رحيل الكاتب الإيطالي ستيفانوس بينّي.. في وداع شخصية مزجت السخرية والخيال

رحل الكاتب الإيطالي ستيفانو بينّي، أحد أكثر الشخصيات تقديراً في الأدب المعاصر، الثلاثاء، عن عمر يناهز 78 عاماً.
بينّي، هو صحافي ومسرحي أيضاً، استطاع بقلمه اللاذع والخيالي، أن يجمع بين الكوميديا والشعر، وبين السخرية الاجتماعية والاختراع الفانتازي، فأسَرَ أجيالاً من القراء والمشاهدين.
ويضع رحيله حداً لمرحلة كاملة تاركاً وراءه فراغاً يصعب ملؤه؛ إذ لم يكن مجرد سارد للقصص، بل صانعاً لخيالات جماعية، كما كان قادراً على مخاطبة جماهير مختلفة بأساليب متعددة.
من الصحافة إلى السخرية الأدبية
وُلد ستيفانو بينّي في بولونيا عام 1947، وبدأ خطواته الأولى في الصحافة متعاوناً مع محلات صحف مثل "إل إسبريسو"، و"إل مانيفيستو"، و"بانوراما".
وسرعان ما فرض نفسه بأسلوب ساخر ومفاجئ، قادر على تعرية تناقضات المجتمع الإيطالي، إذ كان يمزج في مقالاته وأعمدته ما بين الملاحظة الدقيقة للحاضر، ولمحات من العبث، ممهداً بذلك لما سيصبح سمة مميزة في أعماله.
وجاء تحول ستيفانو بينّي مع الأدب الساخر والفكاهي عبر رواية "بار سبورت" (Bar Sport)، الصادرة في عام 1976، وما تزال حتى اليوم كتاباً مرحعياً، يصوّر إيطاليا الأقاليمية من خلال عالم صغير لمقهى يعج بشخصيات تراجيدية-كوميدية.
إنه مرآة لبلد يتأمل في ذاته عبر عاداته وهوسه اليومي، ولكن كما هي الحال دائماً لدى بينّي، تختبىء خلف الضحكة عين ناقدة، ترصد جوانب الحياة الكاريكاتورية.
روايات صنعت علامة فارقة
في السنوات التالية، عزّز بينّي شهرته بروايات جمعت بين السخرية السياسية، والخيال الفانتازي، والنقد الاجتماعي، فرواية "الأرض!" (!Terra) الصادرة في عام 1983 سبقت في طرحها كثيراً من موضوعات الخيال العلمي البيئي والديستوبي، إذ صوّرت بشرية تواجه حدود كوكبها وهواجس السلطة.
أما في روايته La compagnia dei Celestini التي صدرت في عام 1992، فقد مزج الملحمة الرياضية بالرؤية الحلمية، وحوّل مباراة كرة قدم إلى حكاية رمزية عن الأمل، والمقاومة في وجه القمع.
وتُرجمت كتب ستيفانو بينّي إلى أكثر من 30 لغة، فحملت صوته أبعد بكثير من الحدود الإيطالية، وجعلته أحد أكثر الكتاب عالمية في الأدب الإيطالي.
وجعلت قدرته على المزج بين الأساليب، من الشعبي إلى الشعري، ومن الكوميدي إلى الغنائي، أعماله متاحة لجمهور واسع، دون أن يتخلى عن العمق.
المسرح ولقاء الكبار
إلى جانب الرواية، عمل بينّي بجد في المسرح، متعاوناً مع شخصيات بارزة مثل داريو فو (الحائز على جائزة نوبل للآداب 1992) وزوجته فرانكا رامِه.
ولم يكن المسرح بالنسبة له مجرد منصة، بل مختبراً للتجريب اللغوي والسياسي، وكانت السخرية في نصوصه المسرحية أكثر مباشرة وقسوة، تصفع السلطة، والأحكام المسبقة، والنفاق الاجتماعي.
أعماله، مثل "أغاني المشهد"، و"المسرح"، أظهرت قدرته على الكتابة لصوت الممثل وجسده في مواقف عبثية وحوارات سريالية، لكنها دائماً مشدودة إلى الواقع. وليس غريباً أن العديد من فرق الشباب تبنّت نصوصه، إذ وجدت فيها طاقة متدفقة، وخيالاً لا ينضب.
التنوع كعلامة فارقة
ما ميّز ستيفانو بينّي عن أبناء جيله هو تنوعه، فلم يحصر نفسه في نوع أدبي واحد ولا في شكل محدد: الصحافة، الرواية، الشعر، المسرح، وحتى الأغاني والمونولوجات التلفزيونية. وفي كل هذه الحقول حمل صوته الساخر الممزوج بالحنين، ذلك الذي وصفه النقاد مراراً بأنه "كوميدي-غنائي".
كان بينّي قادراً على تحويل مفارقة لغوية إلى تأمل سياسي، وعلى الجمع بين شخصيات مضحكة ومؤثرة، وعلى الانتقال من قهقهة صاخبة إلى رعشة عاطفية، كما عرفت كتابته كيف تتجدد باستمرار، رافضة القيود، والتصنيفات الجاهزة.
تأثير ثقافي
في السنوات الأخيرة، وبسبب مرض أقعده وحرمه حتى من الكلام، اعتزل ستيفانو بينّي الحياة العامة. لكن أعماله واصلت الانتشار، تُقرأ وتُحب من أجيال جديدة. وبالنسبة لكثير من الشباب، مثّل بينّي بوابة إلى أدب قادر على الإمتاع والتفكير معاً، على رواية الحاضر بخفة وعمق في آن واحد.
إن موته يترك فراغاً ليس أدبياً فحسب، بل ثقافياً أيضاً؛ فقد أصبح بينّي بمثابة ضمير ساخر لإيطاليا، مرآة مشوّهة لكنها تكشف الحقيقة، وطريقته في السخرية لم تكن غاية في ذاتها، بل كانت دوماً فعل محبة للشخصيات المهمشة، وللمهزومين، ولمن يعيشون على هوامش المجتمع.
إرث من الكتب والنصوص المسرحية
يرحل ستيفانو بينّي تاركاً وراءه إرثاً من الكتب والنصوص المسرحية والمقالات التي عرفت كيف تحكي إيطاليا بذكاء وسخرية، إذ كان مؤلفاً قادراً على مخاطبة القلب والعقل، وعلى إضحاك القارئ وإثارة تفكيره، وكذلك على مزج الخيال بالالتزام المدني.
سيبقى صوته في المشهد الأدبي الإيطالي فريداً، صعب التقليد، إنه صوت لا شخصي للغاية، ومتنوع جداً، وملتصق بتلك الخلطة النادرة المجبولة من السخرية، والشعر التي شكّلت بَصمته.
يحرمنا رحيل ستيفانو بينّي من راوٍ وكاتب مسرحي استثنائي، لكن قبل كل شيء يحرمنا من نظرة على العالم كانت تعرف كيف تضيء الواقع بنور الخيال غير المتوقع.
وفي بلد ما يزال بحاجة إلى أصوات ناقدة ومبدعة، سيُفتَقد ستيفانو بينّي كثيراً، لكن إرثه سيبقى حياً في كتبه، وعلى المسارح التي استضافت كلماته، وفي ذاكرة كل من تعلّم، من خلال قصصه، أن ينظر إلى العالم بعيون أكثر سخرية وتحرراً.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه