“أورويل 2+2=5”.. عن تزييف الوعي وتقنين العنف وقيادة الجماهير بالكذب

لم تكن رواية “1984” للكاتب البريطاني “جورج أورويل” نصا عاديا، بل نبوءة سياسية وفكرية، وقراءة واعية لمستقبل الأنظمة السياسية، بكل أطيافها وتياراتها واتجاهاتها، فقد ركزت في مجملها على الأنظمة الشمولية.لكن فكرة الرواية وعمقها لا يزالان صالحين، حتى بعد مرور أكثر من 75 سنة على صدورها (نشرت أول مرة سنة 1949)، وقد تجاوزت أفكارها تلك المراحل، فأصبحت لباسا لمعظم الأنظمة السياسية الحديثة.اقرأ أيضا list of 4 itemslist 1 of 4مهرجان الجونة السينمائي في دورته الـ8.. أفلام جيدة والغلبة وثائقيةlist 2 of 4“إد سوليفان”.. المذيع الأبيض الذي هدم جدار الفصل العنصري على شاشة التلفزيون الأمريكيlist 3 of 4وثائقي “يوميات سماء”.. أرقام ونتائج مرعبة عن فضاء لبنان المستباحlist 4 of 4وثائقي “موت بلا رحمة”.. عدسة تتتبع مأساة عائلتين سوريتين في الزلزالend of listانطلاقا من هذا المعنى، صاغ المخرج الهايتي “راؤول بيك” فيلما وثائقيا بعنوان: “أورويل 2+2=5” (Orwell: 2+2=5)، تطرق فيه لرواية “جورج أورويل” ومساره، وسلط الضوء على عالم اليوم باستشرافها.الماضي والحاضر والوجع قاسم مشتركشارك الفيلم أول مرة في مهرجان كان السينمائي بقسم “كان بريميير” سنة 2025، ورُشح أيضا لسبع جوائز في مسابقة نقاد السينما للأفلام الوثائقية بأمريكا.كما شارك وتوج في عدة محافل سينمائية عالمية، آخرها مشاركته في المسابقة الرسمية بمهرجان الجونة السينمائي، في دورته الـ8 التي انعقدت ما بين 16-24 أكتوبر/ تشرين الأول 2025، وفوزه بجائزة نجمة الجونة البرونزية للفيلم الوثائقي.ذهب “راؤول بيك” في هذا الفيلم الاستثنائي صوب أوجاع “أورويل” وأحزانه، انطلاقا من تجاربه أيام الخدمة في مستعمرات بلده، وقد استعار المخرج صوتا يشبه صوته، وراح يسرد به أوجاعه، بصوت رخيم ومتأمل وهادئ، فيه كثير من الحسرة والندم والوجع والهواجس.المخرج الهايتي “راؤول بيك”وبذلك يكون قد أعطاها بعدا حميميا وحماسيا في آن واحد، معتمدا في ذلك على دمج مقاطع من الإرث السمعي البصري، لا سيما المستمد من أعماله الروائية، ومعظمها بالأبيض والأسود، كما وظف صورا وفيديوهات حقيقية منه وهو يقضي أيامه الأخيرة في مزرعته المقابلة للبحر.إلى هنا يبقى الأمر في الظاهر عاديا، بحسب هذا الوصف، فلم يخرج الفيلم عن السياق السينمائي المألوف، لكن المخرج لم يكتفِ بذلك، بل خلق مقارنة ومقاربة مهمة في غاية الذكاء والدقة، باستعمال مواد توثيقية معاصرة وحديثة، خدم بها منطلق “أورويل” الاستشرافي.كما قدم بفيلمه تحية عميقة في غاية الاحترام لواحد من أهم كتاب العصر الحديث، وأقواهم، وأكثرهم اقتباسات وانتشارا؛ وتلك دروس سياقية ومسارية، أثبتها المخرج منطلقات جوهرية في فيلمه الوثائقي “أورويل 2+2=5”.الأنظمة الشمولية عندما طوعت الأرقام وجعلت 2+2=5لفهم الفيلم لا بد من فهم عنوانه، ولاستيعاب ذلك لا بد من العودة إلى رواية “1984”. وملخصها أن الكاتب قد صور “عالما تُمحى فيه الحقيقة، ويُراقب فيه الإنسان حتى أعماق وعيه”.اشترك فيالنشرة البريديةاشترك في النشرة البريدية وتابع أحدث أفلامنا الوثائقيةلهذا جعل الأحداث تدور في دولة شمولية يقودها “الأخ الأكبر”، حيث يعيش البطل “ونستون سميث” موظفا عاديا في وزارة الحقيقة، يزور الماضي ليخدم الحاضر.لكنه يبدأ في الشك والنفور من النظام، ويبحث عن الحب والمعنى، في واقع يجرّم المشاعر والفكر الحر، وبمسار سقوطه وكشفه تعرّي الرواية آليات السيطرة بالعقل واللغة والدعاية، وتحذر من مستقبل تصاغ فيه الحقيقة بأوامر السلطة لا بالواقع، ليصبح شعارها المرعب: الحرية عبودية، الجهل قوة، والحقيقة 2+2=5.عن كيفية إخضاع الجماهير وتدجينهم لخدمة الرأي الواحد الذي يمثله الزعيمولفهم فكرة “أورويل” أكثر، لا بد من معرفة المصدر أو السبب الذي جعله يتلاعب بحقيقة أن 2+2=5، وهي فكرة استلهمها من سياقات تاريخية حقيقية، مرتبطة بالاتحاد السوفياتي في عهد “جوزيف ستالين”، فقد أطلقت الشعارات المصاحبة للخطة الخمسية، وقيل إنه يمكن إنجازها في 4 أعوام، انطلاقا من شعار أن “المستحيل يصبح ممكنا بفضل إرادة الجماعة الثورية”.وُظفت هذه العبارة على الملصقات واللافتات وفي الصحف ورموز الدعاية كافة، وكانت رمزا للانتصار على المنطق العادي بفضل الإيمان الفكري، لتحقيق “الخطة الخمسية في أربع سنوات”.هذا المنطلق هو ما دفع “جورج أورويل” إلى انتقاص المعادلة الرياضية واتخاذها رمزا عبثيا، يعري الأنظمة الشمولية، التي سحقت البشر، وداست على حقوقهم، بسبب الإيمان المطلق بالزعيم الأوحد. وهو الدافع الذي قاد المخرج الهايتي “راؤول بيك” إلى اختيارها عنوانا وسمة أساسية في متن عمله.صور من الماضي والحاضر أفظعاستطاع المخرج “راؤول بيك” بذكاء نادر، أن يجد قرينا أو مقاربة متشابهة لأفكار “جورج أورويل” ومنطلقاته الفلسفية، عبر مقاربات زمنية معاصرة. لهذا أغنى فيلمه بكثير من الصور الحية، ومن مشاهد لأنظمة سياسية تتغطى بالديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة وغيرها من المصطلحات الفضفاضة.لكن الواقع المر يشي بعكس ذلك تماما، وهي المقاربة التي اعتمدها “الأخ الأكبر” في الاتحاد السوفياتي، بمعنى أن الأنظمة الحالية أيضا تنتج العنف والتعذيب، وتقدم الدعايات الكاذبة والمغرضة، وتزيف الحقائق وتجملها، فتصنع عالما أكثر سوادا.الفيلم عبارة عن تركيب صور من أفلام قديمة وحديثة ودمجها معا لتوليد معاني معاصرةكما وضع المخرج كثيرا من المؤشرات والمنحنيات والأرقام السريعة عن الوضع العام، منها منع آلاف الكتب في أمكنة شتى، لا سيما في أمريكا، وعن القنوات الإعلامية الكبرى المملوكة لشخصيات نافذة، كل ذلك لتزييف الحقائق، ووضع أرقام مغلوطة، وصناعة رأي عام عائم يخدم توجها معينا، ويعيد تسمية المفاهيم، ويجملها لتخدم مصالح السلطة، وكلها منطلقات مغلوطة تخدم في النهاية “الأخ الأكبر” الجديد بشكل أو بآخر.كما كان “راؤول” مخرجا عمليا، فوضع الحقائق وأمثلتها من الواقع، مثل صور المجازر الرهيبة في غزة أثناء حرب الإبادة المستمرة منذ عامين، وتقييد المدنيين وتصويرهم عراة على متن شاحنات، وصور المظاهرات في العالم الغربي ومواجهتها بالقوة مع أنها سلمية، ونقل مجازر الروهينغا في ميانمار، ومحاولات ترويج هذه الجرائم على أنها أمور عادية، وكذلك صور المساجين في كولومبيا وطريقة تقييدهم، وكلها مظاهر ولدت في الحاضر.صورة من فيلم “مزرعة الحيوانات” (Animal Farm) المقتبس من رواية بهذا الاسم للكاتب “جورج أورويل”من هنا يمكن القول إن “جورج أورويل” استطاع أن يتنبأ بما نعيشه اليوم، واستطاع المخرج “راؤول بيك” أن يصوغ تلك النبوءات بطريقة سينمائية مؤثرة ومتوازنة، فرسم بها بعدا فكريا وفلسفيا قدمها كأنها أنياب العصر الحديث، الذي يتغنى بحقوق الإنسان، لكنه يدوس عليها بطريقة شرسة، كما حدث في غزة أمام أعين العالم، بدعم كامل من بعض الدول الكبرى.مستويات جمالية وبصيرة سينمائية حادةالموضوع قوي وراهن، لكن المخرج لم يستسلم لهذا الإغراء، بل أبدع منطلقات جمالية متنوعة قوّت الفيلم وأعطته بعدا مختلفا، انعكست فيه بصيرة سينمائية حادة.ومن تلك المستويات الجمالية ربط الماضي بالحاضر، بابتكار آلية سرد مفهومة وسلسة وقوية، تجلت كرأس خيط جسدها راوٍ استحوذ على صفة “الأنا”، التي يجسدها “جورج أورويل” بنفسه، ومن هنا أصبح الفيلم معالجة ذاتية لمسار كاتب كبير.لكن المخرج أخذ المتلقي إلى منعرج مختلف تماما، أو مستوى موازٍ بين الشخصية وأفكارها، وبذلك أظهر أفكاره ونبوءاته على أرض الواقع في العالم الذي نعيشه اليوم، فانتقل الفيلم من مسار ضيق إلى فضاء أوسع، وعانق قضايا إنسانية في غاية الدقة والعمق والمشاعر، وكأنه يحاكم الحاضر كله.صورة قديمة وُظفت في الفيلم، وتعني بأن الأخ الأكبر يراقبك، تعبيرا عن طريقة عمل الأنظمة الشمولية.لم يكن أرشيف الماضي والحاضر الذي وظفه “راؤول بيك” في فيلمه مجرد مادة جاهزة، بل جعلها منطلقا فنيا وثق به أفكاره التي يريد تجسيدها.ومن جهة ثانية أعطاها حياة ثانية بسلاسة السرد وانسيابية المونتاج، فخلق بها لغة ثالثة عن طريق المونتاج النشط، وقد قامت بهذا العمل المونتيرة الفرنسية المعروفة “ألكسندرا شتراوس”.وتلك خلاصة سينمائية توحي بأن المخرج لا يؤمن بالجاهز، بل يحاول دائما البحث عن الجوهر في الأشياء، حتى في تلك التي نحسبها ميتة لم تعد تصلح لشيء، لكن عندما يلمسها تصبح أحجارا ثمينة، وهذا ما فعله بعدد من الأفلام التي أنتجت قبل أكثر من نصف قرن، فوظف بعض مشاهدها، وأعطاها حياة ثانية، لا سيما عندما قارنها بمواد سمعية بصرية حديثة.عندما تكون السينما أداة احتجاجأظهر المخرج “راؤول بيك” في فيلمه الوثائقي “أورويل 2+2=5” نضجا سينمائيا كبيرا، بعد أن طوع عمله وجعله منبر رفض لكل أنظمة الاستبداد المتعسفة، تلك التي تتدرع خلف الاستعارات الكبرى، والحق أنها تحرك الأحداث وتشبكها، لأنها تستفيد من الفوضى لرفع مؤشرات اقتصادها، ولو كان ذلك على أكوام من الجثث.بمعنى أن “راؤول بيك” في هذا الفيلم صار أكثر من مخرج سينمائي، بل صار مناهضا شرسا للقمع والقتل والتردي السياسي، الذي يحدث اليوم في العالم، وقد اتخذ “جورج أورويل” مطية لتمرير أفكاره الثورية الرافضة، أو بقعة ضوء أوصلها بالكهرباء، حتى تضيء الزوايا المعتمة في العالم.صناعة الزعامة بمراقبة كل تصرف من كل مواطنمن هنا قدم درسا سينمائيا بليغا، نبه به العالم إلى ما وصلت إليه البشرية من تردٍّ أخلاقي وسياسي وحضاري، بدوسها على كل النظم التي طُورت وحُينت على مدار قرون.فالحضارة قد كشرت عن أنيابها، وباتت تغرزها في جسد كل من يقف أمامها أو تراه ضعيفا، أو من يخالف قاعدة “2+2=5″، لتخلق لغة واحدة، يكون البقاء فيها دائما للأقوى لا للأصلح؛ وهو مؤشر خطير جدا، يهدد الإنسانية ويعجل الفناء، بسبب شرارة الحروب والضغائن التي يوقدها في كل مكان.راؤول بيك.. مخرج الأفلام الوثائقية الملتزمةعرف عن المخرج “راؤول بيك” مساره الحافل والتزامه بالملفات السينمائية الكبرى، وكونه يرى السينما أداة للتعريف بالقضايا الكبرى، لا مجرد وسيلة ترفيه.وُلد سنة 1953 في “بورت أو برنس” بجمهورية هايتي، ونشأ بين فرنسا والجمهورية الديمقراطية الكونغولية، وعاش في ألمانيا، قدرس الهندسة الاقتصادية في برلين، ثم التحق بأكاديمية السينما والتلفزيون الألمانية.من فيلم “مزرعة الحيوان” الذي يتحدث عن كيفية صناعة الزعيم الأوحدبعد عدد من الأفلام الوثائقية والروائية رسخ “راؤول بيك” حضوره مخرجا سياسيا وفكريا ذا رؤية نقدية لواقع الاستعمار وما بعده. ومن أبرز أفلامه:
“لومومبا” (Lumumba) عام 2000.
“أنا لست زنجيك” (I Am not your Negro) عام 2016، وقد رُشح للأوسكار.
السلسلة الوثائقية “أفنوا كل الوحوش” (Exterminate All the Brutes) عام 2021.
أما أحدث أعماله فهو فيلم “أورويل: 2+2=5” (2025)، الذي عُرض ضمن الاختيار الرسمي في مهرجان كان السينمائي، وشارك في عدة مهرجانات كبرى.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
اقرأ أيضاً




