أسدلت حملة التبرعات "حلب ست الكل" الستار بعد ثلاثة أيام مكثفة، نجحت خلالها في جمع نحو 426 مليون دولار أميركي، وهو رقم جاء دون سقف التوقعات التي راجت قبيل انطلاق الحملة وتحدثت عن إمكانية بلوغ مليار دولار، ورغم ذلك، يرى متابعون أن المبلغ المحصل يظل مهماً وقادراً، إن أُحسن توظيفه، على إحداث فرق ملموس في عدد من القطاعات الخدمية والإنسانية الأكثر إلحاحاً في مدينة حلب وريفها، من نظافة ومياه وكهرباء وبلديات وطرق ومدارس ومخيمات، وصولًا إلى إزالة الأنقاض وترميم البنية التحتية.
غير أن السؤال الأبرز الذي يفرض نفسه اليوم في الشارع الحلبي لا يتعلق بحجم التبرعات بقدر ما يتعلق بكيفية إدارتها وتوزيعها، وأي القطاعات ستحظى بالأولوية، وأيها يمكن تأجيله، في ظل غياب خطة معلنة حتى الآن توضح مسارات الصرف وآليات التنفيذ ومعايير الاختيار.
استحقاق الحوكمة ومسؤولية الأمانة
اختتمت محافظة حلب حملة "حلب ست الكل" بوصفها محطة وطنية عكست روح التكافل المجتمعي، في محاولة لتضميد جزء من الدمار الهائل الذي خلفته سنوات طويلة من الحرب التي شنها النظام المخلوع على المحافظة، وبحسب تقديرات الوزير السابق في الحكومة السورية المؤقتة محمد ياسين نجار، فإن حلب تحتاج إلى ما لا يقل عن 64 مليار دولار لإعادة إعمارها، ما يعني أن حصيلة الحملة لا تتجاوز 6 بالمئة من الاحتياجات الفعلية.
ويقول نجار، في حديث لموقع تلفزيون سوريا، إن هذه الأموال "ليست مجرد تبرعات، بل هي قرض ثقة من المجتمع السوري لمؤسساته، لا تستوفى قيمته إلا بإنجاز ملموس وحوكمة نزيهة". ويضيف أن نبض الشارع الحلبي خلال أيام الحملة جمع بين الترحيب بالمبادرة والتساؤل المشروع حول آليات التنفيذ وضمانات الشفافية، مؤكدًا أن "النجاح الحقيقي للحملة يبدأ الآن، حين تتحول الأرقام إلى أثر يراه المواطن في مدينته وقريته".
المكاشفة والشفافية
يؤكد نجار أن الخطوة الأولى تكمن في المكاشفة المالية، عبر إصدار "سجل الأمانة الوطني" الذي يوثق أسماء المتبرعين وشروطهم وطبيعة تبرعاتهم والبرنامج الزمني لتدفق الأموال، ويرى أن وضوح المصدر والوجهة هو الضمانة الأخلاقية الأولى لنزاهة الإنفاق.
كما يدعو إلى إنشاء منصة إلكترونية وطنية مفتوحة تتيح تتبع الأموال من لحظة التحصيل حتى التنفيذ، وتعرض المشاريع المعتمدة ونسب الإنجاز والصرف، مع نشر تقارير مالية وفنية شهرية، بما يحول الشفافية من شعار إلى ممارسة مؤسسية دائمة.
ويشدد نجار كذلك على ضرورة الفصل المنهجي للأوعية المالية بين أموال الزكاة والتبرعات العامة والتبرعات العينية، إضافة إلى تشكيل وحدة إدارة مشاريع مستقلة ومهنية (PMO)، ونشر تقارير دورية تضمن حق الوصول إلى المعلومة بوصفه حقًا عامًا.
النظافة.. أزمة يومية في الأحياء الشرقية
ما يزال ملف النظافة من أكثر الملفات إلحاحًا في مدينة حلب، ولا سيما في الأحياء الشرقية مثل الفردوس والمعادي والصالحين والمرجة والشعار وطريق الباب والحلوانية وبستان الباشا والصاخور وغيرها من الأحياء، في هذه المناطق، تتحول أكوام القمامة إلى مشهد يومي يثقل حياة السكان، مع حاويات مهترئة وغير كافية، ونقص واضح في عدد العمال والآليات.
ورغم الجهود التي بذلها مجلس مدينة حلب منذ سقوط النظام المخلوع وحتى أواخر عام 2025، إلا أن مصادر مطلعة تؤكد أن المدينة تحتاج إلى مضاعفة عدد عمال النظافة الحاليين، إلى جانب رفد القطاع بآليات جديدة لجمع وترحيل القمامة، في ظل توسع عمراني وكثافة سكانية مرتفعة.
ويقول أبو أحمد، وهو من سكان حي الصالحين: "القمامة متراكمة حول الحاويات لأيام، الروائح كريهة، والحشرات منتشرة، وأطفالنا عرضة للأمراض، نحتاج إلى حل جذري، لا إلى حملات مؤقتة" ويرى أن تخصيص جزء من تبرعات الحملة لهذا القطاع "قد ينعكس مباشرة على صحة الناس وعلى المظهر الحضاري لحلب".
المياه والكهرباء: تحسن نسبي واختلالات عميقة
شهدت مدينة حلب تحسناً نسبياً في واقع الكهرباء، إلا أن الخدمة ما تزال غير مكتملة، خاصة في عدد من الأحياء الشرقية التي يعتمد سكانها على المولدات الخاصة ذات الكلفة المرتفعة، وفي الريفين الشمالي والجنوبي، ما تزال قرى وبلدات كاملة بلا كهرباء، ما يحد من أي تعاف اقتصادي أو خدمي حقيقي.
أما شبكة المياه، فلا تبدو أفضل حالًا، فالقصف الذي طال البنية التحتية خلال السنوات الماضية خلف شبكات مهترئة بحاجة ماسة للترميم، وفي الريف الشمالي، تعاني مؤسسات المياه من أزمة إدارية ومالية خانقة، إذ لم يتقاضَ موظفوها رواتبهم منذ توقف الدعم التركي، رغم الحديث عن دمج المناطق المحررة سابقاً منذ منتصف 2025.
ويقول أبو خالد، وهو من سكان ناحية صوران شمال حلب: "نحن بلا مياه مستقرة، وموظفو مؤسسة المياه لم يستلموا رواتبهم منذ خمسة أشهر، كيف نطلب منهم العمل في هذه الظروف" ويضيف أن أي دعم لا بد أن يشمل إصلاح الشبكات وضمان استمرارية عمل المؤسسات ورواتب كوادرها.
إزالة الأنقاض.. خطوة ضرورية لإعادة الحياة
انطلقت مؤخراً المرحلة الثانية من عمليات إزالة وترحيل الأنقاض في أحياء حلب الشرقية، بالتزامن مع إعادة تشغيل معمل تدوير الأنقاض في الراموسة، غير أن حجم الدمار يتطلب دعماً أكبر لضمان استمرارية العمل وتوسيعه ليشمل جميع الأحياء المتضررة، ويرى مختصون أن دعم المعمل وزيادة عمالته يمكن أن يوفر مواد بناء محلية بأسعار أقل، تستخدم في ترميم الأرصفة ورصف الطرق وإعادة الإعمار.
ويقول أبو محمود، من سكان حي كرم الطراب: "النظام المخلوع وعد بعد 2017 بإزالة الأنقاض ولم يفعل إلا في أحياء محدودة، اليوم نحتاج إلى عمل شامل يفتح الطرق ويعيد الحياة، من دون إزالة الأنقاض، لا عودة حقيقية ولا إعمار".
المناطق الصناعية.. مفتاح التعافي الاقتصادي
لا يمكن لحلب أن تستعيد عافيتها من دون استعادة دورها الصناعي، وتخصيص جزء من تبرعات الحملة لتحسين البنية التحتية في المناطق الصناعية، من طرق وكهرباء واتصالات، من شأنه أن يخفف كلفة الإنتاج ويشجع الصناعيين على إعادة تشغيل معاملهم.
تحسين هذه البنية لا يدعم الصناعة فحسب، بل ينعكس على فرص العمل والدخل المحلي، ويعيد لحلب موقعها كعاصمة اقتصادية، قادرة على المساهمة في النهوض الوطني الأوسع.
النقل العام: حاجة ملحة لإعادة الهيكلة
يعاني قطاع النقل في حلب من فوضى وتقادم واضح، إذ تحتاج الحافلات إلى استبدال، وخطوط النقل إلى توسعة، مع إنشاء مواقف حديثة وتنظيم السرافيس داخل وخارج المدينة، ولا سيما في المناطق الريفية. ويرى مختصون أن الاستثمار في النقل العام يخفف الأعباء عن المواطنين ويعزز العدالة في الوصول إلى الخدمات.
المخيمات: الملف الأكثر إلحاحاً
في مخيمات النازحين شمال حلب، لا سيما القريبة من الحدود السورية–التركية، تتفاقم المعاناة مع شتاء قارس وانخفاض حاد في الدعم الإنساني، آلاف الأسر ما تزال عاجزة عن العودة، إما لدمار منازلها أو لانعدام مقومات الحياة.
ويقول أبو محمد، من أحد مخيمات ريف إعزاز: "البرد قاسٍ، والدعم أقل بكثير من السنوات الماضية، نعتمد على ما تيسر، ولا نعرف كيف سنكمل الشتاء". ويرى أن تخصيص جزء معتبر من تبرعات الحملة لدعم المخيمات أو مساعدة الأسر على العودة الجزئية إلى منازلها "قد ينقذ آلاف العائلات من هذا المصير القاسي".
ما بعد "حلب ست الكل" ليس لحظة احتفال، بل امتحان حقيقي لقدرة المؤسسات على تحويل التضامن الشعبي إلى إنجازات ملموسة، فالتبرعات، مهما بلغ حجمها، لا تصنع التعافي وحدها، ما لم تدار بحوكمة صارمة، وشفافية كاملة، ورؤية واضحة تضع الإنسان في صلب الأولويات، وبين النظافة والمياه والكهرباء والأنقاض والصناعة والمخيمات، تقف حلب اليوم على مفترق طرق، إما أن تستثمر هذه الفرصة لتأسيس نموذج جديد في الإدارة والمسؤولية، أو تهدر كغيرها، وتبقى القطاعات تنتظر دعماً لا يأتي.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه





