مصر قبل أن تعرف بفنونها وسينماها وممثليها ومطربيها، كانت تعرف بمفكريها وعلمائها وأدبائها، أو لنقل قدمت مصر للعالم أمثولات في الكثير الكثير من السياسة والأفكار والفنون، فقد كان "ترند" الأيام الماضية على كتاب أو قصيدة أو أغنية فريدة، ووصلنا إلى اليوم الذي يثار فيه الجدل على كلمات عابرة تمس لغتها العامية في مسلسلاتها التاريخية.
"ترندٌ" جديد جنوني في أم الدنيا بسبب تصريح الممثل السوري سلوم حداد بخصوص إجادة الممثلين السوريين للغة العربية الفصحى في الدراما التاريخية أكثر من الممثلين المصريين.
بصراحة (لا أحبذ استخدام كلمة فنان ولا استسيغها ومعظم الموجودين بالساحة اليوم هم ممثلون يمتهنون مهنة التمثيل أمام الكاميرا أو على خشبة المسرح، وعندما دقت ساعة الحقيقة انحازوا للمستبدين ووقفوا ضد الثورة في سوريا أو مصر أو مع الانقلاب العسكري بمصر فيما بعد).
سلوم حداد قبل إشارته تلك للغة العربية وإجادتها، مدح الفن المصري مشيراً إلى أنه الرائد في العالم العربي، ولكن التصيد ناله في ظل التضليل الدائم لأي كلام يتم إخراجه من سياقه على مواقع التواصل الاجتماعي.
وإذا بتصريح شخص ينعكس على أمة تعدادها يزيد عن مئة مليون، في توصيف لواقع مؤلم عن الحال التعيسة الذي وقعت به الأمة، سواء في مصر أو في سوريا أو في غيرها من بلادنا المحتلة بالتغريب والترهيب أو الميوعة وصناعة المحتوى وعالم المؤثرين!
مصر، ليست التي تعرفونها اليوم، بل بلد كلاسيكيات الأدب العربي وشعره ونثره وفضاءاته الرحبة، كان الترند يؤدي إلى افتتاح مجلات ونثر مقالات وكتابة كتب، فسوريا على تاريخها واتساعها لم تستطع بعد البعث أن تقدم سوى قلة قليلة من المفكرين والكتاب، في الوقت التي بقيت مصر تحافظ على مكانتها إلى زمن غير بعد.
مصر أحمد شوقي وطه حسين ونجيب محفوظ ومحمود محمد شاكر وسعد زغلول ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا وتوفيق الحكيم ومصطفى لطفي المنفلوطي ومصطفى صادق الرافعي وسيد قطب وحافظ إبراهيم وعباس محمود العقاد ومصطفى محمود ومحمد عمارة وغيرهم الكثير.
بين اليوم والأمس، نجد بوناً شاسعاً في التأثر والمؤثرين، في الترند والمعنى، شيءٌ من السيولة التي نعيشها حالياً، بعد مرحلة من تسيد العقل كل شيء تقريباً، نعيش في ظاهرة ما بعد الحداثة، وهي التي سماها عالم الاجتماع البولندي زيجومنت باومان الحداثة السائلة، حالة من تفكك المفاهيم الصلبة والتحرر من الحقائق والمفاهيم والمقدسات إلى سيولة مفرطة باللامعنى والفراغ والتفاهة واختصار المضمون.
حتى في الاختلافات هذه كان الزمن الأول في مصر فريداً والخصومة نبيلة، يتصدى لها كبار المثقفين، ففي كتابه أباطيل وأسمار، نقد محمود محمد شاكر "أبو فهر" محاولات تغريب الثقافة العربية الإسلامية، مقتبساً اسم كتابه من أبيات شيخ معرة النعمان (السوري) أبو العلاء المعري:
هل صحّ قولٌ من الحاكي، فنقبَلَهُ،
أمْ كلُّ ذاكَ أباطيلٌ وأسمارُ؟
أمّا العقولُ، فآلتْ أنّه كذِبٌ
والعقلُ غَرْسٌ، له، بالصدقِ، إثمارُ
ورغم أن الكتاب كان رداً على المحرر الثقافي لدى جريدة الأهرام (لويس عوض)، الذي شحذ قلمه وبدأ سلسلة مقالات تحت عنوان "على هامش الغفران"، ما أحدث ثورة وشغباً بين الأدباء والمثقفين، بعد أن زعم أن المعري تلقى علوم اليونان على يد الرهبان وراح يدلس ويتهم المعري بما ليس فيه، فبدأ "أبو فهر في تتبع مقالات "عوض" وكتب فصول كتابه على شكل مقالات متفرقة على فترات وكان شديد القسوة على لويس الذي لا يعد مثقفاً عادياً أو تكاد لا تجد له شبيهاً بتحصيله واتساع علومه في زمننا.
وهذه بعض عناوين فصول الكتاب: " ليس حسناً - بل معيباً - بل قبيحاً - بل شنيعاً - لا تنقضي - أمهلهم رويداً- باب الفحص عن أمر دمنة -
تتمة الفحص عن أمر دمنة- على أهلها تجني براقش - ليس الطريق هنالك- ثم ... ليس الطريق هنالك - ثمَّت ... ليس الطريق هنالك- ضفادع في ظلماء ليل".
ثم يختم مقاله "ثم غلقت الأبواب": (في الثالث من جمادى الآخرة سنة 1385 " 30 أغسطس سنة 1965"، وأحاطت بي الأسوار، وأظلمت الدنيا، وسمعت، ورأيت، وفزعت، وتفزَّزت ... وكان ما كان.
في ذلك الزمان، كانت مصر تعيش نهضهتها الثقافية والفكرية واختلافات أبنائها وبناتها في التسديد والمقاربات، إلا أنها قدمت لنا مزيجاً من الثقافة التي تليق باللغة والأدب، وعلى الجانب الآخر كان يوجد الفن الهابط والأفلام التجارية الرخيصة، إلا أن ما بقي وحفظه الناس كان حتماً هو العمل الجاد سواء في الأدب أو الغناء أو الثقافة أو "الترند" يومها والتي وصلت بمصطفى صادق الرافعي أن يضع عباس محمود العقاد على السفود لـ "يشويه"، ومع ذلك كانت مقالات تحملُ من اللغة والأدب والأفكار ما يشار له ويحكى عنه، فبقيت بين مستهجن ومستحسن.
عن اللغة واستحضار التاريخ
لطالما كانت الدراما مطية لتقديم رؤى الممول، وقد صنعت منها الولايات المتحدة قوة ناعمة، كسرت بها الاتحاد السوفيتي ثم استمرت بصناعة بروبغندا على هواها تقدم سرديات تتوافق مع دعايتها السياسية، وعملت الأنظمة العربية على ذلك، كلٌ حسب مصالحه ومطامحه ومطامعه.
دخلت السياسة في عمق الإنتاجات الدرامية التاريخية والحديثة والراهنة وأخذت أسباب تمويلها، وكان صناع بعض تلك الأعمال أحياناً أشد ذكاء ومعرفة أو بالعكس، فمنهم من قدم نماذج عظيمة من التاريخ وتركوا حكم القيمة للمشاهد، فلم يحاكموا التاريخ بقدر ما قدموه صحيحاً ومجرداً وموضوعياً، وفق أدق المصادر تاركين للمشاهد مساحته للتفكير والمراجعة وأخذ العبرة، ومنهم من شوه العمل فلم يحقق ما يريده المنتج، فالعمل الناجح هو من يحقق ما يريده الممول وليس العكس.
وعلى الرغم من أنه قد يكون لا فائدة تُرجى من مسلسل مثل الزير سالم خصوصاً مع معارك قتل الأهل لبعضهم، إلا أن ممدوح عدوان كان يقصد من وراء عمله، إشارة إلى مآلات الاستبداد وجنون العظمة ومأساة الثأر في العقل العربي، وهو نوع من إعادة استقراء التاريخ مع الإشارة إلى حاضر مؤسف وزمان يائسٍ.
والحقيقة الآن أن اللغة العربية ليست بأفضل حال في سوريا ولا في مصر، ولا في أي مكان تعرفونه أو سمعتم به، فالدراما التاريخية التي كان يكتبها خبير اللسانيات والأدب المقارن د. وليد سيف بلغتها العالية وبريقها وألقها وتصاويرها الفنية لم تعد موجودة كما في الحقبة الذهبية للدراما التاريخية، ولا المعالجة الفنية المحترمة التي تتناول التاريخ بالأفكار لا بالسرد، وبانعكاس الواقع لا بمجرد الأدلجة والتسطيح والترفيه، تمكنت من مواكبة تطور الصورة والتقنيات.
ولم تكن مسلسلات صلاح الدين سوى في مرحلة متصلة مباشرة بالانتفاضة الفلسطينية وما تبعها من محاولة لطرح المبادرة العربية في قمة بيروت عام 2002، حيث لم يتح لهم الاستمرار في نقاش القضية الفلسطينية بعد ذلك.
فصلاح الدين، مسلسل رمزي واستثنائي فيه الكثير من التركيز على رمزية الأمة ونبذ القطرية، ورغم أن المسلسل يشير إلى استعادة الأقصى في واقع عربي لم يكن ذلك ممكناً فيه، إلا أنه حافظ على حضور القضية في الوجدان العربي والإسلامي، خصوصاً مع ترجمته ودبلجته إلى عدد من اللغات.
وهنا بدت ثقافة وليد سيف في الكتابة للفصحى استثنائية وحيوية، وليس كما يقال إنها غير مفهومة، فاللغة المنبثقة من القرآن الكريم، لغة بديعة وجميلة ولا تحتاج إلى التسطيح أو التسخيف.
ولم يتوقف وليد سيف عند ذلك، فقدم الفلسطينية المحكية ببراعة وسلاسة فدخلت كل بيت عربي بشكل مفهوم وواضح بما يناسب مرحلتها وزمانها، مع
إتقان الممثلين السوريين أيضاً للهجة ليست سهلة عليهم، إلا أنهم تمكنوا منها مع نص استحضر الأدب العربي الحديث وتأثر الشباب الفلسطيني بالحداثة الجديدة والقومية العربية ثم انكسارهم وخيبة أملهم مع النكسة (التي توصيفها الصحفي المصري حسنين هيكل لتخفيف حجم الهزيمة المرة عام 1967) وحملنا سيف مع كاميرا حاتم علي إلى حياة المخيمات وثوران الشباب، فنجد مسلسلاً يجسد حياة المجتمع الفلسطيني ويومياته وتاريخه الحديث، مثل وثيقة تاريخية درامية خالدة.
ولم تكن السلسلة الأندلسية بأقل ملحمية ورمزية، عن العرب وقبائلهم ومجد صعودهم في الأندلس إلى زمن تراجعهم وانكسارهم، وكيف يغير كرسي الملك الأشخاص ويغير نفوسهم وكيفية تفكيرهم، مع استحضار مستمر للأدب والفنون والعلوم والتطور الذي كان في أكثر العصور الوسطى الأوروبية ظلامياً وأكثر العصور الإسلامية إشراقاً، وبقيت اللغة العربية عالية كأنها ديوان عربي يفهمه الكبير والصغير، يكون ثقافة ويسمر الأسرة أمام الشاشة لا تخشى عليهم من فكرة خبيثة أو خدش حياء.
جاء مسلسل "عُمر" فريداً واستثنائياً وملحمياً، ولم يكن سورياً فقط، بل ضم نخبة من أفضل الممثلين العرب، سوريا (أكثر من النصف) ومصر والعراق والأردن والخليج والمغرب العربي، وهذا زاد من تألقه، مع نص بديع ولغة تحمل من الجمال والكمال والتصوير البديع ومخرج لديه مشروع ورؤية وحُلم ما كان يليق بشخصية عمر بن الخطاب رضوان الله عليه.
كانت الدول الممولة تريد أن تواجه في مسلسل عمر، التمدد الإيراني الشيعي في المنطقة، وبالصدفة دخلت الدول العربية في هبة الثورات والحديث عن العدالة والديمقراطية وحقوق الشعوب، فكان مسلسل عمر آخر الأعمال الجادة والرزينة على السواء.
ولم يكن فيلم الرسالة للراحل الكبير مصطفى العقاد بعيداً عن هذه الفكرة، رغم أنها ولدت بعيداً في سبعينيات القرن الماضي، حيث استذكر سلوم، عبد الله غيث أشهر شخص أدى دور حمزة بن عبد المطلب، أو مر على نور الشريف ذلك الممثل المثقف الواعي الذي أدى أدوار هارون الرشيد وعمر بن عبد العزيز وعمرو بن العاص بتألق فني يتوافق مع فترته وزمن إنتاجه إلا أن الصورة لا تكتمل بشخص واحد دون فريق عمل متكامل.
وخلال سنوات الثورة السورية ومآسي السوريين والانقلاب في مصر ثم موجات التطبيع مع الاحتلال، لم يعد الإنتاج الدرامي نزيهاً بقدر ما أصبح مسيساً بشكل فج وفاقع ومباشر، فلا معالجة درامية ولا تمثيل احترافي ولا إخراج ولا إنتاج، تركيز على الجواري والتعدد وجنسانية الأفكار دون مراعاة للزمن ووضعه التاريخي.
إنه زمن الرداءة
ففي مسلسل المهلب بن أبي صفرة، أراد الممول أن يشير إلى إحدى الدول العربية بأنها تدعم الإرهاب وأن أصل الخوارج "والدواعش" اليوم قد كان في قطري بن الفجاءة ثم في نسله !، وكأن الجريمة أو الفكرة تورث في الجينات، في عمل تاريخي يخلو من الدقة التاريخية والإبداع وحتى اللغة الجيدة.
وفي مسلسل ممالك النار، الذي أدى بطولته خالد النبوي من مصر ومحمود نصر من سوريا، في مسلسل وصلت تكلفته إلى 40 مليون دولار لم يتمكن أيٌ من الممثلين أن يقنعا المشاهد بما يؤدونه، حيث وضع صناع العمل العثمانيين في مقارنة مع المماليك بانحياز تاريخي ضد الأتراك المعاصرين، في قراءة سياسة رديئة من كتاب لا يعلمون أن جذر المماليك والعثمانين واحد ثم تغلب طرف على آخر.
أما مسلسل معاوية بن أبي سفيان، ترانا نجد نصاً ركيكاً وعربية حديثة شبه عامية دخلت عليها العُجمى ومارست عليها كل أنواع الابتذال، فنجد هند تتحدث عن أهم إنجازاتها في معاوية وكأنها قد أنهت قبل أيام دورة في ريادة الأعمال، أما التمثيل، فلا حول ولا قوة إلا بالله. فإن إن كان عمرو بن هشام (أبو جهل) سيعود يوماً ويشاهد مسلسل عمر ويرى دوره الذي أداه الممثل العراقي جواد شكرجي، فحتماً سيقول: ما هذا الجمال لقد تجاوزتني وصرعتني أرضاً يا جواد (والحال مع معظم الممثلين الآخرين خصوصاً في الفترة المكية مثل من أدوا أدوار أبو سفيان وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وسهيل بن عمرو)
ثم يقف أبو جهل الحقيقي على أطلال مكة منشداً أبيات الصولي العباسي:
إِذا ما الفكرُ أضمرَ حسنَ لفظٍ *** وأدَّاهُ الضميرُ إِلى العيانِ
ووشَّاهُ ونمنمَهُ مُسَدٍّ *** فَصِيحٌ بالمقالِ وباللِّسانِ
رأيتَ حُلى البَيان منوَّراتٍ *** تضاحكُ بينها صُورَ المعاني
فاللغة الرشيقة العالية الفصيحة، مثل الرسم بالريشة، أو كما يقول نزار قباني رسمٌ بالكلمات، يتذوقه الجميع ويرونه جميلاً، ويعطونه درجات شبه كاملة في التصنيف، وتبقى مكانة الإعجاب به عائدة على الاهتمامات والوعي ومساحة الثقافة.
وفي هذا الزمن يضطر سلوم حداد للاعتذار مشيداً بالفن المصري وعظمته وتألقه وأنه لم يكن يقصد ما قاله، في الوقت الذي يتيه المرء فيما يرثيه هل اللغة العربية أم الفن المصري أم حال أمتنا سياسياً ومعرفياً وثقافياً وفنياً أم فتوحات المؤثرين.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه