Avatar: Fire And Ash.. كاميرون يجدد شباب السينما بقصة مستهلكة

يقال أن جيمس كاميرون كتب وصنع الجزء الأول من سلسلة أفلام Avatar، متأثراً باحتلال أميركا للعراق وسياساتها الاستعمارية في الشرق الأوسط والعالم.
في الجزء الثالث من السلسلة Avatar: Fire And Ash، الذي بدأ عرضه خلال الأيام الماضية، لا يملك المرء سوى أن يقارن بين ما يراه على الشاشة، وما يحدث في العالم، خاصة في غزة وفلسطين، وهي مقارنة، على غرابتها، فرضت نفسها عليّ!
أثناء مشاهدة الفيلم بتقنية الـ4K في إحدى القاعات الحديثة الفاخرة، وسط جمهور معظمه من المراهقين وصغار السن، على مقاعد تتحرك، وروائح تنبعث من حولك في بعض المشاهد، وإحساس بالبلل يصيب قدميك أحياناً، شعرت للحظة بأنني عجوز، ونحيت هذه الأفكار الكئيبة التي تسللت إلى عقلي جانباً، خشية أن تكون من قبيل مبالغات التأويل المفرط، أو نتاج نوعاً من البارانويا، خاصة وأن الفيلم كتب وصور بالفعل وكان جاهزاً للعرض منذ سنوات، في انتظار بعض التحسينات والإضافات التقنية المبهرة، التي يهتم بها كاميرون في كل أفلامه أكثر من أي شيء آخر.
ولكن حين غادرت قاعة العرض، وكتبت اسم الفيلم وصاحبه على محركات البحث كان أول ما ظهر أمامي، لدهشتي، حوار لجيمس كاميرون مع بودكاست Directors Debrief الذي يقدمه براندون ديفير، أجراه عقب عرض الفيلم مؤخراً، يقارن فيه الفيلم بما يحدث في غزة والسودان وأوكرانيا، حيث القوى الاستعمارية والأسلحة المدمرة للأرواح والبيئة تسعى لاحتلال الشعوب الأضعف، التي تواجه "حرباً وجودية" على حد تعبيره، ويكاد يقتصر معظم الحديث على هذه المقارنات "السياسية" بين الفيلم والواقع.
وقبل أن أقول لنفسي أن الرجل ربما يسعى للترويج لفيلمه ببعض البيانات السياسية كعادة بعض صناع الأفلام، لمحت معلومة تفيد بأن كاميرون هو المنتج المنفذ لفيلم There Is Another Way، الذي عرض في بداية هذا العام، وهو عمل وثائقي يرصد محاولات جماعات السلام للعثور على طريق لحل قضية الصراع العربي الصهيوني، بعيداًعن دوامة ودائرة العنف التي لا تنتهي، وهو ما يتفق مع وجهة النظر التي يطرحها الفيلم على لسان جيك من أن العنف لا يولد سوى مزيد من العنف!
عندما فاز فيلم Titanicعام 1997، بـ11 جائزة أوسكار صعد جيمس كاميرون ليصيح صيحته الشهيرة: "أنا ملك العالم"، واليوم لم يزل المخرج والمؤلف والمنتج الذي تجاوز السبعين يتربع على عرش "صناعة" السينما.
اشتهر كاميرون طوال مسيرته باهتمامه الفائق بالتقنيات السينمائية، ومعظم أفلامه شكلت مغامرات انتاجية جريئة، ولكن معظمها حققت نجاحات خيالية في شباك التذاكر، وعلى سبيل المثال تقدر تكاليف انتاج أفلام Avatar بمليار دولار، ولكن الجزءين الأول والثاني منها تخطت إيراداتهما الـ5 مليار دولار، وفي انتظار ما ستسفر عنه الأيام القادمة بشأن الجزء الثالث.
لا يبدو أن صاحب Aliens وسلسلة Terminator يهتم بشيء أكثر من امتاع الجمهور وتحقيق الأرقام القياسية في الإيرادات، ودفع صناعة السينما إلى درجات غير مسبوقة على مستوى الانتاج والحرفية، وجمهور الرجل نفسه لا يسعى عادة إلى أكثر من قضاء 3 ساعات (متوسط معظم أفلامه) من الانخراط في تجربة مشاهدة "غامرة"، يغادرون فيها العالم ومشاكلهم الشخصية ويعيشون حلماً يمتليء بالمغامرات والانفعالات الشديدة.
وكل ذلك صحيح فيما يخص جيمس كاميرون وجمهوره، ولكنه ليس كل شيء.
خلف هذه التقنيات المبهرة يختفي مؤلف سينمائي صاحب بصمة أسلوبية، وخلف قصص هذه الأفلام تتخفى فلسفة ورؤية للعالم، تتسم بالواقعية والتشاؤم، كما تبطن ثقافة عميقة بالتاريخ الحديث والمغرق في القدم، وتظهر هذه البصمة والرؤية في سلسلة Terminator وتتبدى بشكل أوضح في Avatar.
في Terminator تنبني الحبكة حول قدوم المستقبل (ممثلاً في الروبوت الفضائي المدمر) إلى الحاضر لتدمير الأرض (أو انقاذها)، ولكن في Avatar الذي تدور أحداثه منتصف القرن القادم يكون الحاضر والمستقبل القريب قد تم تدميرهما بالفعل على يد البشر.
ولكنهم لا يكتفون بذلك بل يسعون إلى احتلال الكواكب الأخرى لنهب ثرواتها وتدمير حضارتها وبيئتها هي الأخرى، بطريقة ما تبدو الفكرة هي نفسها: تكنولوجيا التسليح تجلب الفناء ويتعين على الأمهات (أم البطل في Terminator والطبيعة الأم في Avatar بانقاذ الأرض أو كوكب باندورا من رجال الحرب المدمرين.
على مستوى الحكاية، لا يوجد جديد في Avatar: Fire And Ash، إذ يتكرر الصراع الذي سبق أن رأيناه في Avataعام 2009، و في Avatar: The Way Of Water عام 2022، ما بين البشر المستعمرين الذين يتوجهون إلى الكوكب القمري باندورا، بحثاً عن مصادر للحياة، والسكان الأصليين البدائيين تكنولوجياً ولكنهم يحملون قوة الطبيعة وميراثهم الروحي القوي.
هذه الفكرة التي تعاود الظهور مرة تلو الأخرى لا تجد هنا حبكة أو تفاصيل تضفي عليها المصداقية والشعور بالجدة. ولعل أكبر تعبير عن هذا الشعور بالتكرار هو سبب الجدل الذي أثير عقب اعلان كاميرون بوجود جزئين إضافيين، رابع وخامس، للسلسلة يفترض عرضهم خلال السنوات القادمة.
بين السينما والواقع الافتراضي
ما يقدمه Avatar: Fire And Ash ليس القصة، ولكن تجربة المشاهدة نفسها، والتي قد لا تكون جديدة تماماً، ولكنها تمهد الطريق أمام مستقبل جديد للسينما تذوب فيه الحدود بين السينما والـVR أو "الواقع الافتراضي" الذي يتطور بسرعة هائلة. والفارق بين الإثنين هو أن السينما تظل تحفظ للمشاهد مسافته الآمنة العقلانية تجاه الفيلم، بينما يسعى الـVR لايهامه بأنه "يعيش" التجربة فعلياً.
ينجح Avatar في تقريب هذا الفارق، وربما في المرات القادمة يدخل المشاهد إلى الجزء الرابع والخامس مرتدياً خوذة الـVR أو اختراع جديد مشابه، ويعرف جيمس كاميرون جيداً كيف يلعب بالحواس، ولعل أقوى ما ينجح فيه هو تحقيق الشعور بالطيران في الفضاء والسقوط، في تجربة حسية تشبه ركوب عربة الملاهي.. أو ما يطلق عليه على سبيل المجاز "الروللر كوستر" Rollercoaster وهو ما يتحقق هنا حرفياً، أو شبه حرفياً، وذلك بالإضافة إلى تطور تقنيات الـ3D، والـ4K، والصوت ودور العرض المصممة على طريقة عربات الملاهي وبيت الرعب!
سلسلة Avatar التي تحولت إلى ألعاب فيديو، والتي ينتظر نزول نسخ متطورة منها إلى الأسواق، تساهم بدورها، من الجانب الآخر، في دخول الأجيال الجديدة إلى عصر الذكاء الاصطناعي الذي يشهد تقدماً مذهلاً في كل المجالات، ومنها السينما.
ومن الطريف أن كاميرون، الذي لم يزل ينتمي إلى الجيل القديم بشكل أو آخر، كشف عن أن صناع الفيلم لم يستخدموا الذكاء الاصطناعي في رسم الشخصيات، وإنما اعتمدوا على الممثلين بشكل أساسي (مع معالجة صورتهم بالطبع ليشبهوا الكائنات الفضائية) مؤكداً أنهم يحترمون ويحتفون بالممثلين ولا يستبدلونهم.
هذا الاهتمام بالتمثيل والاستعانة بعدد من النجوم والممثلين المتميزين ( منهم سيجورني ويفر، كيت وينسلت، زوي سالادانا، ميشيل يوه، ديفيد ثويليس، سام ورثنجتون، وغيرهم) هو بالتحديد ما يعطي لـAvatar تميزه كفيلم ويميز بينه وألعاب الفيديو.
ولكن، وعودة إلى البداية، لا يمكن لشكلٍ فني فائق الجودة أن ينجح دون وجود مضمون فكري وإنساني يتكامل مع هذا الشكل، ويساهم في خلقه بطريقة متفردة.
ورغم أن القصة لا تحمل جديداً، كما ذكرت، لكن Avatar: Fire And Ash يعزز بعض الأفكار العميقة التي يحتاج إليها الجيل الجديد (والقديم) من المشاهدين، من هذه الأفكار، مثلاً، تصوير المرأة باعتبارها أصل الحياة والأكثر اتصالا بالطبيعة، ويستخدم جيمس كاميرون بعض عناصر الديانات الوثنية والإبراهيمية التي يبدو ظاهرياً أنها تتعارض فيما بينها، ليشكل كلاماً روحياً يجسد علاقة الإنسان بالطبيعة والقوى الغيبية التي تخلق وتتحكم في العالم.
على سبيل المثال تتردد هنا أسطورة البشري نصف الإله، من خلال البطلين الصغيرين، نيتيري ابنة الإلهة إيوا، في انعكاس وعكس لقصة المسيح، وسبايدر نصف البشري ونصف الفضائي.
ومع أن صور الفيلم وأفكاره "تقدمية" بشكل عام، إلا أن بعض الأفكار الذكورية "النمطية" تتسلل إلى الفيلم مثل ربط الشر بالنار والمرأة المثيرة الفتاكة التي تجسدها شخصية فارانج ملكة قبيلة "الرماد".
وتبقى الرسائل السياسية التي ينقلها الفيلم إلى مشاهديه من احتقار للنزعة الاستعمارية للغرب الأبيض، والتي تظهر من خلال اختيار ممثلي معظم ضباط وعلماء وسياسيين الغزاة، والطريقة التي يؤدون بها أدوارهم، وكذلك في الوظيفة الدرامية التي يمثلونها كأشرار ومفسدين لأي أرض تلمسها أقدامهم، وفي المقابل نجد السكان الأصليين لشعب الـ"نافي"، الطيبين، المتصالحين مع الطبيعة والبيئة، والذين يستميتون في الدفاع عن وطنهم وأطفالهم.
هذه الرسائل التي تتسلل إلى وجدان مشاهدي السلسلة من الشباب والمراهقين هي أمر جيد ومهم، في هذا التوقيت الذي يعاني فيه الكوكب من الحروب العبثية والتدمير الممنهج للبيئة.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه



