ما بعد قيصر.. من غطاء إدارة الأزمة إلى اختبار إطلاق التَحوّل
لا يمكن بأي حال، التقليل من الأهمية الكبرى لرفع عقوبات قيصر عن سوريا، باعتبارها تحمل فرصاً حقيقية للخروج من واقع الانغلاق والتشوُّه الهيكلي الذي عانى اقتصاد البلاد منه طويلاً، فرص غدت متاحة في دعم عملية إعادة هيكلة وبناء مؤسسات الدولة، وتحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، واستئناف عجلة الإنتاج الطبيعية لمختلف القطاعات، وتعزيز الاستثمار الأجنبي.
ولكنها ستكون أيضاً منعطفاً فارقاً وصعباً، تتلوه مرحلة تحمل في طياتها اختباراً قاسياً، في مدى صدقية مؤسسات الدولة القائمة والجديدة أمام الداخل والخارج، كذلك مدى قدرتها على إحداث التَحُّول الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الموعود.
وإذا كان من العقلانية القول: إنّ رفع العقوبات لا يعني أن القيود السابقة قد اختفت، وأن الموضوع هو بحدود فتح قنوات ومساحات عمل جديدة لم تكن متاحة من قبل، إلا أن توسيع هذه المساحات سيكون هو الهدف، بمتطلبات وجهود ومعايير مختلفة عما مضى، من أهداف الإغاثة وتلبية الاحتياجات إلى أهداف التنمية الشاملة، بمتطلباتها كلّها، والتي تستوعب أولوية المناطق والشرائح الأكثر تضرراً من الحرب، في إطار تطبيق العدالة الانتقالية، ولكن وفق مؤشرات اقتصادية واجتماعية محددة، أهمها ما يرتبط بالمردودية وتحقيق النفع العام.
الانفتاح المتوقع سيبقى مشروطاً بإثبات جدية الحكومة الانتقالية في الشفافية والحوكمة الرشيدة، وهو شرط لم يُختبر بعد بما يكفي خلال السنة الماضية، لأسباب ومبررات متعددة..
كذلك، فإنّ الاستثمارات في مختلف القطاعات، والتي كانت بعضها -نظراً للمخاطر- أشبه بالمساعدات، أصبحت خيارات رابحة، ويجب أن يراعى أن تكون تنافسية، بأن يُخلق بيئة عمل آمنة وسهلة، ولكنها أيضاً مُنظمة قانونياً، ومتسمة بالشفافية المطلقة، بدءًا من بحث الجدوى، وطريقة استغلال وتوظيف المدخلات والموارد الوطنية، المادية والبشرية، وصولاً لمخرجات قابلة للقياس والمقارنة، بين مختلف الأطراف الاستثمارية المشاركة، وكذلك المستفيدة.
في الواقع، الانفتاح المتوقع سيبقى مشروطاً بإثبات جدية الحكومة الانتقالية في الشفافية والحوكمة الرشيدة، وهو شرط لم يُختبر بعد بما يكفي خلال السنة الماضية، لأسباب ومبررات متعددة، لن يكون التذرع بها بنفس المستوى من الموضوعية والتأثير بعد الإزالة النهائية لعقوبات قيصر.
من هنا، سيكون أمام السلطة الانتقالية -بوزراتها وإداراتها الحكومية وهيئاتها المختصة- مرحلة مختلفة، تتوفر فيها فرصة حقيقية لإعادة تعريف نفسها، وتحديد طبيعتها، ووظائف حكومتها، وحدود مؤسساتها، وكذلك شكل العلاقة بين الدولة والمجتمع.
إن التفكير بعمق في إعادة هيكلة الحكومة، التي تشكلت كإدارة أزمة، هو عمل طبيعي لمرحلة ما بعد عقوبات قيصر، والتي سيتم فيها إطلاق عملية واسعة للتحول الاقتصادي، بما تتطلبه من تحُّول إداري وقانوني وتشريعي، ومن دون إهمال بناء إطار تحوُل سياسي حقيقي وواضح المعالم.
في الواقع، فإن أي تعديل في الهيكل الحكومي المطلوب لا يجب أن يكون مجرد تطوير وإعادة توزيع للمهام، بحدود المتطلبات الفنية أو الإدارية فقط، ضمن إطار سياسي أوسع، في محاولة لبناء ثقة سياسية واقتصادية ومجتمعية.
فإلى جانب استحداث تخصصات ضرورية، سيكون من الصعب الإبقاء على حالة الدمج الحاصلة في وزارة الاقتصاد والصناعة ووزارة الطاقة مثلاً، إذ لابد من إعادة تقسيم وتوزيع وضبط العمل الوزاري: الاقتصادي والخدمي، بما يخفف من مركزية القرار الوزاري، ويزيد من نطاق المهام وتعدد الأطراف الحكومية التنفيذية تخصصياً، ويعمق دور كل منها في وضع الخطط والسياسات.
كذلك، ستجد السلطة الانتقالية نفسها أمام اختبار صعب في مدى شفافيتها، وقدرتها على لعب دورها الإشرافي والرقابي اقتصادياً، إضافة إلى تفعيل المساءلة عبر آليات واضحة ضمن البنية الرقابية والبيئة التشريعية، المتضمنة احترام صلاحيات مجلس الشعب القادم، وفق الإعلان الدستوري، وتعديلاته المتوقعة.
وكذلك التطورات المحتملة بتطبيق آليات مناسبة من نماذج اللامركزية الإدارية والمالية، وصولاً لموجبات توسيع المشاركة السياسية، وتعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني غير المرتبط بالسلطة.
ولعل ما سيميز المرحلة التالية لرفع عقوبات قيصر هو أن الحكومة لم تعد تتحرك داخل إطار شبه مغلق، أو شبه مفتوح كما السنة الماضية، بل باتت تعمل تحت رقابة دولية وإقليمية متداخلة، وأسواق تراقب كل إشارة، إضافة إلى رأي عام محلي بدأ يشعر بأن عمر المرحلة الانتقالية سيكون طويلاً بما يكفي، ليس فقط بحدود تأثر واقعه بشكل مباشر، وإنما أيضاً بما يرسم آفاق المستقبل المديد.
لذلك لابد من أن ينتقل العمل الحكومي وممارسة السلطة لمهامها، من مستوى العمل وفق القرارات الحكومية والمراسيم الرئاسية، والتي ما زالت في إطارها الإداري "العلاجي"، لتسيير شؤون البلاد بطريقة بيروقراطية داخلية، إلى مستوى يكون فيه العمل الحكومي جزءاً من معادلة جيوسياسية واقتصادية داخلية وإقليمية، وفق خطط استراتيجية واضحة، تحدد بدقة مساراً مستقبلياً طويل الأمد، بمعنى تحديد الهوية السياسية للدولة الوليدة، وإعلان نهجها الاقتصادي الأساسي المتَّبع، وبيان العقد الاجتماعي بين السلطة والمجتمع.
كذلك يجب ألا تُفهم المشاركة السياسية خلال الانتقال على أنها مجرد "فتحُ الباب" للمعارضة، أو "توسيعُ الطيف السياسي" للحكومة فحسب، بل باعتبارها إعادة توزيع مراكز اتخاذ القرار داخل الدولة، والتي يجب ألا تبقى صندوقاً مغلقاً.
فنهج إدارة التحول يوجب أن يكون قائماً على رؤية واضحة بالنسبة لإدارة شؤون الدولة: من يقرر؟ كيف يقرر؟ ولماذا؟ ولذلك فإن إدخال المجتمع في صنع القرار—سواء عبر المجالس المحلية، أو غرف التجارة والصناعة ومجالس الأعمال، أو النقابات المهنية، أو منظمات المجتمع المدني—هو في الحقيقة آلية لإضعاف احتمالات الاحتكار من جديد، وبناء توازنات مؤسسية تقلص مخاطر الانحراف في ذلك المستقبل الذي يريد السوريون جميعاً أن يكون مستقبلهم الأفضل.
وهنا نُعيد ونكرر بأن اللامركزية المالية والإدارية تبقى الخيار الاستراتيجي الأكثر انسجاماً مع وضع البلاد الحالي، فالنظام المركزي الذي كان ممكناً في دولة مستقرة ذات موارد منتظمة لم يعد قابلاً للعمل في بلد متعدد الجراح، وواسع التفاوت بين مناطقه، ومثقل بمتطلبات إعادة الإعمار.
وهي الأداة الأكثر مضاءً لإدارة التنوع وإعادة توزيع الأعباء الاقتصادية، عبر تمكين المحافظات والمجالس المحلية المنتخبة من إدارة مواردها مباشرة وتنفيذ مشاريعها وفق أولوياتها، بعيداً عن حلقات الاختناق الإداري في المركز، وارتهان التنمية بقرارات مركزية قد تكون بطيئة، وربما غير واقعية.
المسألة لم تعد تتعلق بالنوايا والكلمات أو بإدارة ندرة أو احتواء انهيار، بل ببناء مسار جديد للدولة السورية، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، على أسس قابلة للاستدامة، فالعالم لا يتعامل مع النوايا، وإنما مع المؤسسات..
وهي وسيلة للاستقرار وتقليل الاحتقان السياسي، وتتضمن ما يجعل الدولة أقرب للمجتمع، وأكثر قدرة على الاستجابة الاستراتيجية، وذلك بالسيطرة على الجزء الأكبر من الموارد القابلة للتوجه نحو المشاريع الكبرى، وفرض نظام رقابة مركزي موحد، مما يزيد من فعالية الدولة، ولا يُضعفها.
إن رفع عقوبات قيصر سيفتح بوابة مرحلة أشد تعقيداً وحساسية، يكون فيها النجاح مرهوناً بالقدرة على الانتقال الواعي من منطق إدارة الأزمة، الذي حكم سنوات مضت، إلى منطق إدارة التحوّل، الذي يتطلّب رؤية، ومؤسسات، وقوة سياسية في القرارات المتخذة.
فالمسألة لم تعد تتعلق بالنوايا والكلمات أو بإدارة ندرة أو احتواء انهيار، بل ببناء مسار جديد للدولة السورية، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، على أسس قابلة للاستدامة، فالعالم لا يتعامل مع النوايا، وإنما مع المؤسسات، وأي تردّد في هذا الانتقال، أو الاكتفاء بإعادة إنتاج الأدوات القديمة ضمن سياق جديد، سيحوّل فرصة رفع العقوبات إلى عبء إضافي بدل أن تكون رافعة للإنقاذ.
الجميع يريد دولة تُدار بعقلية التحوّل -دولة مؤسسات شفافة، خالية من التضارب، سلطة موزّعة، قابلة للمساءلة، وشراكة حقيقية مع المجتمع- لجعل هذا المنعطف بداية فعلية لاستعادة الثقة، وإعادة بناء سوريا بوصفها دولة مواطنيها، لا دولة أزمات لهم.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
اقرأ أيضاً

قوى الأمن الداخلي تنتشر في بلدة ترمانين بريف إدلب
منذ ساعة واحدة
قسد ولعبة الرهان على الزمن
منذ ساعة واحدة
حي الأكراد الدمشقي
منذ ساعة واحدة

