هاشتاق عربي – وصفي الصفدي
كثيرًا ما يُختزل التحول الرقمي في القرن الحادي والعشرين في التطبيقات والأنظمة والاتصال. لكن هذا المنظور الضيق يغفل جوهر الحقيقة. فالتحول الرقمي ليس مجرد تطوير أدوات، بل هو تحدٍ حضاري يعيد تعريف معنى العيش والتعلم والتعامل وبناء الثقة في مجتمعاتنا.
واستلهمًا من الرؤية الملكية للأردن الرقمي وتوجيهات سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبد الله الثاني، أؤمن أن هذه الرحلة أبعد بكثير من كونها عملية تقنية؛ إنها ثورة ثقافية وإنسانية في المقام الأول، يتموضع فيها المواطن، لا الآلة، في قلب المعادلة.
في فلسفتي، التكنولوجيا لا تُصنع لتكون بطلاً، بل لتكون أداة. الأبطال الحقيقيون هم البشر: المواطن الذي يستخدمها، الموظف الذي يقدّم الخدمة من خلالها، والقائد الذي يضمن أن تظل في خدمة المصلحة العامة. التقدّم يقاس بقدرتنا على وضع الإنسان قبل الآلة، والثقافة قبل البرمجيات.
البنية التحتية: جذور الحضارة الرقمية
البنية التحتية — من شبكات الجيل الخامس إلى مراكز البيانات والمنصات المترابطة — لا غنى عنها. لكنها إذا بُنيت بلا فلسفة إنسانية ستظل مجرد هياكل خاوية.
البنية الرقمية الحقيقية هي بنية اجتماعية وثقافية، تقوم على مبدأ أن لكل مواطن — بغض النظر عن مكانه أو دخله — الحق في النفاذ المتكافئ إلى الدولة الرقمية. هذه العدالة هي ما يحوّل التقنية من أداة رفاهية إلى جسر للاندماج المجتمعي.
الهوية الرقمية: ركيزة الانتماء
الهوية الرقمية ليست مجرد رقم أو بطاقة. إنها جواز الانتماء لعصر الدولة الرقمية. فهي التي تمنح المواطن شعورًا بالاعتراف والاحتواء والحماية.
وحين يثق المواطن بهويته الرقمية، فإنه لا يثق بخدمة حكومية وحسب، بل يثق بدولته ذاتها. بهذا المعنى، تصبح الهوية مفتاحًا ليس للخدمات فحسب، بل لـ الكرامة الإنسانية.
سند: من تطبيق إلى رمز للثقة
تطبيق سند يمثل نقلة نوعية في مسار الخدمات الإلكترونية بالأردن. غير أن نجاحه لا يُقاس بعدد التنزيلات، بل بما إذا كان يعكس لغة الناس، احتياجاتهم، وواقع حياتهم اليومية.
الناس العاديين والبسطاء — لكل منهم توقعاته وتحدياته. إذا لم يشعر هؤلاء أن سند صُمّم من أجلهم، فإن الثورة الرقمية ستظل منقوصة. التحول الرقمي لا يُقاس بالاستخدام فقط، بل بـ شعور المواطن بأنه شريك في مستقبل يُبنى من أجله.
مقاومة التغيير: حقيقة إنسانية
الموظفون الذين يقاومون الرقمنة ليسوا أعداء للتقدم، بل مرآة لواقع أعمق: التغيير نفسي قبل أن يكون إداريًا. إنهم يخشون المجهول أكثر مما يرفضون التقنية.
الحل لا يكون بفرض الرقمنة فرضًا، بل ببناء ثقافة جديدة عبر:
التعليم: تزويد الأفراد بالمهارات الرقمية.
التعاطف: تفهّم مخاوفهم وإشراكهم.
التمكين: جعلهم مالكين لمسار التغيير، لا متفرجين عليه.
هكذا تتحول المقاومة من عقبة إلى طاقة إيجابية.
التوقيع الرقمي: مصافحة العصر الحديث
التوقيع الرقمي ليس مجرد تقنية تشفير؛ إنه المصافحة الجديدة في عصرنا الحديث. رمز للثقة والشرعية، كما كان القلم والختم يومًا.
لكن نجاحه يعتمد على ثلاث ركائز رئيسية:
وضوح قانوني: إطار تشريعي يزيل أي لبس.
مزودو ثقة معتمدون: شركات تلتزم بالأخلاق والقانون.
ثقة الجمهور: شعور المواطن أن بياناته محمية وأن كرامته محفوظة.
إستونيا: الدرس المستفاد
إستونيا لم تنجح صدفة. سرها كان في الترابط، الهوية الرقمية، والإطار القانوني. لكن أهم أسرارها كان ثقة المواطن.
درسها لنا في الأردن أن النجاح لا يأتي بالتقليد، بل بالتجذير. علينا أن نستلهم التجربة ونصوغ نموذجًا أردنيًا متأصلاً في ثقافتنا وقيمنا.
التحديات: امتحان النضج
الانقطاعات التقنية، البيروقراطية، أو المقاومة السلوكية ليست علامات فشل، بل امتحانات للنضج. التحديات لا توقف المسيرة، بل تدفعنا لإعادة التفكير، لتطوير الإدارة، ولشحن الرؤية.
إنها مرايا تكشف نقاط ضعفنا، لكنها أيضًا منصات نبني منها قوتنا.
التقنيات الناشئة: خادمة لا سيدة
يسهم الذكاء الاصطناعي في التنبؤ، وتوفر تقنية البلوكشين الأمان، بينما يعزز الأمن السيبراني الحماية. غير أن التحدي الحقيقي يكمن في الإفراط في الاعتماد على هذه التقنيات واعتبارها حلولًا مطلقة.
يجب أن تظل هذه الأدوات في موقعها الطبيعي: خادمة للإنسان، لا حاكمة لمصيره. قيمتها لا تكمن في تعقيدها، بل في قدرتها على جعل حياة الناس أكثر بساطة وأمانًا وكرامة وتحسن جودتها.
القطاع الخاص: أوصياء على الثقة
شركات القطاع الخاص، وخاصة مزودو خدمات الثقة، ليسوا مجرد أطراف اقتصادية، بل أوصياء على سيادة البيانات وكرامة المواطن.
النجاح يتطلب أن تكون مصالحهم التجارية منسجمة مع الصالح العام و يجب أن يسيرا جنبًا إلى جنب مع حماية الثقة الوطنية وخدمتها.
الأثر البيئي: بعدٌ خفي
غالبًا ما يُشاد بالرقمنة لأنها تقلل الورق والتنقل. لكن الحقيقة أن مراكز البيانات تستهلك طاقة هائلة.
الرؤية المتقدمة لا تقاس فقط بالتحول إلى رقمية، بل بقدرتنا على موازنة التقدم مع الاستدامة، بحيث نورّث أبناءنا أردنًا رقميًا وأخضر في الوقت نفسه.
من الفلسفة إلى التطبيق: المصارف والتعليم
المصارف والشمول المالي: التحول الرقمي في البنوك ليس تطبيقات أو بطاقات فقط، بل بوابة للاندماج الاجتماعي، يربط بين الأهداف التجارية والمسؤولية الوطنية.
التعليم: التحدي ليس في الأجهزة، بل في الفجوة النفسية والوظيفية. علينا أن نعلّم أبناءنا لا مجرد استخدام التقنية، بل التفكير النقدي بجانبها، التساؤل، والإبداع. عندها فقط تصبح الرقمنة أداة للتحرر لا وسيلة للعزلة.
يقظة العقل في عصر الوهم
في زمن التزييف العميق، الخطر الأكبر ليس أن تتفوق الآلة على الإنسان، بل أن يتوقف الإنسان عن التفكير.
التحول الرقمي الحقيقي هو يقظة العقل والضمير. الآلات تسرّع العمليات، لكن القيم والأفكار هي التي تحدد وجهتنا.
لن يُقاس نجاح الأردن الرقمي بعدد أنظمته المتطورة، بل بمدى شعور مواطنيه بالتمكين والكرامة. عندها فقط يمكن أن نقول: لم تُقصِنا التكنولوجيا، بل عزّزت إنسانيتنا.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
اقرأ أيضاً