Syria News
جاري تحميل الأخبار العاجلة...

من خرائط كيسنجر إلى كانتونات الجولاني

الثلاثاء، 9 سبتمبر 2025
من خرائط كيسنجر إلى كانتونات الجولاني

من خرائط كيسنجر إلى كانتونات الجولاني

كيف تحولت "التجزئة ضمن الحدود" إلى واقع سوري

شادي عادل الخش

منذ أن طرح هنري كيسنجر، في محاضرة بمدرسة "جيرالد فورد للسياسة العامة"، فكرة تقسيم سوريا على أسس إثنية وطائفية، وبدأت صدى هذه الدعوة يتردّد في مراكز الفكر الغربية وبعض الدوائر الرسمية، ظل السؤال قائماً، هل ستبقى هذه الطروحات في إطار التنظير الأكاديمي، أم أنها ستتحول إلى واقع سياسي على الأرض؟

في مايو 2013، كتب الباحث في جامعة هارفرد روجر أوين عن ضرورة العمل على تحقيق الاستقرار السوري عبر إعادة تقسيم المنطقة وفق مفهوم "التجزئة ضمن الحدود"، مستشهداً بما جرى في العراق. وفي الشهر نفسه، دعا أرنولد ألرت إلى إنشاء نظام "ترويكا" تتوزع فيه السلطة بين السنة والأكراد والعلويين، بينما نشر غبريال شينمان في يوليو 2013 بحثاً يقترح إعادة رسم خارطة الجمهورية بما يتناسب مع طموحات الأقليات الكردية والمسيحية والدرزية والعلوية، مستنداً إلى مبادئ ولسون الأربعة عشر وحق تقرير المصير.

ولم تكن هذه مجرد أطروحات نظرية، إذ انسجمت مع ما كتبه ألوف بن في صحيفة هآرتس العبرية في يوليو 2013 حين أكد ضرورة أن تسفر تطورات المنطقة عن كيانات سياسية جديدة تمنح الأقليات حضوراً، وتفتح المجال أمام إسرائيل لكسر عزلتها وتعزيز تواصلها مع شعوب المنطقة.

لقد تحولت هذه الرؤى إلى مشاريع ملموسة، حيث نشرت معاهد الفكر الغربية خرائط عدة بين عامي 2013 و2016 تطرح تقسيم سوريا إلى كانتونات، أبرزها خريطة "معهد دراسات الحرب" في مايو 2013، التي رسمت ثلاثة أقسام: منطقة شمال شرقي للأكراد تحت إشراف أميركي، وأخرى في الوسط والشمال الغربي تحت إشراف تركي للمعارضة في حلب، مقابل اعتراف دولي بسيطرة النظام، بدعم روسي، على دمشق وحمص وحماة واللاذقية وطرطوس.

حتى أن مصير سهل حوران وجبل العرب والقنيطرة لم يُذكر صراحة في تلك الخطة، إلا بالإيحاء إلى أن إشرافاً غير مباشر من إسرائيل والولايات المتحدة عبر الأردن سيكون المرجّح. وفي أغسطس 2013 نشر "مركز ويلسون" دراسة تضمنت خريطة لفض الاشتباك على طول خط دمشق–حلب، بحيث تظل العاصمة والساحل للنظام، وتؤول القطاعات الشمالية والشرقية للمعارضة، في طرح بدا أن تل أبيب تقف خلفه إذ رأت أن بقاء النظام ضعيفاً أفضل من ظهور جار عقائدي جديد.

على الجانب السياسي والدبلوماسي، سعت الولايات المتحدة وروسيا إلى التفاهم على ترتيبات الوضع النهائي، في لقاء بين كيري ولافروف في موسكو في 7 مايو 2013 وجنيف في 14 سبتمبر من العام نفسه، حيث أُعلن عن توافق على مجموعة من القواسم المشتركة أبرزها: معالجة الأزمة دبلوماسياً ومنع انتشارها خارج الحدود السورية.

وقد سارعت جامعة الدول العربية ودول الاتحاد الأوروبي إلى مباركة هذا التفاهم، بينما انسحب الأسطول العسكري الفرنسي والبريطاني من شرق المتوسط نحو البحر الأحمر، وأرسلت موسكو شحنة ضخمة من الأسلحة على متن سفينة "Nikolai Filchenko" لتعزيز وجودها البحري قبالة الساحل السوري.

اليوم، وبعد اثني عشر عاماً على تلك الدراسات، وتسعة أشهر فقط على سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024 وصعود سلطة أحمد الشرع (الجولاني سابقاً) كحاكم أمر واقع، يبدو أن ما كان في السابق خرائط ونماذج أصبح حقيقة ملموسة.

فشمال شرق سوريا ما زال تحت النفوذ الكردي المدعوم أميركياً، مع حوارات غير معلنة لإعادة هيكلته وفق تفاهمات أميركية–تركية، بينما الشمال الغربي، من إدلب إلى أرياف حلب، يخضع عملياً لإشراف تركي عبر سلطة الجولاني.

وفي الجنوب، تحولت السويداء وسهل حوران والقنيطرة إلى مناطق نفوذ غير مباشر لإسرائيل والأردن والولايات المتحدة، تجلّى في أحداث ومجازر دامية تُقرأ كإعادة ترسيم وظيفي للحدود. أما الساحل ودمشق وحمص وحماة، فهي ساحة تنافس بين روسيا وإيران، وقد بدأت تتحول تدريجياً إلى "مناطق حماية" ذات طابع شبه مستقل، تدار عبر وكلاء محليين.

النظرية التي طرحها ألرت عن "ترويكا" بين السنة والأكراد والعلويين لم تتحقق، إذ استحوذ الجولاني على الحصة السنية كاملة، ساعياً لفرض نفسه رأساً على أي مشروع وطني، فيما بقي الأكراد خارج أي ترتيبات مركزية رغم سيطرتهم الواقعية على شرق الفرات، وتوزع العلويين بين موسكو وطهران بلا تمثيل سياسي مؤثر.

ما نشهده هو نسخة معدّلة من اتفاق كيري–لافروف، ولكن بأطراف أوسع: واشنطن، موسكو، تل أبيب، أنقرة، طهران، ودول الخليج، فيما يمثل الجولاني أداة تنفيذ محلية، كما كان الأسد من قبل، لكن مع فارق أن الشرعية الأممية المتمثلة في القرار 2254 لم تُفعّل، مما يجعل التقسيم أمراً واقعاً لا مؤسساتياً.

إن ما كان يطرح في 2013 كمخططات غربية–إسرائيلية–روسية للتجزئة ضمن الحدود تحوّل اليوم إلى واقع يومي في سوريا بعد 2024. لم يعد الحديث عن احتمالات بل عن خرائط قيد التنفيذ، وسلطة أمر واقع لا تملك مشروع دولة بقدر ما تملك تفويضاً ضمنياً لإدارة كانتون سني–تركي في الشمال، فيما الشرق والجنوب والساحل يرسخون ككيانات شبه مستقلة مرتبطة بداعميها الخارجيين.

والنتيجة أن سوريا، وإن احتفظت بالاسم على الورق، لم تعد دولة موحدة، بل خارطة ممزقة تحكمها تفاهمات النفوذ أكثر مما يحكمها عقد اجتماعي أو إرادة شعبية.

لكن الأخطر أن هذا المسار لا يترك أي نافذة أمل لولادة مشروع وطني جامع. فكل قوة إقليمية أو دولية رسخت موقعها على الجغرافيا السورية، وكل "كانتون" يدار وفق مصالح خارجية، فيما الجولاني يقدم نفسه واجهة لسلطة أمر واقع بلا شرعية، وبلا أي تصور لدولة جامعة أو عقد اجتماعي يلمّ شتات السوريين.

وإذا استمر هذا الواقع، فإن "التجزئة ضمن الحدود" ستتحول تدريجياً إلى تقسيم مقونن ومعترف به، يدفن أي حلم بسوريا واحدة، ويحوّل الثورة التي انطلقت عام 2011 من أجل الحرية والكرامة إلى مجرد محطة عابرة على طريق إعادة هندسة المنطقة.

من هنا يصبح السؤال الحاسم: هل يمكن للسوريين أن يستعيدوا زمام المبادرة ويؤسسوا لبديل وطني جامع قبل أن يُغلق الباب نهائياً؟

أم أن الأفق انسد تماماً، ولم يعد هناك مكان إلا لخارطة "الآخرين" التي تتناوب على رسمها مراكز الفكر ودوائر القرار في واشنطن وموسكو وتل أبيب وأنقرة وطهران؟

إن الجواب، في رأيي، لا يمكن أن يأتي إلا من الداخل، من السوريين أنفسهم، عبر مشروع وطني جامع يعيد تعريف الدولة على أسس السيادة والعدالة والمواطنة.

وهذا بالضبط ما نحمله اليوم في "مشروع النهضة وبناء الدولة السورية ما بعد الاستبداد": رؤية بديلة، لا تُدار من غرف مغلقة ولا تُفرض عبر تفاهمات دولية، بل تُبنى على المصالحة الوطنية، والعدالة الانتقالية، واستعادة العقد الاجتماعي الممزق، وإطلاق مسار سياسي يشارك فيه كل السوريين دون استثناء أو إقصاء.

فإذا كان الآخرون قد رسموا خرائطهم لتمزيق سوريا، فإن واجبنا أن نرسم خريطتنا نحن، خريطة الإنقاذ الوطني، التي تعيد للوطن سيادته وللشعب كرامته وللدولة معناها.

شادي عادل الخش

مشروع النهضة وبناء الدولة السورية ما بعد الاستبداد

Loading ads...

https://syria-nahda.org/

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه