Syria News
جاري تحميل الأخبار العاجلة...

نيولاينز: اللامركزية إنقاذ لسوريا أم وصفة للتفكك؟

الجمعة، 12 سبتمبر 2025
نيولاينز: اللامركزية إنقاذ لسوريا أم وصفة للتفكك؟

في حين تطوي سوريا صفحة الأسد وتدخل مرحلة سياسية انتقالية مضطربة، يطفو على السطح سؤال مصيري سيحدد شكل الدولة لعقود مقبلة: هل ستبقى البلاد أسيرة المركزية الصارمة التي طُبعت بها منذ نصف قرن، أم ستنفتح على نظام لامركزي يوزّع السلطة ويستوعب تنوعها العرقي والطائفي والمناطقي؟

في تقرير موسع نشرته مجلة نيو لاينز، يتضح كيف تحولت قضية اللامركزية إلى ساحة صراع خفي بين من يتمسكون بقبضة الدولة المركزية ومن يرون فيها فرصة لبناء سوريا جديدة، أكثر عدلاً واستقراراً، في حين تجد الولايات المتحدة نفسها أمام اختبار دبلوماسي حساس: هل تكتفي بالمراقبة أم تستثمر نفوذها لدعم نموذج يضمن مشاركة أوسع ويمنع عودة الاستبداد؟

يعرض موقع تلفزيون سوريا هذا التقرير في إطار التغطية الإعلامية للملفات المتعلقة بواقع الحوكمة في سوريا، مع الإشارة إلى أن ما ورد فيه يعكس رؤية المجلة ومصادرها، ويُقدّم كمادة تحليلية تساعد على فهم طريقة تناول الإعلام الدولي للملف السوري، من دون أن يُعد توثيقاً شاملاً لكامل المشهد أو تبنياً لاستنتاجاته.

وفيما يلي ترجمة تلفزيون سوريا لهذه المادة:

منذ انهيار نظام بشار الأسد، أضحت طبيعة الحكومة السورية الجديدة ونظام الحكم في البلد من أكثر المواضيع إثارة للجدل والنقاش في سوريا، والسؤال المحوري هنا هو هل يتعين على سوريا أن تتبنى اللامركزية في الحكومة أم لا، فقد كانت السلطات المؤقتة في دمشق راسخة في اعتناقها لشكل مركزي موسع في الحكم، ولكن ظهر عدد أكبر من أصحاب المصلحة في البلد الذين صاروا يطالبون بمزيد من المشاركة وبإقامة بنية سياسية محلية تتمتع بسلطات واسعة تمنحها استقلالاً ذاتياً في مناطق معينة من البلد، وهكذا أصبح هذا الجدل يعبر عن الديناميات المحلية والطائفية والعرقية المعقدة في سوريا، وخلال هذه المرحلة الانتقالية المضطربة، يكشف ذلك عن مؤشرات لوجود صراع طويل الأمد بين الفرقاء السياسيين في البلد بالنسبة لرسم شكل الدولة مستقبلاً.

مع دخول سوريا هذه المرحلة السياسية الجديدة، أضحت الولايات المتحدة أمام فرصة حساسة للإسهام في رسم شكل مستقبل سوريا بحيث يصبح أكثر استقراراً ويقوم على مشاركة أوسع. ومن خلال رفع سائر العقوبات أصبحت أمام الولايات المتحدة فرصة فريدة يمكنها من خلالها أن تفتح صفحة جديدة في علاقاتها الدبلوماسية مع سوريا، لذا فإن طرح سياسة تؤيد اللامركزية، من خلال المساعدات المقدمة لمؤسسات محلية، لا يعتبر السبيل الوحيد الناجع لتحقيق ذلك، بل إنه ضروري على المستوى الاستراتيجي، إذ يمكن لذلك أن يسهل عملية تشكيل حكومة شاملة ونظام سياسي تشاركي في سوريا، أي ذلك النظام القائم على الأهداف التي بقيت مركزية بالنسبة للسياسة الأميركية، خاصة بعد سقوط الأسد. وهذا النموذج يفتح الطريق أمام تخفيف وطأة النزاع، ومنع الحكم الاستبدادي من العودة، مع التشجيع على تحقيق تمثيل عادل للشعب. وعبر الاستثمار في أسس الدولة السورية المرنة، يمكن لواشنطن أن تحول نفوذها الحالي إلى نفوذ دائم مستمر، أي ذلك النفوذ الذي يمكن السوريين من خلاله إعادة بناء بلدهم من دون أن يجر ذلك الولايات المتحدة إلى تدخل ليس له نهاية.

حقبة المركزية

قبل كانون الأول من عام 2024، كانت سوريا تُحكم بنظام شديد المركزية تحت هيمنة حزب البعث التي امتدت لخمسة عقود، فعند وصول حافظ الأسد إلى السلطة في عام 1971، طبق تحولات بعيدة المدى شملت سائر بنية الحكم وغيرها من المجالات الحساسة في الدولة، وكان هدفه من كل ذلك ترسيخ سيطرته على البلد.

وبعد شهور قليلة من توليه السلطة، أصدر مجلس الشعب الذي دعمه الأسد مرسوماً يقضي بتنظيم انتخابات المجالس على مستوى البلديات والمناطق والمدن، إلا أن إمكانية قيام حكم محلي فعال سرعان ما أجهضها الدستور الذي أقر في عام 1973 والذي حصر سلطات واسعة بيد مقام الرئاسة، بما يضمن استئثار الحكومة المركزية في دمشق بالسيطرة على كل مناحي إدارة الدولة مع تحويل المجالس المحلية إلى عناصر تابعة وظيفياً وتهميشها سياسياً. وفي حين أورد الدستور الجديد مادتين مقتضبتين ورد فيها ذكر المجالس الشعبية المحلية، لم يعرّف أي دور فعلي لتلك المجالس في الحكم المحلي. وخلال فترة حكمه، لم يبد الأسد كبير اهتمام حتى بالحكم الذاتي المحلي، فقد اتسم حكمه الذي امتد لثلاثة عقود بالمركزية الشديدة التي تسيطر على كل منحى من مناحي الحكومة، فعلى سبيل المثال، كان الأسد هو من يعين المحافظ من دون الرجوع إلى أي معلومات من الدوائر المحلية، كما كانت ميزانيات المحافظات الأربع عشرة بيد الحكومة المركزية في دمشق، ونتيجة لذلك، تحولت المجالس المحلية ومجالس المحافظات إلى أذرع للسلطة بشكل أساسي، بعد أن كُلفت بتطبيق السياسات التي تقررها الحكومة المركزية.

من حافظ إلى بشار

عندما تولى بشار، نجل حافظ، الرئاسة بعد وفاة أبيه في عام 2000، كانت أسس النظام المركزي المكثف قد ترسخت إلى أبعد حد، وعلى الرغم من محاولاته الأولى في مجال الإصلاح الاقتصادي وتحديث بعض قطاعات الدولة، لم يحافظ بشار على جهاز الحكم المركزي فحسب بل عمقه ورسخه في بعض الحالات، وذلك عندما ضمن بقاء عملية اتخاذ القرار بيد دمشق، مع بقاء بنى الحكم المحلية في مختلف أنحاء البلد مجرد أجهزة رمزية وغير فاعلة.

لعبت تلك المركزية المكثفة للسلطة دوراً مهماً في إشعال الانتفاضة التي قامت في عام 2011، فمن المظالم الخفية التي أسهمت في اندلاع النزاع السوري نذكر الغياب الكامل لوجود أي سلطة محلية، إذ على سبيل المثال، كان المحافظون يشغلون مناصبهم بالتعيين، ومعظم المسؤولين في البلديات تصادق عليهم دمشق، من دون أن يقدموا سوى أشياء ضئيلة للمجتمعات التي يخدمونها، بل إن بعضهم لم يقدم لتلك المجتمعات أي شيء على الإطلاق. ولقد تسبب هذا النهج الاستبدادي الذي ترافق مع فساد ممنهج وانعدام للمساواة في التوظيف، في تهميش المجتمعات المحلية، وهذا ما أدى إلى انتشار حالة استياء عميقة بين شريحة واسعة من أبناء وبنات المجتمع السوري.

وعندما أدرك نظام الأسد إمكانية تقويض السيطرة المركزية المباشرة على حكمه لمناطق معينة من البلد عندما وصلت الانتفاضة الشعبية لذروتها، تقدم بدستور أدخل عليه تعديلات كثيرة في عام 2012. وعلى الرغم من أن هذا الدستور الجديد كان مجرد إجراء شكلي وتجميلي، فإنه منح إدارات المحافظات ولو بصورة إسمية سلطات موسعة تحت مسمى: "مبدأ لامركزية السلطات والمسؤوليات"، وقبل تلك التعديلات الدستورية، كان مجلس الشعب السوري قد أقر قانون الإدارة المحلية رقم 107 الذي طرح رؤية النظام للامركزية الإدارة، ولكن تلك البادرات أتت متأخرة وبدت قليلة بنظر معظم السوريين.

الأبعاد التاريخية والعملية للامركزية

تظهر أطر العمل الدستورية السابقة والتطورات التي ظهرت مؤخراً بأن هيكل الحكم اللامركزي ليس مجدياً فحسب، بل إن له أساس في سابقة تاريخية وفي الشرعية السياسية.

تعود أوائل نماذج ذلك النموذج إلى المملكة العربية السورية التي لم تدم إلا لفترة قصيرة، والتي تأسست عقب انهيار الإمبراطورية العثمانية وقبل بداية الانتداب الفرنسي. إذ في عام 1920، تبنى المجلس الوطني السوري دستوراً صادق بكل صراحة على نظام حكم لامركزي، إذ قسم هذا الدستور البلد إلى مقاطعات تتمتع باستقلال ذاتي، لكل منها برلمانه وسلطته الإدارية، كما تكفل ذلك الدستور بتمثيل الأقليات عبر نظام المحاصصة (الكوتا)، فكان محاولة جريئة لاستيعاب التنوع العرقي والديني في سوريا مع ضمان التعددية السياسية بدرجة ما، ولذلك اعتبر هذا الدستور الذي كان تقدمياً في زمانه دستوراً عصرياً منذ أن استحدث قبل أكثر من قرن من الزمان.

في مطلع عام 1920، وعندما أصبحت سوريا تحت الانتداب الفرنسي، قسمت إلى ست كيانات تتمتع باستقلال ذاتي، ثلاث منها شكلت الاتحاد السوري، ولقد أسمهت هذه السياسة الفرنسية القائمة على إقامة مناطق مستقلة ذاتياً ضمن الحدود الطائفية في زيادة التوتر بين مختلف الطوائف السورية، وبما أن طموح فرنسا كان يقوم على إبقاء سيطرتها المباشرة على سوريا، لذا سرعان ما حل محل هذا الاتحاد السوري هيكل لدولة واحدة، وهذا التحول وضع أساس نموذج الحكم شديد المركزية الذي تبنته حكومات وطنية متعاقبة، إلى أن وصل البعث إلى السلطة عبر انقلاب عام 1963.

مع تحول انتفاضة عام 2011 إلى نزاع مسلح شامل بدأت الدولة المركزية تفقد السيطرة على أجزاء من البلد، وهكذا ظهرت مجالس محلية وهياكل حكم شعبية في مناطق سيطرة الثوار ومناطق حكم الكرد، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ضرورة دفعت المجتمعات السورية إلى حكم نفسها بنفسها، أضف لذلك قدرتها على تحقيق الأمر ورغبتها فيه.

استأثرت هيئة تحرير الشام، وهي تلك الجماعة الثورية التي ترأست الهجوم الذي أسقط نظام الأسد، بالسلطة على الجيب الذي تمتع باستقلال ذاتي في شمال غربي سوريا، والذي بقي خارج سيطرة سلطة دمشق لبضع سنين. وعلى الرغم من خبرة الهيئة في ممارسة الحكم المحلي، ظهرت قيادة هيئة تحرير الشام التي تهيمن اليوم على الحكومة المركزية كأحد أشد المعارضين الصريحين للامركزية في سوريا، إذ يرى مناصرو المركزية بأن تبني هذا النموذج بسهم في تعزيز مسألة وحدة التراب السوري، وتدعيم مؤسسات الدولة، مع الحد من خطر التقسيم بحسب العرق والطائفة.

اللامركزية كمطلب كردي

يعتبر الكرد الذي يشكلون 15% من سكان سوريا من أبرز المؤيدين لفكرة اللامركزية، وقد بنوا موقفهم هذا على أساس تمسك راسخ بالنظام اللامركزي بوصفه الرد الأمثل على التهميش العرقي الذي عانوا منه على مر التاريخ كما يعتبر ذلك رداً على التحديات البنيوية الأوسع التي تعتري جسد الدولة السورية، ويؤكدون تلك الفرضية عبر الاستشهاد بفترة امتدت لأكثر من عقد من الحكم الذاتي الذي فرض بحكم الأمر الواقع في شمال شرقي سوريا.

تشكلت الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا في عام 2014، وتطورت لتصبح هيئة حكم معقدة، وأصبحت تدير اليوم نحو ثلث الأراضي السورية، ومن بينها المناطق التي كان تنظيم الدولة يسيطر عليها في السابق. وفي مقابلة أجريت منذ فترة قريبة مع أحد كبار المسؤولين الكرد في شمال شرقي سوريا، قال: "إن بقيت تجربتنا في الحكم الذاتي قائمة على الرغم من كل المصاعب خلال زمن الحرب، فإنها وبكل تأكيد تستحق أن تعمم خلال زمن السلم، ليس فقط في منطقتها، بل في بقية أنحاء سوريا".

في نيسان الماضي، اجتمعت الفصائل الكردية السورية التي كانت مقسمة على مر الأزمان لتعلن عن رؤية موحدة لحل القضية الكردية في سوريا بعد الأسد، ولذلك طالبت باللامركزية كإطار حكم ناجع، وذكر ممثلو الكرد بأن اللامركزية ضرورية ليس فقط لمنع الحكم الاستبدادي من الظهور مجدداً، بل أيضاً من أجل تعزيز المصالحة الوطنية، وعملية التوظيف العادلة، والاستقرار على المدى البعيد، بما أن هذه الأمور الثلاثة تعتبر عماد أي نظام سياسي مستدام بعد النزاع.

أبدت الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا أهمية إقامة نموذج حكم شبه ذاتي متعدد الأعراق والأديان، وذلك لأن هياكل الحكم لديها أسست لتلبي احتياجات المجتمعات المحلية بشكل فاعل، فعلى سبيل المثال، يتيح نظام الرئاسة المشتركة تمثيل المجتمعات غير الكردية على مستوى القيادة، حيث يتقاسم كل منصب حكومي رفيع رجل وامرأة، وغالباً ما ينتمي كل منهما لمجموعة عرقية مختلفة عن الآخر، وهذا ما يضمن المشاركة الجندرية والعرقية في آن معاً.

وهنالك مبادرة مهمة أخرى تمثلت في طرح سياسة اللغات الثلاث وذلك لتمكين المجتمعات في مختلف أنحاء شمال شرقي سوريا من الحصول على التعليم بلغاتها الأصلية، وهي الكردية والعربية والسريانية. إذ في المناطق ذات الغالبية العربية أو المسيحية مثلاً، يكون أساس التدريس باللغة العربية أو السريانية، وتظهر هذه التجربة من الحكم الذاتي بأنه يمكن تطبيق الحكم اللامركزي هذا على مناطق أوسع من البلد، بعد إدخال تعديلات عليه، بيد أنه لن يكتب لهذا النموذج النجاح من دون إجماع موسع عليه من سائر فئات الشعب السوري، ونظراً للظروف الحالية التي تعيشها البلد بسبب العملية الانتقالية والانقسام الحاصل، تواجه سوريا ظروفاً تجعل من قضية اللامركزية أمراً لابد من البحث فيه بوصفه أولوية وطنية.

تزايد الدعوات المطالبة باللامركزية

إن عدم وضوح الوجهة على المستوى السياسي بعد سقوط الأسد وما تلا ذلك من ظهور لقائد هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع، في دمشق، شجع عدداً متزايداً من المجتمعات على المطالبة بحكم لامركزي في مناطقها، وكان أبرز تلك المجتمعات المجتمع الدرزي الذي يشكل نحو 3% من سكان سوريا، والذي أعلن وبشكل صريح عن هذا المطلب عبر قيادته الروحية بعد أيام قليلة من رحيل الأسد.

أصبح لتلك المطالبات زخم وقوة عقب الأحداث العنيفة التي استهدفت الطائفة العلوية في آذار الماضي، وارتفع صوت تلك المطالبات أكثر في أيار الماضي بعد وقوع اشتباكات دموية بين ميليشيات درزية وفصائل تابعة للسلطات المؤقتة في جنوبي سوريا. وهذه المطالبات تعبر عن تصور يرى بأنه يمكن للحكم الذاتي المحلي أن يحمي الأقليات، بما أن معظمها بات يخشى من تنامي نفوذ القوات الإسلامية التي تهيمن على الحكومة في دمشق اليوم، والأهم من كل ذلك هو أن قضية اللامركزية لا تقتصر على حماية مصالح الأقليات في سوريا، بل إن الأغلبية العربية السورية ستكون من أكبر المستفيدين من هيكل الحكم اللامركزي الذي يعتبر وسيلة لتخفيف التوتر الداخلي الذي امتد لزمن طويل بين أبناء وبنات الشعب السوري المتنوع أيديولوجياً وثقافياً ومناطقياً.

إطار عمل متوازن

أسهمت سنوات طويلة من سوء التفاهم بين الطوائف المختلفة وانعدام الثقة بين المجتمعات السورية المتنوعة والذي تعمق كثيراً بينها، في انتشار تصور يرى بأن اللامركزية أو أي شكل من أشكال الفيدرالية يستلزم بالضرورة تفكك البلد وتقسيمه، ولقد عزز هذه السردية الرفض الصريح للمركزية الذي أبدته النخبة الدمشقية وغيرها من النخب المدينية والسواد الأعظم من الإعلام السوري، وشرائح من الشارع السوري، وقد أتى ذلك كنتاج لسنوات من الرسائل السياسية التي بثت ضد هذا الأمر. ويظهر هذا التصور بشكل واضح عندما تبدر المطالبة باللامركزية من الأقليات، وهذا ما يغذي الخوف من الانقسام بدلاً من أن يُنظر إليه على أنه دعوة لإقامة حكم جامع قائم على المشاركة.

ولكن، يمكن تبديد كل تلك المخاوف عبر تحديد آلية انتقال السلطة الإدارية والمالية والسياسية من الحكومة المركزية إلى هيئات الحكم المنتخبة محلياً، فهذا النموذج يعمل على تمكين السلطات المحلية من إدارة الخدمات العامة الأساسية، إلى جانب التخطيط الاقتصادي، وأداء وظائف الحوكمة بما يتماشى مع احتياجات المجتمع وهويته، كما ينطوي ذلك على توزيع عادل للثروات والموارد الوطنية، بما يضمن حصول كل المناطق على فرص تنموية عادلة، بصرف النظر عن خصائصها الديمغرافية والجغرافية. وفي الوقت ذاته، يمكن للحكومة المركزية في دمشق أن تضطلع بمسؤولية المهام الأساسية التي تعبر عن سيادة البلد وعلى رأسها السياسة الخارجية والمالية والدفاع.

بوسع إطار العمل المتوازن هذا أن يعزز المحاسبة على المستوى المحلي مع الحفاظ على وحدة البلد، لذا فإن المحادثات المستمرة بين دمشق وممثلي قسد والإدارة الذاتية تفتح نافذة أمام فرصة التفاوض على مستقبل الحكم الذاتي ليس فقط في شمال شرقي سوريا، بل في كامل البلد، ويمكن لتلك النقاشات أن تمهد الطريق أمام مزيد من العمل الإطاري السياسي الشامل الذي تضم رموز اللامركزية والتشارك في السلطة.

بيد أن إنشاء هيكل حكم متماسك قد يحتاج إلى إعادة تقييم للتقسيمات الإدارية القائمة في سوريا حالياً، بما أن الحرب خلفت واقعاً جديداً على المستوى السياسي وعلى الأرض في مختلف أنحاء سوريا في وقت طفت على السطح من جديد المظالم القديمة التي قُمعت منذ أمد بعيد خلال عقود حكم البعث المركزي، فعلى سبيل المثال، طالب الكرد منذ زمن طويل في شمال وشمال شرقي سوريا بالاعتراف بثقافتهم، إلى جانب الاعتراف حقوقهم اللغوية وإنهاء السياسات التي تقصيهم، كما طالبوا بمنحهم حكماً ذاتياً على المستوى السياسي. وفي الجنوب، أعربت الطائفة الدرزية عن سخطها بسبب تهميشها سياسياً وإهمالها اقتصادياً، في حين تنشد الطائفة المسيحية في عموم البلد الحرية في ممارسة شعائرها الدينية من دون أي تدخل للدولة في ذلك مع الاحتفاظ بمشاركة كاملة في السياسات الوطنية. وبالطريقة نفسها، تعرضت المناطق ذات الغالبية العربية السنية لمستويات أعلى من العنف والتدمير الذي طال بناها التحتية، ولذلك فإنها اليوم ستضغط باتجاه سيطرة محلية أكبر ومساواة في مجال إعادة الإعمار، ولذلك من الضروري معالجة تلك المظام عبر هيكل إداري شامل وجديد وذلك لضمان نشر الاستقرار على المدى البعيد مع الحفاظ على تماسك البلد.

خاتمة

بعد 14 عاماً من النزاع والتقسيم وانهيار المؤسسات، بات من الواجب التفكير بنماذج حكم بديلة تنأى بعيداً عن تركة المركزية في سوريا. فلقد قدم انهيار نظام الأسد فرصة حساسة ونادرة لإعادة تصور أسس الدولة السورية بما يضمن التمثيل الشامل مع وجود حكم يسعى للاستجابة للطلبات والطموحات على كل المستويات.

ولذلك، يجب ألا ننظر لهذه المرحلة على أنها مجرد فرصة للقيادة بل بداية لعملية بناء الدولة، وذلك لأنها تقدم فرصة لتشكيل نظام حكم يمكن من خلاله لجميع مكونات المجتمع السوري المتنوع أن تشارك بصورة فعالة في رسم ملامح مستقبل البلد.

وحتى يغدو هذا التحول ممكناً، من الضروري العودة من جديد لدراسة الإعلان الدستوري بشكل دقيق والذي أقر في آذار الماضي، بما أنه لم يتطرق للحديث عن تحديات الحكم الهيكلية التي تعترض سبيل سوريا، حتى من حيث المبدأ، فبما أن هذا الإعلان مؤقت وخرج علينا من دون إجماع وطني، لذا يرجح له أن يتحول إلى مرجع يبنى عليه الدستور النهائي الدائم، لذا من الضروري أن يعبر هذا النص التأسيسي عن مبدأ المشاركة وخاصة فيما يتصل باللامركزية إلى جانب مبدأ المشاركة في السلطة، وذلك لبناء نظام سياسي شرعي ودائم بعد النزاع. ولذلك فإن مراجعة الدساتير السابقة، وخاصة تلك التي أقرت في حقبة البعث، يمكن أن توفر أساساً مهماً لبناء هيكل سياسي مستقر وشامل وتمثيلي، إذ مثلاً، يمكن عند تبني نموذج لامركزي تتمتع فيه كل منطقة ببرلمان وحكومة بما يشبه الإطار الذي تأسس في دستور عام 1920، تقديم نهج متوازن للحكم، مع فتح المجال أمام حالة استقلال ذاتي محلية على نطاق أكبر إلى جانب الحفاظ على وحدة البلد.

وعلى دمشق أن تقاوم ضغط القوى الإقليمية، ويجب على الحكومة المؤقتة أن تؤكد بأن الحكم في سوريا مستقبلاً يعتبر مسألة متعلقة بسيادتها ولهذا لا يمكن لأحد أن يقر ذلك إلا السوريون أنفسهم عبر عملية وطنية جامعة. إذ من الضروري ألا تخضع الأولويات الداخلية لسوريا للأجندات الجيوسياسية التي تتبناها دول الجوار، وذلك من أجل إقامة تسوية سياسية شرعية في سوريا.

أما بالنسبة للولايات المتحدة، فإن الانفتاح الذي حدث مؤخراً على السلطات السورية الجديدة يجب أن يترافق مع تدخل حقيقي يعمل على مساعدة السوريين في بناء مؤسساتهم، ويجب على واشنطن أن تعطي الأولوية لنموذج الحكم اللامركزي وأن تعمل على مناصرته بوصفه جزءاً من استراتيجيتها الدبلوماسية والساعية لنشر الاستقرار. ومع مواصلة أميركا عملية رفع العقوبات، ينبغي عليها أن تستعين بنفوذها لضمان عدم النظر إلى اللامركزية على أنها السبيل الذي يفضي إلى التقسيم، بل على أنها آلية لتحقيق تمثيل عادل، ولتخفيف حدة النزاع، ولتحقيق مرونة في الدولة على المدى الطويل، ولابد لهذا النهج أن يترافق مع دعم تقني ومالي لهياكل الحكم المحلية مع تشجيع الحوار حول الدستور خلال الفترة الانتقالية. غير أن إدارة الرئيس دونالد ترمب أعربت وبكل صراحة عن كرهها لفكرة بناء الدول الأخرى، ولكن دعم الحكم اللامركزي في سوريا لا يعتبر عملية انتقالية لبناء الدولة، بل إنه استثمار استراتيجي في الاستقرار على المدى البعيد بما ينسجم مع المصالح الأساسية للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط ككل.

لذا إن كانت أمام سوريا فرصة لمنع انهيار الدولة وللمحافظة على وحدة أراضيها، فعليها أن تفكر بجدية ببناء نظام لامركزي يعبر عن التنوع العرقي والديني والطائفي في البلد ويتبناه بشكل صريح.

Loading ads...

المصدر: The New Lines Institute(link is external)

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه