلس.حفظ الإرث الديني والثقافيمنذ 1985، خُصصت في “بيت العرب” حجرة صغيرة للصلاة، مغطاة بالسجاد فيها منبر ومحراب باتجاه القِبلة، وتعبّر عن تضامن الشعب الكوبي بأسره من المسلمين.يقول المؤرخ “أوسيبيو ليال سبنغلر” إن قائد كوبا التاريخي “فيدل كاسترو” رأى أن المسلمين يواظبون على الصلاة 5 مرات يوميا، يفترشون الطرق لأداء صلاتهم، فتواصل معه لترتيب مكان خاص للصلاة، فأخبره بوجود مساحة في “بيت العرب”، فأُهِّلت لهذا الغرض.وفي 1992، بدأ المسلمون ممارسة صلواتهم في تلك الغرفة، وكانوا قد جاؤوا إلى كوبا لأسباب شتى، منها شخصي وسياسي ودراسي، فقد قدم آلاف الطلاب من دول عربية وإسلامية للدراسة هنا، ولم يكن في كوبا مسلمون قبل التسعينيات، وفي 2007، اعتُرف بالشريعة الإسلامية رسميا، وأصبح المسجد يضم كل المسلمين في كوبا.بعض مظاهر الوجود العربي والإسلامي في كوباوفيما بعد قدّم الجنرال “راؤول كاسترو” تبرعات سخية للمتحف، كما أسهمت الجالية العربية بقدر كبير لتدشين القاعة التذكارية للهجرة العربية إلى كوبا، التي تحكي تفاصيل هجرة العرب إلى كوبا، والأسباب التي دعتهم إلى ترك أوطانهم، وفيها جوازات سفر ووثائق ومستندات إقامة لمهاجرين عرب.تقول “جاكلين” مديرة “بيت العرب”: من الجميل والممتع التعرف على هذه الثقافة، إن لها سحرا جذابا، ونحن مدينون للعرب الذين أسهموا في إنشاء “بيت العرب”، منذ كنا صغارا ونحن نسمع قصص مصباح علاء الدين وألف ليلة وليلة.بيروت وهافانا.. خيوط مشتركة على نأي المسافاتالتقينا في بيروت “ميشيل ألفتيريادس”، فتحدث عن نفسه قائلا: أنا منتج موسيقي، تعلمت الموسيقى في صغري من والديّ، وعملت على الموسيقى العربية الكوبية وأنا ابن 27 عاما، عندما كنت في كوبا أوائل التسعينيات، ووجدت تشابها كبيرا بينهما. كنت يوما في مقهى فسمعت امرأة تغني أغنية لحنها شبيه بأغنية لأسمهان، قلت حينها: يمكن دمج هذين اللونين من الموسيقى.عندما اختمرت فكرة هذا المشروع الثقافي الترفيهي، عدتُ إلى لبنان مع موسيقيين كوبيين في 1998، وبدأت أبحث عن مغنية لهذا المشروع، فلقيت عشرات الأصوات، ثم جاءت واحدة من معهد الموسيقى “الكونسيرفتوار”، لم تكن لها خبرة بالغناء في النوادي والقاعات، وكانت تعرف الغناء العربي فقط.صور من الاندماج الفني الكوبي-العربيأعجبني صوتها وشخصيتها، ونجح الألبوم الأول، لأنها كانت تغني غناء عربيا صافيا، ولا تعرف ما الموسيقى التي سترافق صوتها، وفي الألبومات الأخرى باتت تعرف الإيقاع الذي سيرافق صوتها، ثم تعلمت الإسبانية ودمجت بنجاح بين الإيقاعين العربي والإسباني.ثم كان أول عمل عربي كوبي في فيلم “حنين وابنه الكوبي”، ونجح نجاحا باهرا في مهرجان “بيبلوس” السينمائي الدولي، ثم قدمنا عرضا في كازينو لبنان، وشاركنا في المهرجانات الكبرى في أنحاء الوطن العربي، ثم انطلقنا إلى أوروبا وأمريكا اللاتينية، واستمر النجاح مدة 20 عاما.كوبا.. أول محطات “كولومبوس” في الأمريكتينحين وصل المستكشف “كريستوفر كولومبوس” إلى الأمريكيتين، كانت كوبا أول مكان ذهب إليه، ويقال إن كوبا جاءت من الكلمة العربية “قبة”، الموجودة في أعلى المسجد. لأن كشّاف السفينة رأى منازل السكان الأصليين “شعب سيبونيه”، وهي خيام على شكل قباب، فأنشأ يصرخ: “قبة قبة” وهكذا جاء اسم “كوبا”.صور ووثائق سفر لعرب لبنانيين هاجروا إلى كوبافي كوبا كثير من المهاجرين من أصل عربي، فالسوريون واللبنانيون هاجروا في القرنين التاسع عشر والعشرين. وفي كوبا كثير من الميزات التي تنفرد بها عن الدول الأخرى، منها طبيعة البلاد وبيئتها، فهي مشهورة بالسيجار الكوبي، والكرم الكوبي، والسكر الكوبي، حتى إن الشعب الكوبي ببساطته ومرونته وتحدّيه وموسيقاه لا تكاد تجد له مثيلا.والتقينا كذلك الرسام “كميل بوجودة رودريغيز”، فقال: كنت أطمح منذ الصغر أن أكون رساما وممثلا ورياضيا، وتابعت شغفي بهذه الأمور الثلاثة إلى حد ما. بدأتُ بالتمثيل -على خطى أبي- وأنا ابن تسع، وكان أبي من المروّجين للثقافة العربية، بدافع الشغف لا بدافع الدراسة.ضيوف الفيلم.. كوبيون من أصول عربية مهاجرةجاء أجدادي من لبنان إلى هذه البلاد في 1919، وكانت وجهتهم في الأصل الولايات المتحدة، لكن حدث خطأ في تأشيرة جد أبي، فنصحه البعض بالتوجه إلى كوبا، فلما تفحصها على الخريطة وجد أنها قريبة من الولايات المتحدة، فوافق فورا. ولديّ صور ووثائق قديمة أعتز باقتنائها كثيرا.وقد أحب أجدادي هذه الجزيرة واستقروا بها، وأعجبهم طقسها وسكانها وفرص العمل المتاحة فيها، وقد كانت فيلسكو -المدينة التي نعيش فيها- صغيرة حين أتوها، فيها منازل قليلة، ثم بدأت بالنمو، وفي 1959 كانت العائلة تمتلك نصف شركات المدينة.حضور عربي لافت في المجال الدبلوماسي والأكاديمي:التقينا “يامي بروفيير”، فقالت: أنا من أصل فلسطيني، وأشغل اليوم منصب نائب رئيس الاتحاد العربي الكوبي، تأتي جذوري الفلسطينية من طرف أبي، وتحديدا من جد أبي، فقد نشأت في عائلة ربّتنا على الحب والاحترام والحفاظ على الثقافة.لا تزال بلدنا كوبا مشبعة بالثقافة العربية منذ زمن، من العمارة إلى الموسيقى. ولا يقتصر ذلك على الجوانب الفنية، بل شتى العلوم التي نبغ فيها علماء كوبيون من أصل عربي.ولكوبا تواصل نشط وفعال مع معظم دول العالم، وتدعم القضية الفلسطينية دعما راسخا، لأنها عانت طويلا مما عانى ويعاني منه الفلسطينيون، ولنا علاقات قوية مع دول الشرق الأوسط، ونتعاون مع 13 سفارة منها باستمرار.هافانا الحديثة، وتظهر جدارية للثائر الكوبي “كاميليو كونفويغس”، وكان رفيق للزعيم “فيدل كاسترو”وهذا “خورخي إلياس”، المدير الأكاديمي للاتحاد العربي الكوبي، ويقول: نجري أنشطة ثقافية مرة في كل شهر، ونقيم تجمعات ندعو إليها أبناء الأصول العربية، ونقدم عروضا صوتية ومرئية عن التراث العربي. والأهم من كل ذلك هو الحضور العربي اللافت في كوبا، والإرث العربي الذي هو جزء لا يتجزأ من الهوية الكوبية.ختاما، لا يمكن فهم تنوع الثقافة الكوبية دون أن نأخذ بعين الاعتبار الجانب العربي فيها، فالحضور العربي قديم بقدم الحضور الإسباني في هذه البلاد، ثم في أوائل القرن الـ20 أسهم السوريون واللبنانيون والفلسطينيون والمغاربة في إثراء هذا النسيج الاجتماعي الكوبي، المبني على التنوع والتكامل والتعايش.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه




