مر أكثر من عام كامل على انتهاء حقبة نظام الأسد في سوريا، وما رافقها من انتهاكات في السجون الأمنية والمعتقلات، لكن ذلك لم يرافق صدور برامج أو خطط واضحة لمتابعة أوضاع الناجين والناجيات صحيا أو نفسيا ومعيشيا.
إذ لم تعلن الحكومة السورية عن أي جهود منظمة لتأهيلهم أو تقديم الرعاية الطبية أو الدعم المالي اللازم، كما لم تُحدد الجهات المسؤولة بشكل رسمي عن متابعة أوضاعهم، الأمر الذي ترك العديد منهم يواجهون فراغاً جديداً يتحملونه بمفردهم بعد انتهاء الاعتقال.
وبالرغم من أن بعض المؤسسات الإنسانية أطلقت مبادرات محدودة لدعم الناجين والناجيات، إلا أن شهاداتهم تكشف أن هذه المساعدات لم تكن سوى منح قصيرة الأمد أو دعم لمرة واحدة، لم يترك أثراً مستداماً على حياتهم. في المقابل، بقيت الآثار النفسية والصحية التي يعانون منها بلا أي تدخل متخصص أو برامج علاجية منظمة تُعنى بها.
مساعدات أولى ثم انقطاع طويل
قبل أن يبدأ الناجون والناجيات رحلة البحث عن علاج أو رعاية اجتماعية تلقى بعضهم دعماً أولياً ثم توقف تماماً ليجدوا أنفسهم أمام واقع صحي بلا غطاء وخدمات نفسية غير موجودة.
في هذا السياق يقول عبدالله الكيلاني من مدينة الضمير في ريف دمشق لـ “الحل نت”، إنه حصل على سلّة غذائية بعد تحريره من المعتقل، ثم تلقى بعد فترة مساعدة بقيمة 350 دولاراً من الصليب الأحمر فقط.
لكن هذه المساعدة كانت محددة لفئة معينة فقط، إذ لم يحصل جميع المعتقلين والمعتقلات عليها. ويضيف الكيلاني: “أنا بعرف كتير من أصدقائي ومعارفي كانوا بالمعتقل ما أخدوا ولا شي”.
“ولا حدا سأل عننا وما تلقيت أي دعم لا معالجة نفسية ولا كشف صحي، ولا جهة حكومية قدمت لنا شي غير الحكي”
عبد الله الكيلاني
وعلى المسار ذاته تحدث عبد القادر الصايغ، الذي خرج من المعتقل بحالة صحية غير جيدة، يؤكد أنه حاول الوصول إلى أي مؤسسة قادرة على تقديم علاج أو دعم مادي لكنه لم يجد سوى وعود لم تتحقق.
يقول في حديثه لـ ”الحل نت”: “سجّلت اسمي بكل مكان، جهات حكومية وغير حكومية ومؤسسات ومنظمات على أمل حدا منهن يستجيب، طبعاً بس حكي فاضي الكل بقولوا ستنوا التمويل”.
وقال الصايغ، إن خلال العام 2025 تلقى مرة واحدة مبلغاً من مؤسسة رابطة المعتقلين بقيمة 4050 ليرة تركية بينما بقيت حالته الصحية دون أي متابعة أو علاج.
علاج يبدأ ثم يتوقف
بعد المساعدات المنقطعة يبرز نوع آخر من المعاناة يتعلق ببدء العلاج دون القدرة على إكماله إذ يجد بعض الناجين أنفسهم أمام مسار طبي يتوقف قبل الوصول إلى أي نتيجة.
بدأ، عدنان نقرش، الذي خرج من السجن وهو يعاني من أمراض جلدية ومشاكل في الأسنان، العلاج في البداية تحت رعاية رابطة المعتقلين، التي تكفلت بجلسات أسنان وحددت موعداً له في مستشفى العباسيين لبدء معالجة جلدية.
“خلصت جزء من أسناني وعلى أساس رح نبدأ بمعالجة الجلدية، حددولي موعد بالعباسيين رحت وكنت ناطر، ما أجا حدا صرت أتواصل مع أحد الأفراد بالرابطة، رد علي وإلا بقلي أنو توقف الدعم عني ومعد فيني كمل علاج”
وما يزال نقرش مصدوما برفع الدعم عنه وتوقف التكفل في منتصف علاج أسنانه بينما لم يبدأ علاجه الجلدي أساساً ما جعله عملياً أمام طريق علاجي يتوقف عند منتصفه دون قدرة على المتابعة.
واقع الدعم وحدود المسؤولية
تواجه مؤسسات الدعم العاملة مع الناجين والناجيات من الاعتقال تحديات كبيرة في تقديم المساعدة الكاملة، نتيجة محدودية الموارد والمسؤوليات السيادية التي تقع على عاتق جهات رسمية عليا.
في هذا السياق، يوضح طاهر القرنفلي، مسؤول قسم البرامج في مؤسسة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، تفاصيل عمل المؤسسة وحدود الدعم المقدم، بالإضافة إلى رؤيتهم حول الحلول الممكنة التي تتطلب تدخلًا رسمياً أوسع.
ويشير القرنفلي في تصريح لـ”الحل نت” إلى أن المؤسسة تقدم جلسات توعية تشرح آليات العدالة وآليات جبر الضرر، إلى جانب توعية أهالي المفقودين حول الابتزاز المالي، بهدف سماع آراء الناجين وأهاليهم حول الطرق المثلى لمعالجة الأضرار التي تعرضوا لها.
وأشار إلى أن مشاريع الاستجابة الطارئة شملت توزيع دفعات نقدية على 601 ناجٍ وناجية من عشر محافظات سورية، ممن استوفوا معايير الإفراج بعد 28 تشرين ثاني/نوفمبر، بمبلغ 300 دولار لمرة واحدة فقط. في حين بلغ عدد الناجين المسجلين لدى المؤسسة خلال هذه الفترة أكثر من 1500 ناجٍ وناجية، مما يعني أن الدعم لم يشمل سوى جزء محدود بسبب التمويل المحدود.
وفق القرنفلي، قدّمت المؤسسة خدمات صحية ونفسية، وجلسات علاج فردي وعلاج فيزيائي حسب التمويل والاتفاقيات مع الممولين، مؤكداً التزامهم بالمعايير الدولية وشروط المانحين التي تحد من نطاق الدعم المقدم.
ويضيف أن المؤسسة تعمل حالياً على مشروع تأهيل مهني للناجين وإدماجهم في سوق العمل، وقد يشمل المشروع بعض أبناء المفقودين، على أن يبدأ التنفيذ من دمشق وريف دمشق.
المؤسسة لا تستطيع تحمل المسؤولية كاملة تجاه جميع الناجين، فهذه القضية ملف سيادي يجب أن تتولاها الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية والمفقودين، التي يفترض أن تؤسس صندوقاً سيادياً يغطي احتياجات الناجين ويخفف العبء عن المؤسسات الأخرى.
يبقى ملف الناجين من الاعتقال في سوريا واحداً من أكثر القضايا الإنسانية حساسية وتعقيداً، حيث تتداخل الاحتياجات الصحية والنفسية والمادية مع تحديات سياسية وسيادية ضخمة.
ورغم الجهود التي تبذلها المؤسسات الإنسانية إلا أن الدعم المقدم ما يزال محدوداً وغير كافٍ لتغطية كل المتطلبات الحياتية لهؤلاء الناجين، خاصة في ظل غياب تنسيق وطني شامل يتولى المسؤولية الكبرى.
أخيرا، تبقى مطالب الناجين وأسرهم واضحة، وهي الدعم الشامل والمستدام الذي يمكنهم من استعادة كرامتهم وعيش حياة كريمة، بعيداً عن التهميش والإهمال، توفير العناية الكاملة لهؤلاء الذين دفعوا أثماناً باهظة من أجل الحرية والكرامة.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه






