“في 11 ديسمبر/كانون الأول 1993، وخلال زيارته إلى القاهرة، اختفى المعارض الليبي منصور الكيخيا على حين فجأة”.هذا ما تداولته وكالات الأنباء العالمية آنذاك، على خلفية هذا الاختفاء الغامض، بيان مقتضب الكلمات، لكنه يخفي بين أحرف كلماته أطنانا من التفاصيل.اقرأ أيضا list of 4 itemslist 1 of 4“اغتراب”.. بحث عن الانتقام يؤدي إلى رحلة في أعماق النفسlist 2 of 4“المرآة”.. كيف تُروى الذكريات في قصيدة سينمائية؟list 3 of 4“ملفات بيبي” .. ديكتاتورية إسرائيل التي لا نعرف عنها شيئاًlist 4 of 4وثائقي “خمسين متر”.. اقتراب حذر من عرين الأب المحصّن بالغموضend of listومثلما أثارت تلك الحادثة دهشة واستهجانا، فإنها على الناحية المقابلة، أشعلت لدى ابنته المخرجة جيهان الكيخيا نيران الرغبة في البحث والتقصي عن طيف هذا الأب.وذلك ما أقدمت عليه في أول أفلامها الوثائقية الطويلة “بابا والقذافي” (My Father And Qaddafi)، وقد عُرض عرضه العالمي الأول في القسم الرسمي خارج المسابقة من الدورة الـ82 من مهرجان البندقية السينمائي الدولي، وذلك بعد غياب السينما الليبية سنين عددا.مر نحو 19 عاما، لم تتوقف فيها محاولات زوجته الفنانة التشكيلية السورية بهاء العمري، عن البحث والنبش وراء هذا الرحيل المفاجئ، وبينما الصراع مستعر بين القوى الثورية وبقايا السلطة السابقة على إثر اندلاع الثورة الشعبية في فبراير/ شباط 2011، وُجدت في منزل بجوار قصر معمر القذافي ثلاجة بداخلها جثة منصور الكيخيا.وبذلك انطوت تلك الصفحة المثيرة، لكن الجرح لا يزال مفتوحا ينزف ألما. تُرى ماذا صنع حتى يحظى بتلك النهاية؟سؤال مشروع بلا شك، لكن قبل الوصول إلى إجابة راسخة اليقين، لا بد من استدعاء سؤال أسبق عن كينونة الرجل، ترى من يكون؟منصور الكيخيا يقف إلى جانب العقيد معمر القذافيمن رحم تلك التساؤلات، ينسج الفيلم خيوط سرديته، فتنشأ بالإسهاب في دروب الذاكرة صورة متكاملة، فالرغبة في إعادة خلق صورة الأب الغائب، تشكل ملمحا أساسيا من هوية الفيلم الفكرية.ولأن منصور الكيخيا لم يكن بحال من الأحوال رجلا عاديا، بل مؤثرا في مسار المعارضة الليبية، فإن الارتباط بين الحياة الخاصة والتداعيات العامة وطيدة الصلة، وبذلك خرج الفيلم من محدودية التناول الشخصي لمعضلة غياب الأب، إلى رحابة الاستعراض العام للتاريخ ومعطيات أحداثه.نتجت عن ذلك المزيج صورة بانورامية شاسعة المدى، تفصح بقدر المستطاع عن خبايا السياسة الليبية وكواليسها، أثناء العصر القذافي.اشترك فيالنشرة البريديةاشترك في النشرة البريدية وتابع أحدث أفلامنا الوثائقيةفهل استطاعت مخرجتنا صنع توليفتها؟ أم أصاب مكوناتها بعض من العطب؟مائدة السردنمر على أرجاء رقعة الفيلم السردية (88 دقيقة)، التي تنوعت أصنافها واتجاهاتها، بين مكونات السرد المعتاد كالحوارات المسجلة، التي ترصد في جانب منها رحلة تلك الأسرة في البحث عن كل ما يتعلق بصلة ما للأب الراحل، وكذلك الحوارات المصورة مع بعض أهله وأصدقائه، مما يسمح بتكوين صورة ذهنية عن إنجازاته.أما الناحية الأخرى الأكثر حداثة، فيمكن حصرها في المشاهد العائلية، التي اقتنصت لحظاتها على مدى سنوات طفولة المخرجة، وهي تكشف بطريقة أو بأخرى التأثيرات المباشرة لهذا الاختفاء المباغت.الملصق الدعائي للفيلمولأن السرد لا يعتمد على البوح الخاص فحسب، فإن قماشة الفيلم السردية تحتوي كذلك على قدر وفير من المشاهد التاريخية النادرة، التي تزيح الستار عن قبسات من التاريخ الليبي القديم والمعاصر.وهذا يحيلنا إلى تحليل خريطة الفيلم الزمنية، التي تتضمن الزمن الحاضر القائم بذاته وحدةً واحدة، والزمن الماضي بطبقاته المتباينة، فنغوص بارتياح بين الشعب الزمنية، لنصبح أمام صورة متكاملة الأرجاء عن ليبيا، الملكية السنوسية في عهد الملك محمد إدريس السنوسي، والجمهورية المستبدة في عهد القذافي.يمزج السرد بين النبرة الخاصة في الحكي، التي تتناول بأسلوب واضح جلي الأحداث المترتبة على اختفاء الأب، وفي الجدار المقابل من الحكاية يلتقط الإطار العام، ويبلور سياقاته ويمزج معطياته بين أسئلة الحكاية الأصلية، فالواقع أن أعمدة السرد الخاصة والعامة، يكمل كل منهما الآخر، وينصهران معا في معية واحدة.وعليه يبدأ الفيلم مشاهده الأولى، تصحبها الخلفية الموسيقية “من أجل إليزا” للموسيقي النمساوي “لودفيج فان بيتهوفن”. ثم تلتقي الكاميرا بالطفلة جيهان، وهي لم تتعد يومئذ ربيعها السادس، تخاطب عدسات الكاميرا، وترجو عودة أبيها، ثم تختم بنداء إلى القذافي تطالبه بالإفراج عنه، فهي تحبه وتشتاق إلى وجوده معها.مخرجة الفيلم جيهان الكيخيا أثناء طفولتهايتبع هذه المقدمة الذكية -الأشبه بالبرولوج المسرحي أو مفتتح السرد- مشاهد من نشرات إخبارية عالمية، تعلن أنباؤها اختفاء منصور الكيخيا. ثم تلي ذلك لقطات أخرى يصاحبنا فيها تعليق صوتي من المخرجة البطلة، وهي تكشف ما تيسر من تفاصيل تلك الحادثة المأساوية.أنا من أكون؟ينطلق الفيلم من إرث ذاتي، ألا وهو الرغبة في إعادة تشكيل صورة الأب المفقود، إذ يطالعنا صوت المخرجة على شريط الصوت وهي تشكو ضعف ذاكرة الطفولة، التي لا تحتفظ بصورة واضحة من ملامح أبيها، ولا تتذكر بصمة صوته، مما يدفع الشك إلى التسلل بداخلها، هل حقا كان موجودا؟من هذا السؤال، يبدأ السرد في رسم صورة متكاملة الأركان، قوامها كشف تلك الشخصية الحاضرة الغائبة في الآن ذاته.يخبرنا الفيلم أن منصور رشيد الكيخيا ولد في بنغازي عام 1931، ونشأ في أسرة ميسورة ذات ثقل اجتماعي وسياسي مرموق، والتحق بجامعة القاهرة لدراسة القانون، ومنها واصل مساره التعليمي في جامعة السوربون بفرنسا.وبعد رسوخ سلطة ثورة الفاتح من سبتمبر/ أيلول بقيادة العقيد معمر القذافي في 1969، أصبح مسؤولا عن حقيبة الخارجية بين عامي 1971-1973، ومنها إلى الأمم المتحدة، فشغل منصب المندوب الليبي من عام 1975 إلى 1980.وبدءا من الثمانينات، وبعد انتشار رائحة استبداد النظام، انضم إلى صفوف المعارضة، وعمل على تأسيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان.يتوسط الصورة منصور الكيخيا ممثلا عن الجمهورية الليبية في الأمم المتحدةوهكذا يواصل السرد كشف شخصية منصور الكيخيا، ومدى تأثيره في الحياة السياسية الليبية، ثم يختلط التعليق الصوتي بشريط الصورة، الكاشف كما هائلا من الصور النادرة، يجمع بعضها بين القذافي ومنصور قبل انخراطه في الاتجاه المعاكس، وكذلك مع شخصيات أخرى.وبذلك نصبح أمام سجل توثيقي حافل بالمعلومات والمصادر، ويتيح للبعيد عن الشأن الليبي الإمساك ببعض من شخصية بطل الفيلم، وبعد أن أدركنا قبسا من تلك الحياة السابقة، يصبح السؤال عن تفاصيل الاختفاء القسري واجبا لا بد منه.يجيب السرد عن هذا السؤال التلقائي بحديث زوجته، التي تروي ورود مكالمة هاتفية من عبد الله السنوسي رئيس الاستخبارات الليبية، فقد تواصل مع زوجها قبل رحلة القاهرة، وعند انتهاء المهاتفة شحب لون وجهه، واندفع في وصلة محمومة من البكاء، وتوسلت هي إليه مطالبة إياه بالبقاء وعدم السفر، لكنه باغتها بقوله: تعددت الأسباب والموت واحد، وكأن قوة ما تجذبه نحو قدره.بعد هذا الاعتراف، تنطلق الابنة المخرجة في تعقب خطوات الأب، فنرافق الكاميرا في رحلتها الجريئة إلى مصر، وهنا يتحول شكل الفيلم العام من البوح الذاتي، إلى البحث الاستقصائي.تعيد المخرجة تسجيل كل المراحل التي سبقت اختفاء أبيها، فتذهب إلى الفندق الذي أقام فيه، وتصعد إلى طابق غرفته، ثم إنها تلتقي أخاه وأصدقاءه في القاهرة، وتسعى إلى تكوين صورة واقعية خالية من ضباب التأويلات المتناثرة.خزائن الذكرياتيقوم بناء الفيلم السردي على المزج بين مشاهد الأسرة الخاصة، التي نراها فيها بكافة مراحلها الزمنية، مع المشاهد والمقاطع العامة، لكن ذلك التوليف والدمج ليس هو ما يثير الدهشة حقا، بل استدعاء الغياب وتحويله إلى حضور طاغ بهذا الكنز البصري.فنصبح أمام فيلم بطله الحقيقي أرشيف العائلة الزمني والبصري، وهي لا تملك في حقيقة الأمر سوى ذكرياتها، التي تشكل بمجموعها قيمة لا يضاهيها ثمن.وفي إطار متقارب، تقول الكاتبة والمصورة الفوتوغرافية “سوزان سونتاج”: الصور وسيلة لحبس الواقع، لا يمكن للمرء أن يمتلك الواقع، لكن يمكنه أن يمتلك الصور، ولا أن يمتلك الحاضر، لكن يمكنه أن يمتلك الماضي.صورة عائلية لمنصور الكيخيا وزوجته وابنته جيهان مخرجة الفيلمهذا الماضي بطبقاته المتعددة، هو ما تسعى إليه جيهان، فتبحث بين أروقته المظلمة عما يشبع ظمأها المشروع نحو صورة واقعية لأبيها. ومن ثم يبدو الفيلم مهموما بطريقة أو بأخرى بتناول فكرة ثنائية الزمن والذكرى، أيهما يسبق الآخر؟ هل الزمن هو الأجدر باحتواء تلك الذاكرة المحملة بثقل الأحداث والمشاهدات؟ أم أن الذاكرة بنسيج خيوطها المتعدد الألوان هي المكون الرئيسي للزمن؟تطالعنا جيهان الطفلة في تلك المقاطع القديمة، فنراها على الدوام والاستمرار مع أمها وأخيها، في رحلاتهم الانتقالية بين فرنسا والولايات المتحدة، يكوّنون معا صندوقا جديدا للذكريات، لكنه هذه المرة يخلو من حضور الأب، وتستحوذ سيرته الحية على النصيب الأكبر من الذكريات السابقة، فحدود تأثيره طاغية.تقول زوجته بهاء العمري في أحد المشاهد، إن حياتها تنقسم على شقين، الأول منها يقع بين حدود مراهقتها وشبابها، ويقبع الشق الآخر بين جدران سردية علاقتها بزوجها، ونضالها بعد اختفائه القسري.الضحية والجلادتواصل الزوجة بهاء العمري حديثها المطول، وهو يحظى بنسبة لا بأس بها من زمن الفيلم، وتقول إنها لقيت أحد عناصر الاستخبارات الأمريكية، فأبلغها أن زوجها قد قتل في أحد سجون النظام.لكن حدسها الداخلي كان أصدق وأقوى تأثيرا، وقد ثبت فيما بعد صحة استدلالات ذلك الحدس، وعليه واصلت مطالبة الحكومة الليبية بالإفصاح عن الحقيقة، التي لا يدركها إلا رجل واحد، ألا وهو معمر القذافي.منصور الكيخيا في مرحلة متقدمة من العمرفقد نسج الفيلم حكايته قائمة على الصراع بين البطل ونظيره أو منافسه، مستعينا في هذا بالتقاليد المألوفة في الفيلم الدرامي، فبانطلاقته الأولى مع منصور الكيخيا، يطلق السيناريو القذيفة المقابلة، التي يكون بطلها القذافي، والحقيقة الثابتة أن كلا منهما كان ضد الآخر.لذلك يوازي التعبير البصري والإخراجي بين هذا التضاد، ويلتقط من الأرشيف التلفزيوني لقطات للقذافي من زوايا عدة غير معتادة، تكشف -وإن بقدر يسير- ما يكنه من استعلاء وطغيان.ولا تقف الحكاية عند حدود الكشف عن توابع أزمة اختفاء الكيخيا، بل تنطلق نحو ما هو أعمق، فتصبح دلالة ما حدث تعبيرا عن بعض ما كان يجري من انتهاكات واسعة المدى أثناء تلك المدة الزمنية، التي لا يرى أصحابها سوى ذواتهم، فكل رأي مخالف لتلك الرؤية الأحادية الجانب، سيُلقى قائلها خلف أشعة الشمس.هنا تتصاعد على الشاشة مشاهد من ليبيا الماضي، حيث تسيطر اللافتات الدعائية للنظام وقائده على الشوارع، مما يعطي انطباعا دائما بأن الجميع تحت ظلال المراقبة الصامتة، وفي ذلك إشارة واضحة الدلالة على مدى إحكام القبضة الحديدية على مجريات الحياة ومقدراتها.بذلك يتحول الفيلم من تعبير عن هم ذاتي مؤرق، إلى وثيقة بصرية ثرية المحتوى، عن عصر وزمن لا يزال حاضرا بإرثه الذي يأبى الانزواء.مرافئ الحنينتقول المخرجة جيهان الكيخيا في أحد الحوارات الصحفية التي تلت عرض الفيلم: استغرقت نحو 10 سنوات لإتمام هذا الفيلم، فقد طرقت الفكرة ذهني أثناء دفن أبي، وبعد اندلاع الحرب الأهلية الليبية، حينها أدركت أنه لا بد من البحث عن الحقيقة.ولا شك أن التعامل التقني مع هذا الكم الهائل من المواد البصرية، ودمج قصاصاته بين قوسين دراميين، يحتاج إلى حساسية وحرفية، وقدرة على الحذف والاستبعاد قبل الضم والإضافة. فالتوليف المونتاجي أسهم في خلق حالة سردية طازجة متدفقة الإيقاع بصورة ملحوظة، برغم زخم المحتوى وتنوعه.جيهان الكيخيا وأمها بهاء العُمري في مهرجان البندقية أثناء العرض العالمي للفيلموالمثير للتأمل حقا، هو القدرة على الاحتكاك مع هذه الذكريات المؤلمة، التي يصنفها علماء النفس ذكرى مطمورة أو منسية، فيلجأ العقل في هذه الأحيان إلى إخفائها، ويطمرها في اللاوعي، وعندها يصبح الاستدعاء مشكوكا في جدواه.صحيح أننا في فيلمنا نجد شيئا مماثلا، لكن الاسترجاع هنا -مع ما يغلفه من ألم- يقترن بالمعرفة والإدراك، فيبدو الفيلم حساسا وشاعريا وباعثا على التأمل والتدبر، لا في مآلات ذلك الاستبداد فحسب، بل نحو ضحاياه كذلك.وما أكثر الضحايا!
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
اقرأ أيضاً





