“سهير البابلي”.. ايقونة الكوميديا وبصمة استثنائية في المسرح والتلفزيون

كانت الكاميرا ثابتة أمامها، والإضاءة ناعمة، والمذيعة الراحلة فريال صالح تنظر إليها بإعجاب واضح حين بدأت سهير البابلي الحديث. مالت برأسها قليلا، وابتسمت قبل أن تبدأ حكايتها. قالت ضاحكة وهي ترفع يدها في الهواء: “أنا في مسرحية مدرسة المشاغبين.. كنت بحس (أشعر) إني داخلة على حلبة مصارعة مش مسرح!”ضحكت المذيعة، وضحك الجمهور، لكن البابلي أكملت الحديث وهي تعيش اللحظة وكأنها ما تزال هناك. تحدثت عن تلك الأمسيات التي كان فيها عادل إمام يطلق ارتجالا مفاجئا، فيرد سعيد صالح فورا، ثم يقفز يونس شلبي من الخلف بجملة عفوية تُربك كل ملامح المشهد. كانت تضحك، وهي تصف كيف كانت تحاول ضبط النفس أمام تلك الطاقات الشبابية المنفلتة، وكيف كان الجمهور يتمايل من الضحك حتى تهتز المقاعد.سهير البابلي المرأة التي صنعت مجدها بين خشبة المسرح والكوميديا الذكية، وأعادت تعريف قوة الفنانة العربيةقالت وهي تستعيد ذلك الإيقاع المجنون: “أنا ما كنتش بضحك تمثيل، أنا كنت بضحك بجد، لأن كل ما كان يحدث على المسرح كان فعلا خارج النص وخارج السيطرة”.اقرأ أيضا list of 4 itemslist 1 of 4عادل إمام في بغداد 2001: زيارة واحدة تحت الحصار وحفاوة لم ينسها العراقيونlist 2 of 4فؤاد المهندس.. أستاذ الكوميديا القادم من خشبة المسرح والإذاعةlist 3 of 4شذى سالم.. سيدة المسرح العراقي رفضتها سعاد حسني ولقبها صلاح أبو سيف “فاتن حمامة العراق”list 4 of 4محمود حميدة.. طاووس السينما ونموذج الممثل المثقفend of listحكت كيف أنها أصبحت في ليلة وضحاها جزءا من ماكينة إنتاج جماهيري، كيف كان النجاح ساحقا، وكيف بدأ المسرح يمتلئ كل ليلة حتى لا تجد مقعدا واحدا فارغا. قالت وهي تضع يدها على قلبها وكأنها تعترف بسر: “كنت أتقاضى 500 جنيه مصري في “مدرسة المشاغبين”، وبعدها أصبح أجري بالآلاف، شيء ما كنت أتخيله”.وهنا، توقفت، وأخذ صوتها منحى آخر.. انخفضت النبرة، وهدأت الضحكة، وارتسم على وجهها ظل ابتسامة حزينة.
"الجمهور كان يضحك من أجل أن يهرب، وأنا كنت أضحك معهم، لكن في داخلي كنت أتذكر أن المسرح كان يوما مكان مواجهة، وليس مكان هروب".
by الفنانة المصرية الراحلة سهير البابلي
قالت بابتسامة ملؤها الشجن: “لكن.. مع الفلوس والضحك، كنت حزينة، لأني كنت أتذكر أعمالا عظيمة قدمتها على خشبة المسرح قبل “مدرسة المشاغبين” مثل “الخال فانيا” و “بين برنارد ألبا” و”شمشون وجليلة”، و”سليمان الحلبي”، كان مسرحا حقيقيا له وزن، له معنى، “وفي لحظة، وجدت نفسي أنجح عبر مسرح يعتمد على الضحك السريع، ضحك المتعة الفورية والهروب من الضغط، وليس ضحك السؤال أو الفلسفة أو النقد”.عاشت سهير البابلي بين عالمين: عالم الضحك الذي جلب لها شعبية ومالا، وعالم الفكر المسرحي الجاد الذي حملها في شبابها إلى أعلى درجات الاحترام الفني. قالت ذلك كمن يعترف لنفسه قبل أن يعترف للجمهور، وعاشت صراعا بين قيمة الفن الشعبي ونداء الفن الكلاسيكي، ولم يكن ذلك الصراع سوى انعكاس لصراع آخر يدور بين مرحلتين من الزمن في مصر، زمن يبحث عن المعنى، وآخر يبحث عن مهرب من فقدان المعنى، ولو بالضحك.بنت الناظر في معهد الموسيقىفي بدايات الأربعينيات، حين كان الزمن المصري أكثر بساطة وأقل ضجيجا، ولدت طفلة، لتتحول فيما بعد إلى واحدة من أبرز علامات الكوميديا النسائية في العالم العربي.. سهير حلمي إبراهيم البابلي التي جاءت إلى الدنيا ومعها شيء من الجسارة الخفية، تلك التي لا تظهر في الطفولة أولا، لكنها تتسلل كإشارة مبكرة إلى موهبة قادمة تسعى إلى التفتح.انتقلت عائلتها إلى المنصورة، وهناك، داخل بيت تربوي، كان الأب، ناظر المدرسة، يحدق في ابنته برؤية مختلفة. كان يراها تقلد الناس وتلتقط أصواتهم وتعيد تركيب الشخصيات بلمح البصر. لم يكن ذلك لعبا بريئا، بل أول ملامح تشخيص مسرحي بالفطرة. وقف الأب أمام زوجته التي عارضت طريق الفن، وأعلن أن ابنته ستمضي حيث تليق موهبتها. هذا الإيمان المبكر لم يكن مجرد دعم أسري، بل كان الضربة الأولى في تشكيل ممثلة ستعرف لاحقا كيف تمنح الشخصيات حياة، لا مجرد أداء تعبيري.امرأة واحدة في مواجهة عصبة من الصبية المتمردين.. سهير البابلي تتألق في مسرحية مدرسة المشاغبينالتحقت سهير بالمعهد العالي للفنون المسرحية ومعهد الموسيقى في الوقت نفسه، وهنا بدأ الخيط يتضح، كانت تعرف أن الممثل الذي لا يسمع موسيقى الجملة، لا يقدر على التحكم في إيقاع المشهد. الموسيقى أعطتها التنغيم، والمسرح أعطاها التجسيد، والشارع المصري أعطاها اللهجة والتلقائية.اشترك فيالنشرة البريديةاشترك في النشرة البريدية وتابع أحدث أفلامنا الوثائقيةتخرجت سهير من المعهد ممثلة جاهزة للفعل، لا للاختبار، وما أن وقفت أمام الجمهور لأول مرة حتى أدرك الجميع شيئا صعب التعريف: تلك المرأة ليست مجرد ممثلة تنتظر التصفيق، بل عقل كوميدي أنثوي غير مألوف.كانت خشبة المسرح في مصر ساحة ذكورية بامتياز، فهناك عادل إمام، وسعيد صالح، وسمير غانم، ومحمد صبحي، وعبد المنعم مدبولي، وآخرون. ووسط هذا الجبل من الأسماء، لا نجد نساء كثيرات يتقدمن الصف الأول، لكن سهير البابلي لم تكن تنوي الوقوف في الخلف. فقد تعلمت مبكرا أن الكوميديان الذكي لا يكتفي بانتزاع الضحكات من الجمهور فقط، بل يخلق من الضحك مساحة للتفكير.سيدة المواجهةفي “مدرسة المشاغبين”، ظهرت سهير البابلي بدور معلمة بمدرسة ثانوية أو “أبلة عِفّت”، وكانت الشخصية في حقيقتها تمرينا على المواجهة. ها هي امرأة واحدة في مواجهة قطيع من الصبية المشاغبين، وهذا وحده اختبار حضور مسرحي من نوع خاص.كانت سهير تعرف تماما كيف تتعامل مع ارتجال عادل إمام، الذي كان يغير النص على الهواء بلا تردد. لم تكن تخاف الضحكات المباغتة، بل كانت تلتقطها وتردها مضاعفة، والنتيجة كانت ظهور ممثلة تفهم قوانين الكوميديا الارتجالية. لم تكن مجرد ردة فعل، بل صانعة لحظة. في تلك المرحلة، أدرك كثير من النقاد والمخرجين أن هذه المرأة لا ينبغي حصرها في خانة الكوميديا الخفيفة، وأن صوتها التمثيلي أوسع.وعندما بدأت عروض مسرحية ريا وسكينة مطلع الثمانينيات، أدرك الجمهور منذ الأيام الأولى أنه أمام ثنائية نسائية مختلفة؛ فشادية جاءت من عالم الطرب والسينما الدرامية، ووقفت إلى جوارها سهير البابلي التي صنعت حضورها من المسرح الحي والكوميديا الشعبية الذكية. هذا اللقاء لم يكن مجرد توزيع أدوار، بل التقاء مدرستين فنيتين متباينتين داخل عمل واحد.عُرضت مسرحية “ريا وسكينة” عام 1983، وشهدت أول بطولة للفنانة الراحلة شادية على خشبة المسرح، وشارك في بطولتها سهير البابلي وعبد المنعم مدبولي وأحمد بدير، وهي من تأليف بهجت قمر وإخراج حسين كمال. لم يكن أحد يتوقع أن تغدو إحدى أهم أيقونات المسرح المصري والعربي، وأن تحافظ بعد 45 عاما كاملة على بريقها في ذاكرة الجمهور. لم تكن مجرد عرض مسرحي عابر، بل كان عملا متكاملا مزج بين الكوميديا والغناء والاستعراضفي الدور الذي قدمته شادية، ظهرت “ريا” بوصفها شخصية حادة وانفعالية، فيها شيء من الألم وماض ثقيل تلمح إليه أكثر مما تصرح به. أما سهير البابلي، فقدمت “سكينة” بنبرة تجمع بين الدهاء الشعبي والسخرية اللاذعة، لترسم عبر حركات الجسد وتلونات الصوت شخصية أقرب إلى المرآة الساخرة الناقدة للمجتمع. التباين بين الشخصيتين خلق توترا دراميا داخليا لم يعتمد على النص وحده، بل على طريقة الحضور ونوع الاستجابة على خشبة المسرح.لم يكن التناغم بين البطلتين نتيجة تمارين مسبقة فحسب، بل أيضا نتيجة ثقة متبادلة على المسرح؛ فسهير كانت تلتقط الارتجال بخفة وتعيد صياغته، بينما تعاملت شادية مع هذه اللحظات كمن يراقب بعين صادقة، فتندمج في النبرة دون افتعال.هذا التفاعل بين الوعي المسرحي (لدى سهير البابلي) والصدق الوجداني (لدى شادية) جعل المشهد يبدو أحيانا وكأنه حوار حقيقي بين شخصيتين من الواقع لا مجرد ممثلتين تؤديان على المسرح.بمرور الوقت، لم يعد الحديث عن المسرحية مقتصرا على قصة ريا وسكينة، بل صار يشمل العلاقة الفنية بين المرأتين اللتين أعادتا تعريف البطولة النسائية على المسرح المصري. وأثبتتا أن الثنائية النسائية يمكن أن تقود عملا جماهيريا وتضمن نجاحه، دون الحاجة إلى الاعتماد على حضور الممثل الكوميدي الرجل في المركز.من خشبة المسرح إلى أضواء الكاميرالم يكن الانتقال من المسرح إلى التلفزيون سهلا، فبينما يعتمد الأداء المسرحي على المبالغة الجسدية والإسقاط الصوتي، يبقى الأداء التلفزيوني فن الملامح الدقيقة، والرمش المحسوب، والنبرة التي تهبط نصف درجة لتقول الكثير.قامت سهير البابلي بهذا الانتقال بسلاسة فنية مذهلة، وبدا ذلك واضحا في العديد من أعمالها على الشاشة الصغيرة، وخاصة “بكيزة وزغلول”، أمام إسعاد يونس، فظهرت بصورة المرأة الأرستقراطية المتغطرسة، المتعالية بشكل كوميدي، لكنها أيضا الحساسة، والطفلة المدللة جزئيا، والساذجة جزئيا، والخبيثة جزئيا. هذا التعقيد هو ما جعل شخصية “بكيزة هانم الدرملي” عالقة في الذاكرة.سهير البابلي في لقطة من مسلسل “بكيزة وزغلول” مع إسعاد يونسالممثلة المكتملةكان نجاح “بكيزة وزغلول” لحظة ثقافية لا تمثيلية فقط. فللمرة الأولى، نجد ثنائيا نسائيا يقود عملا كوميديا جماهيريا بلا حاجة لممثل رجل في المركز. وهذه معادلة كانت تكسر عرفا طويلا، فقد بدا واضحا أن سهير البابلي استطاعت أن تحصد جمهورا من الرجال والنساء معا، وأن تكون بطلة لا مجرد سنّيدة (ممثلة مساعدة). وكان لدى الجمهور شعور أنها لا تمثل فقط، بل تلهو بالتصنيفات، وتدور حولها، وتقفز فوقها.ورغم اتساع حضورها الكوميدي، دخلت سهير البابلي السينما من بوابة مختلفة. ففي “لحظة ضعف”، لعبت دور عزيزة .. المرأة التي تحمل قلقا عاطفيا دفينا وصوتا خافتا وعينين تشيان بما لا يقال، فظهرت ممثلة تعرف كيف تخفف حضورها لتترك للمشاهد مساحة للإنصات إلى المشاعر.لم يكن الأداء صاخبا، بل كان هادئا عموديا، ثقيلا في عمقه. هذا النوع من التمثيل أثبت أن سهير البابلي ليست كوميديانة بالفطرة فقط، بل ممثلة درامية كاملة، قادرة على تجسيد الألم الداخلي بمهارة تحرك العين قبل الشفاه، وأكدت قدرتها على التنقل بين الأنماط الدرامية أنها ليست محدودة في لون واحد، وأن خفة الظل ليست النوع الوحيد من الذكاء الفني، بل قد تكون بوابة لفهم أعمق للإنسان. في السينما، ظهرت أكثر نضجا، وبدت كأنها تضع البرواز حول روح الشخصية لا حول ملامحها.في منتصف مسيرتها -منتصف التسعينيات- ابتعدت عن التمثيل لفترة، بعد تقارب شديد مع الشيخ الشعراوي بعد ارتدائها للحجاب. بدا هذا قرارا غريبا للكثيرين، لكنه لم يكن تناقضا، بل كان عودة إلى الذات. فشخصية مثل سهير البابلي، التي تملك حساسية نفسية عالية، لا تعيش نصف حياة، فهي حين تمثل، تمثل بكلها، وحين تبحث عن الروح، فهي تفعل ذلك بكلها أيضا.سهير البابلي بعد ارتدائها للحجاب منتصف التسعينياتعادت سهير لاحقا إلى الفن، لكنها عادت أكثر هدوءا، وأكثر ميلا للتعبير غير الصاخب، كأنها كانت تنزع رتوش الكوميديا قليلا لتكشف عن إنسان بداخلها لا يقل ثراء عن الشخصيات التي لعبتها.وحين لقيت وجه ربها في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، لم يكن الحزن عليها مجرد حزن على ممثلة، بل على زمن كامل، فقد كانت من ذلك النوع من الممثلين الذين يرسخون في ذاكرة الجمهور كأصوات داخلية. وحين يتذكر الناس مشهدا كوميديا أو جملة شهيرة، فإنهم يسمعونها بصوت البابلي، لا كمجرد ذكرى، بل كاستعادة علاقة بين الفنان والمتلقي.بصمات ومسيرة فنية فريدةفي مسيرة طويلة تمتد من المسرح إلى التلفزيون إلى السينما، قدمت سهير البابلي نحو 108 أعمال فنية، بين المسرح والتلفزيون والسينما، ووضعت بصمتها الفنية الخاصة، وهي من النوع الذي يمكن التعرف عليه دون شرح، نوع الأداء الذي يعلن عن صاحبه منذ اللحظة الأولى.ومما ميز البابلي ليس فقط قدرتها على الإضحاك، بل براعة تحويل الضحك إلى أداة تحليل اجتماعي، وإلى موقف، وإلى تعبير عن وعي طبقي وإنساني. فقد كانت تمتلك القدرة النادرة على بناء الشخصية من الداخل إلى الخارج، لا من الخارج إلى الداخل؛ تبدأ من طاقة الشخصية، من انفعالها النفسي، ثم تخرجها عبر الجسد والصوت والحركة. هذه المنهجية جعلت شخصياتها تنبض بالحياة، حتى وإن كانت مبنية على نماذج واقعية أو شخصيات تاريخية أو كاريكاتورية.لقطة من مسرحية ”على الرصيف” مع النجم الراحل حسن عابدينكوميديا الإدراكواحدة من أهم بصماتها هي ما يمكن تسميته بـ”الكوميديا الإدراكية”، أي الكوميديا التي تدفع المتفرج إلى إدراك موقف ما لا مجرد الضحك عليه. كانت قادرة على إلقاء جملة ساخرة، لكن الجملة لا تبقى مجرد نكتة، بل تفتح نافذة على فهم جديد. ففي مسرحية ”على الرصيف”، حين تقول مع الممثل الكبير الراحل حسن عابدين ” مين اللي سرق مصر”، يتحول الضحك إلى شكل من أشكال الاعتراف الاجتماعي الصامت. الجمهور يضحك لأنه يعرف الحقيقة، ولأنه غير قادر على قولها مباشرة، فتقولها هي. هذا النوع من الأداء الكوميدي لا يعتمد على المفارقة فقط، بل على الذكاء الجمعي وعلى التحريض الفكري. كانت البابلي تعرف كيف تستخدم الضحك كسلاح ناعم، وأحيانا جارح.كما تميزت بقدرتها الكبيرة على التحكم في الجسد المسرحي؛ فلم تكن تتحرك عشوائيا على الخشبة، ولا تتخذ وضعيات عفوية، بل كانت كل حركة محسوبة ومقصودة. كانت تستخدم انحناءة الظهر أحيانا كدلالة على الانكسار، وترفع الكتف بوصفه إشارة للتحدي، وتتحرك للأمام كمن يقتحم منطقة سيطرة، وتتراجع للخلف كمن يمنح خصمه مساحة لكي يخطئ.أما في التلفزيون، فقد انضبط هذا الجسد ليصبح أكثر نعومة وأدق تعبيرا، وفي السينما أصبح الجسد صامتا أغلب الوقت لكنه حاضر بقوة العين وحركة الشفتين. هذه ازدواجية لا ينجح فيها كثيرون؛ فمعظم ما ينجح على المسرح لا يصلح للتلفزيون، ومعظم ما يصلح للتلفزيون لا يصلح للسينما. لكن البابلي استطاعت ترويض التمثيل ليناسب الوسيط الفني: مكبرا على المسرح، مصقولا على التلفزيون، ومكثفا على الشاشة الكبيرة.ومن بصماتها أيضا قدرتها على خلق شخصية أنثوية قوية دون أن تفقد أنوثتها أو تتحول إلى نموذج رجولي. لم تكن المرأة المستسلمة، ولا المرأة المبهجة فحسب، ولا العصبية الصدامية فقط. كانت امرأة تملك عقلا ولا تخجل من إظهاره.صوت الضمير الجمعيفي “بكيزة وزغلول”، بدت متعالية طبقيا، لكنها كانت تدرك أن الحياة لعبة سلطة، وأن المال لغة اجتماعية، وأن الدفاع عن النفس قد يكون صاخبا أو ناعما. وفي “لحظة ضعف”، تحولت المرأة نفسها إلى كيان عاطفي حساس، فيه حنان ومخاوف وتردد. هذه القدرة على التنقل بين النسخ النفسية للمرأة المصرية جعلتها واحدة من النماذج الأكثر عمقا في تمثيل المرأة على الشاشة العربية.ولعل أقوى بصمة لديها على الإطلاق هي “الذكاء النطقي”، أي تلك المهارة في التعامل مع اللغة المحكية العامية. كانت البابلي تعرف متى تمد في الحرف، ومتى تختصر الكلمة، ومتى تسبك جملة كالمطرقة، ومتى تتركها كهمس لطيف. كانت اللهجة في فمها أداة تمثيل لا وسيلة كلام. حين تقول “مين اللي سرق مصر”، فهي لا تلفظها فقط، بل تخرج معها مشاعر شعب حزين وغاضب، وكأنها تسحب معها روح طبقة كاملة. لذلك ارتبط صوتها في المخيلة الجماعية المصرية بوصفه صوتا جمعيا، صوتا يعبر عن شيء أكبر من صاحبته.من الصعب الحديث عن سهير البابلي بصيغة الماضي فقط. لقد صارت جزءا من الثقافة المصرية. كانت امرأة تعرف أن الضحك سلاح، وأن الكلمة التي تبدو عبثية قد تكون أصدق وسيلة للتعبير، وأن الفن ليس ما يقوله الممثل على الخشبة، بل ما يبقى في صدر المتفرج بعد إطفاء الأضواء.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه




