أيام سينمكنة للأفلام الشعرية.. مغامرة سينمائية تنحت في الزمن

يظن أناس أن الشعر والسينما لا يلتقيان، فالأول تأسس على الكلمة، والثاني يعتمد على الصورة، لكن الحقيقة غير ذلك تماما، فهما ذوا علاقة وطيدة جدا، فكلاهما يشتغل على الصورة والإيقاع.وقد تناول عدد من المنظرين وصناع السينما هذه العلاقة منذ البدايات، ولم تكن المسألة مجرد تحويل قصيدة إلى فيلم، بقدر ما كانت بحثا عن فن الشعر “البويطيقا” (Poetics).فيديو عن مهرجان أيام سينمكنة للأفلام الشعريةإن السينما في جوهرها هي فن النحت في الزمن. المخرج “أندريه تاركوفسكي”تختزل هذه العبارة العلاقة بين فنين متلازمين، فهذا النحت فعل شعري بامتياز، لأنه لا يُعنى فقط بطرح سؤال عما يحدث، بل عن كيفية عيش هذا الحدث إحساسا وروحا.لا يهتم المخرج بالقصة أو الحدث في حد ذاته، بل بكيفية تقديمه بطريقة مؤثرة وعميقة، لذلك فإن السينما ليست مجرد ترفيه، بل أداة للتعبير عن المشاعر الإنسانية وتأثيرها العميق على الفرد.ومن المهم هنا أن نقول إن السينما الشعرية مصطلح سينمائي نقدي، يعود في أصوله الأولى إلى المخرج الإيطالي “بيير باولو بازوليني” (1922-1965)، وقد اقترح هذا المصطلح في نظريته المنشورة عام 1965 تحت عنوان “سينما الشعر”.الفيلم الجزائري “سكينة” يتوّج بالذهبية في أيام سينمكنة للأفلام الشعريةتنقسم نظرية “بازوليني” إلى قسمين رئيسيين؛ هما الصورة الإشارية، والخطاب الحر غير المباشر. وهو يتحدث في نظريته عن دور الكاميرا في خلق لغة السينما الشعرية، بصفتها “منتج الصورة التقني”، فيرى أن شروط اللغة الشعرية في السينما تقوم على “جعل الكاميرا تشعر”، بعكس رؤية معظم المخرجين حتى نهاية الستينيات، الذين كانوا يجتهدون لإخفاء “مشاعر” الكاميرا.ومن هنا تأتي فكرة تأسيس أيام سينمكنة للأفلام الشعرية بمدينة المكنين في تونس، التي تختزل تلك العلاقة العميقة بين الكلمة والصورة، في سياق إنساني يعتمد على الإحساس والمغامرة، من دون أن يكون الشعر مصدرا أساسيا للأفلام بل محركا لها.مغامرة ورهانصدّر منظمو مهرجان سينمكنة تقديم لجنة اختيار الأفلام بجملة للمخرج الإيراني عباس كيارستمي، يقول فيها: كل فيلم هو رحلة نحو المجهول، حتى لو كنت تعرف نهايته.ولكنني أرى أبعد من ذلك وأنا أتابع الأيام منذ انطلاقتها، فكل مهرجان سينمائي بعيد عن المركز (العاصمة) هو رحلة شاقة، ومغامرة لا يمكن أن يتنبأ أحد بنتائجها.الملصق الدعائي للمهرجانلا يخفي يونس بن حجرية -مؤسس أيام سينمكنة ومديرها- تفاؤله بوصول الأيام لدورتها السادسة، ويقول إنه يعمل لتكون الدورة القادمة دولية بالمعنى الجماهيري، أي أن تتوافد جماهير أجنبية إليها.اشترك فيالنشرة البريديةاشترك في النشرة البريدية وتابع أحدث أفلامنا الوثائقيةويقول: نحن نراهن على الجمهور، الذي يتزايد من دورة إلى أخرى، ونسعى لتقديم مادة سينمائية تستقطب المتلقي، ولذلك كانت شراكاتنا متنوعة مع دور الثقافة ودور الشباب والمؤسسات التعليمية.راهن المهرجان على الشباب والأطفال بورشاته المتعددة والمتنوعة، وبنوعية الأفلام التي اختيرت للمسابقات. وقد قال مدير المهرجان عن انتقائية الجماهير: لا يهمنا كثيرا عدد الجماهير بقدر ما تعنينا نوعيتهم واستمراريتهم في متابعة الأفلام والورشات.صورة لبعض مخرجي الأفلام المشاركة في أيام سينمكنة للأفلام الشعريةوقد فتح المهرجان أبوابا كانت مغلقة سنوات، وعمل منظموه على إعادة فتح آخر قاعة سينما بالمدينة في إحدى دوراته، بعد عقود من الغلق، وتلك خطوة تحسيسية للمسؤولين بضرورة إعادة النظر في حق الجمهور في قاعات سينما.كما سعى المنظمون في الدورة الماضية إلى إعادة فتح قاعة سينما مغلقة بدار الثقافة في طلبلة، غير بعيد عن مدينة المكنين التي تحتضن فعاليات أيام سينمكنة للأفلام الشعرية.لماذا الأفلام الشعرية؟عرفت مدينة المكنين في الساحل التونسي (200 كلم جنوب العاصمة) بشغف أبنائها بالشعر الشعبي، والموروث الغنائي التقليدي، الذي يسمى “الأدبة”، وهو شكل أدبي يجمع بين الشعر الشعبي والغناء.وذلك ما حدا بالمخرج والباحث يونس بن حجرية إلى سلك دروب الشعر في السينما، وبحث العلاقة الوثيقة بينهما، سواء بأعماله الوثائقية التي نحتت عميقا في هذا الإرث، أو بتأسيسه مهرجانا يحمل خصوصيته من عدة أوجه، أهمها طرْقه بابا غير متداول كثيرا بالجمع بين الشعر والسينما.فضلا عن مراهنته أن يكون التنظيم بعيدا عن العاصمة التي تستقطب أغلب الفعاليات، ناهيك عن العمل مع الأطفال والشباب، بمن فيهم فاقدو السمع، لصناعة أجيال من المولعين بالسينما والصورة والشعر.جانب من ورشات المهرجانلا يخفي مدير المهرجان يونس بن حجرية سعادته بأن الأيام أصبحت موعدا ثابتا لهواة السينما والشعر في تونس والعالم العربي، ويقول: هذه الدورة تسعى إلى ترسيخ مفهوم الفيلم الشعري نوعا فنيا قائما بذاته، يجمع بين الحس الجمالي والرؤية الفلسفية، ويعيد للسينما دورها الإنساني في التعبير عن الذات والمجتمع بلغة الإيحاء والتكثيف.وهما عنصران تلتقي فيهما الصورة الشعرية والسينمائية. وهو يرى أن المهرجان “مختبر فني يفسح المجال أمام التجريب بإشراك الصغار والكبار”.الإنسانية.. روح المهرجانانتصر افتتاح “أيام سينمكنة للأفلام الشعرية” للإنسانية على واجهتين، الأولى باستذكار إعصار درنة الليبية سنة 2023، وما خلفه من مآسي، وذلك بمعرض للفن التشكيلي والفوتوغرافي، مع عرض شريط قصير حول “الما بعد الآن”، بإمضاء منظمة “تسالي”، التي حضرت المهرجان بفريق كامل.وفي ذات السياق، حاول خبير المناخ عامر بحبة بيان دور العوامل الطبيعية الكارثة، التي ضربت إحدى المدن الليبية، ولا سيما دور العوامل البشرية المتمثلة في توسع المدينة بمصب وادي درنة الخطير، وعدم ملائمة شبكة تصريف مياه الأمطار ومحدوديتها، ناهيك عن أخطاء تصميم سدي وادي درنة وتهيئتهما، وهي عوامل فاقمت نتائج الكارثة.صورة لبعض الفائزين في مهرجان أيام سينمكنة للأفلام الشعريةوكانت هذه الندوة تأكيدا آخر على توجه المهرجان نحو المواضيع الإنسانية والتعاطي معها سينمائيا.أما الواجهة الثانية فهي القضية الفلسطينية، فكان عرض الافتتاح الرسمي فيلم “وبعد”، للمخرجة مها الحاج، وهو من بطولة عرين عمري ومحمد بكري وعامر حليحل، ويبحث في سمة الفقد برؤية مخصوصة مشبعة بالمشاعر الانسانية.يروي الفيلم قصة زوجين (سليمان ولبنى) يعيشان في مزرعتهما البعيدة في عزلة تامة عن العالم، يتحدثان ويتناقشان دائما حول خيارات أبنائهم الخمسة ومستقبلهم ومشاكلهم التي لا تنتهي.تمضي الأيام حتى يأتي المزرعة رجل يقول إنه صحفي، يحقق عن ضحايا الاحتلال، ويركز على ما بعد الكارثة، فيكتشف المشاهد حقيقة مؤلمة جدا، ألا وهي أن الزوجين قد فقدا أطفالهما الخمسة في لحظة واحدة، جراء قذيفة سقطت على دارهما.يكشف الفيلم عمق الألم والحزن والدمار النفسي، وما يقابله من قوة الصمود والتحدي، في مواجهة الفقد الذي تسببه آلة القتل المحتلة.ورشات وأحلاممن الجوانب المهمة في هذا المهرجان الذي يسير بخطى واثقة نحو العالمية هي الورشات التي تنوعت وتوزعت على أكثر من فضاء، فأشرفت المصرية مروى الشرقاوي على ورشة الفيلم الوثائقي، والإماراتي عبد الله الجنيبي على ورشة التعليق الصوتي، ومن تونس أشرف سمير الحرباوي على ورشة الفيلم الروائي، وناصر الصردي على ورشة السيناريو، ولسعد بن حسين على ورشة الاقتباس، وخالد بوزيد على ورشة فن الممثل.من محاضرات المهرجانومن اللافت أن المؤطرين والمشاركين في ورشتي السيناريو والفيلم الروائي قدموا فيلما قصيرا في نهاية التكوين تم عرضه في حفل الاختتام.كيف نقرأ الصورة اليوم؟في لقاء مع طلبة المعهد العالي للغات خلال أيام المهرجان، قدم الكاتب الأكاديمي التونسي الهادي خليل ندوة حول قراء الصورة في الوقت الراهن، وقد تساءل: كيف نقرأ الصورة اليوم؟ وهو سؤال يهم كثيرا من الناس، وحاول تبسيط الموضوع كثيرا.وقد قال إن الأمر ضروري أمام الإسهال في التعامل مع الصورة، فقراءة الصورة تختلف تماما عن قراءة النص. ويرى أن الأمر يتطلب دُربة وتمرسا، وينطلق من الوصف الدقيق، ثم التأويل والقراءة.ورشة عمل لطلاب المعهداعتمد خليل على عينات من الصور محاولا قراءتها، وتخص الأعمال القضية الفلسطينية نموذجا للموت والمجازر عموما، وحاول تفسيرها بالسمات المهمة، التي تتراءى للمتلقي في الصور، مثل “عمق المجال”، وهنا يتبين أمامنا كيف يستطيع المصور التقاط صور الجثث المنتشرة على طول الشارع في مجزرة صبرا وشاتيلا، شارع كامل متخم بالجثث المتناثرة.ثم أخذ نماذج من الصور، تتجلى فيها تقنية الغطس والغطس المعاكس، من ذلك صور من القبض على الزعيم الليبي معمر القذافي وقتله والتنكيل بجثته، بشكل يبرز التشفي وحب الانتقام، وكان التركيز على البعد التقني في أعمال مصور فرنسي.جوائز المهرجانشارك في مسابقات الأيام 22 فيلما، بين وثائقي وروائي وتجريبي، من تونس ومصر وفلسطين وفرنسا والإمارات وإيران وسلطنة عمان وسوريا والجزائر والمغرب والسعودية والبحرين وموريتانيا ومالي.وفي اختتام الدورة السادسة تقاسم “سينمكنة الذهبية” الفيلم الروائي الجزائري “سكينة”، والفيلم الوثائقي المصري “أحلام بنات”.الفيلم الوثائقي المصري “أحلام بنات” الفائز بجائزة “سينمكنة الذهبية”وتكونت لجنة مسابقة الأفلام الروائية من المخرج السينمائي العماني أحمد آل عثمان، والمصور الفوتوغرافي الليبي محمد إدريس أمنينة، والمخرجة الإيرانية “سميراميس كيا”، وتوزعت الجوائز كما يلي:مسابقة الأفلام الروائية
جائزة سينمكنة الذهبية: فيلم “سكينة”، للمخرج الجزائري عدنان عابد.
جائزة سينمكنة الفضية: فيلم “مبروك ما جاك”، للمخرج المصري إسلام عبد الجواد.
جائزة سينمكنة البرنزية: فيلم “التحميل”، للمخرج التونسي أنيس لسود.
جائزة أفضل إخراج شعري: فيلم “وتر”، للمخرج الإماراتي عبد الله الجنيبي.
تنويه لفيلم “ثنية عيشة”، للمخرجة التونسية سالمة هبي.
فيلم “سكينة” للمخرج الجزائري عدنان عابد يحصد جائزة سينمكنة الذهبية
مسابقة الأفلام الوثائقية:تكونت اللجنة من الناقد التونسي هادي خليل، والمخرجة التونسية عايدة شامخ، والمخرج العماني محمد علي درويش. وكانت جوائزها على النحو التالي:
جائزة أحسن صورة شعرية: فيلم “بنت الرمل”، للمخرج العماني صالح الحضرمي.
جائزة سينمكنة البرونزية: فيلم “ليلى”، للمخرجة السعودية نورة الإمام.
جائزة سينمكنة الفضية: فيلم “أنا مغتصبة”، للمخرجة التونسية وفاء خرفية.
جائزة سينمكنة الذهبية: فيلم “أحلام بنات”، للمخرجة المصرية مروى الشرقاوي.
جائزة أحسن صورة شعرية للمخرج العماني صالح الحضرمي عن فيلم “بنت الرمل”
مسابقة صندوق النقد السينمائي الموجهة للجمهور:
الجائزة الأولى: نورهان المزوغي.
الجائزة الثانية: غفران الحمادي.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه




