بعد عام على سقوط نظام بشار الأسد، تقدّم صحيفة الغارديان البريطانية قراءة تحليلية للتحولات العميقة التي أصابت الدور الأوروبي في الشرق الأوسط. ينطلق التقرير من تراجع أوروبا السياسي والأخلاقي نتيجة ارتهانها للسياسات الأميركية، ولا سيما في الحرب على غزة والملف النووي الإيراني، وصولاً إلى فقدانها نفوذها ومصداقيتها في المنطقة. وفي مقابل هذا الانكفاء، يرصد التقرير صعود أدوار إقليمية بديلة تقودها دول الخليج وتركيا، قبل أن يتوقف عند سوريا وبلاد الشام باعتبارها المساحة المتبقية التي قد تتيح لأوروبا لعب دور محدود في دعم الاستقرار وبناء أنظمة حكم في مرحلة ما بعد الأسد.
ترجمة التقرير
بعد عام على إسقاط دكتاتور سوريا بشار الأسد، أصبح أحمد الشرع، المقاتل الجهادي السابق، رئيساً للبلد، وبعد أن ألقى خطاباً بمنتدى الدوحة في مطلع هذا الشهر، أخذ يتهرب ببراعة من الأسئلة المتعلقة بماضيه المثير للجدل، كما تحدث عن رحلة بلده المعقدة نحو نظام تشاركي قائم على قواعد وقوانين. وفي أثناء الاستماع إليه، تستغرب من فكرة تعطل الدور الأوروبي في الشرق الأوسط إلى حد كبير وذلك بسبب الموقف اللاأخلاقي الذي اتخذته أوروبا تجاه الحرب على غزة وبسبب نأيها بنفسها عن الدبلوماسية بالنسبة للملف النووي الإيراني، ولكن مع ذلك، مايزال أمام الأوروبيين دور ليلعبوه في الدول المجاورة لهم الواقعة شرق البحر المتوسط.
انقلب العالم الأوروبي رأساً على عقب مع انحياز واشنطن لموسكو في حرب أوكرانيا، وظهور ذلك الصدع العابر للأطلسي بعد أن صارت إدارة ترمب تتعامل مع أوروبا كخصم. وثمة سبب آخر لهذا الانقلاب وهو تعاظم انفصال أوروبا عن الشرق الأوسط، لذا لا يمكن للأوروبيين أن يطمحوا باستعادة دورهم المستقل والبنّاء في تلك المنطقة إلا في حال تقبلوا بأن الماضي بات وراءهم.
الدور الثاني .. والبطولة لأميركا
بعد أزمة السويس في عام 1956، والتي مثلت نهاية الهيمنة الاستعمارية الأوروبية على الشرق الأوسط، أقنع الأوروبيون أنفسهم بلعب الدور الثاني بعد الدور الأميركي، وهكذا أصبح بيد واشنطن القرار النهائي حتى لو لم توافق عليه حكومات الدول الأوروبية والرأي العام دوماً، وهذا ما تجلى بشكل لافت خلال حرب العراق عام 2003، بيد أن الولايات المتحدة بقيت على عادتها في استدعاء أوروبا لتؤيد مشاريعها، فلم يكن أمام الأخيرة سوى الرضوخ في نهاية المطاف.
بيد أن العقد الاجتماعي الذي أقيمت عليه تلك العلاقة العابرة للأطلسي والتي احتمت بموجبها أوروبا بالمظلة الأمنية الأميركية، جعل ذلك الاتفاق يستحق هذا العناء، وهذا لا يعني بأن الحكومات الأوروبية تفتقر إلى القدرة على الفعل واتخاذ القرار في الشرق الأوسط، كونها لعبت أدواراً مهمة في عملية السلام بأوسلو، عندما دعمت منظمة التحرير الفلسطينية بوصفها نواة لدولة قيد التشكل. إلا أن الأهم من كل ذلك هو أن الدبلوماسية الأوروبية دفعت وبكل أناة تلك الجهود التي بذلتها عدة أطراف والتي أفضت في نهاية الأمر لتوقيع الاتفاق النووي الإيراني. غير أن الدور الأوروبي بقي في كل المناسبات يركز على دعم القيادة الأميركية في المنطقة ومحاولة كبح جماح أي شطط تبديه في مجال السيطرة، حتى في حال وجود خلاف مع واشنطن. وقد نجحت أوروبا في ذلك في بعض الأحيان، لكنها فشلت في أحيان أكثر، من دون أن يطرأ على إطار العمل السياسي أي تغيير.
وهذا الإطار لم يعد موجوداً اليوم، فقد انسحبت أوروبا من الشرق الأوسط بعد أن استنزفتها الحرب التي قامت على أرض قارتها، أي أن النزاع في أوكرانيا لم يستهلك معظم مساحة السياسة الخارجية لأوروبا، بل شوه أيضاً موقفها السياسي تجاه الشرق الأوسط، وذلك لأن شرط الحصول على دعم أميركي في أوكرانيا، وخاصة في ظل حكم دونالد ترمب، هو تقبل أعمى لسياسات واشنطن في منطقة الشرق الأوسط، والتي شملت قصف إيران بشكل مخالف لكل القواعد القانونية. فمنذ أمد بعيد وإيران تعتبر إشكالية بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، وتبنيها لقوات وكيلة، ولبرنامج نووي، إلا أنها تحولت فجأة إلى خصم بعيون الأوروبيين بعد انحيازها الاستراتيجي لروسيا.
من جانبها، لم تعد الولايات المتحدة تنظر لأوروبا بوصفها شريكتها الأساسية في الشرق الأوسط، إذ بعد صعود عناصر فاعلة إقليمية، وخاصة في دول الخليج وتركيا، أصبحت واشنطن اليوم تتعامل مع الرياض والدوحة وأبوظبي وأنقرة بصورة مباشرة، ولقد اتضح التهميش الذي تعرضت له أوروبا منذ أيام إدارة جو بايدن، ويعود أحد أهم أسباب ذلك، لنأيها بنفسها عن تلك المنطقة. أما في عهد ترامب، فقد أضحى ذلك الإقصاء تلقائياً، مع سعي إدارته لتهميش أوروبا أكثر فأكثر.
أوروبا بلا مبادئ ولا نفوذ
أما العناصر الفاعلة في المنطقة فلا تصفق لعودة أوروبا، وذلك بعد أن فقدت مصداقيتها إثر رفضها بعناد وبلا أخلاق لاستغلال النفوذ الأوروبي من أجل إنهاء الحرب الإسرائيلية الماحقة على غزة، فلم يعد هنالك سوى قدر ضئيل جداً من المصداقية لأوروبا هناك، إذ عندما صرح المستشار الألماني، فريدريتش ميرز وبكل صراحة بأن إسرائيل تقوم "بالعمل القذر" بالنيابة عن أوروبا، عبر هجومها على إيران، سقطت كل الأقنعة، فلم تعد توجه الاتهامات لأوروبا بأن تعاني من ازدواجية في المعايير، ولم يعد يستثنى منها سوى دول قليلة وهي إسبانيا والنرويج وأيرلندا، وأحياناً فرنسا، بل صارت تعتبر كياناً لا يتبنى أي معايير على الإطلاق، وهكذا مسحت أوروبا عن الخريطة بكل بساطة، بعد أن خسرت نفوذها ومبادئها.
واليوم، فإن أي أمل بتحقيق وقف دائم لإطلاق النار في غزة، أو بتحقيق أي تقدم في سبيل إقامة دولة فلسطينية، لا يقوم على مساعي أوروبا، لأن القادة الأوروبيين ما فتئوا يختبئون وراء خطة السلام التي اقترحها ترمب، ويمتنعون عن ممارسة أي ضغط على إسرائيل.
دول الخليج وتركيا هي الفاعلة اليوم
وعليه، فإن الأمل الضعيف المتبقي معقود بوساطة قطر، التي تلعب مع تركيا والسعودية ومصر أدواراً مهمة. وهكذا، لن تقود حكومات الدول الأوروبية هذه العملية، في حال استئناف العملية الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وإيران مستقبلاً. فقد أضعفت كل من فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة موقفها وذلك عندما دعت لإعادة فرض العقوبات الأممية على إيران، تلك العقوبات التي أنهت الاتفاق النووي الذي أسهمت تلك الدول نفسها في التوصل إليه وتوقيعه.
والآن، فإن أي تقدم يعتمد على التقارب بين دول الخليج وإيران، وخاصة مع احتمال ظهور دور للسعودية من خلال التوسط لإجراء محادثات بين واشنطن وطهران. أي بالمختصر، ينحصر أهم دور يمكن لحكومات الدول الأوروبية أن تلعبه في هذا السياق في دعم المساعي الخليجية للتأثير على ترمب، وذلك بالنسبة لأهم المشكلات الملحة في الشرق الأوسط، أي النزاع بين فلسطين وإسرائيل وكذلك بالنسبة للملف الإيراني. وهذا الدعم الأوروبي مهم، سيما في غزة حيث يمكن لوقف إطلاق الهش أن ينهار في حال أصيبت خطة ترمب بأي جمود. غير أن الدور الأوروبي في المنطقة انحسر ليحل في المرتبة الثالثة اليوم.
فرصة سانحة أمام الأوروبيين
غير أن الشرق الأوسط مايزال جاراً لأوروبا، لذا من السذاجة أن يفترض المرء بقاء الأوروبيين بعيدين عن تلك المنطقة لأجل غير مسمى. فمع تضاؤل مساحة المناورة أمام أوروبا، صار عليها أن تركز على بلاد الشام كلها، وبخاصة سوريا ولبنان والعراق، نظراً للضعف الشديد الذي يعتري تلك الدول الثلاث، فلبنان يخوض عملية إصلاح معقدة، بوجود تهديد دائم بحرب تلوح مع مواصلة إسرائيل احتلالها لخمس نقاط عسكرية في ذلك البلد. أما العراق فقد نجح بالنأي بنفسه عن التقلبات الأخيرة التي عصفت بالمنطقة، وأخذ يسعى جاهداً نحو تحقيق حالة توازن دقيقة مع سعيه لانتزاع استقلالية أكبر من دون أن يتسبب ذلك بمعاداة طهران. في حين ماتزال سوريا ضعيفة وهي تحاول أن توفق ما بين العدالة وتماسك المجتمع، في وقت أضحت في مجابهة مع إسرائيل بكل ما ملكت من أجندات عدوانية توسعية.
لم تتعامل الولايات المتحدة مع لبنان والعراق بصورة مباشرة، ويستثنى من ذلك سوريا التي أبدى ترمب بها بعض الاهتمام الذي وصل إلى ذروته عند زيارة الشرع لواشنطن. وفي الوقت الذي تتضح أهمية وجود عناصر فاعلة في المنطقة، وذلك نظراً لنفوذها الأمني (كما هي حال تركيا في سوريا) أو دعمها الاقتصادي (كما هي حال دول الخليج)، يظهر ذلك الفراغ الذي بوسع أوروبا أن تملأه، إذ مع الفوضى التي تعتري النظام الليبرالي الدولي، قد لا تلقى فكرة دعم نظام الحكم أي اهتمام، على الرغم وجود طلب على ذلك في بلاد الشام، وتلك هي النقطة التي مايزال بوسع أوروبا أن تسهم فيها بصورة فعالة وبناءة.
المصدر: The Guardian(link is external)
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


