ترفض القيادة في سوريا الجديدة، كما المزاجُ الشعبي العام، وعن حق، فكرةَ – أو للدقة أكذوبة ووهم – ما يُوصَف بالممر الإسرائيلي الإنساني إلى جبل العرب، كونها جدّ خطيرة مرحليًا واستراتيجيًا.
علمًا أن مصطلح "إنساني" هنا ليس سوى اسمٍ حركي لفرض الدولة العبرية نفسها لاعبًا مركزيًا ومؤثرًا في سوريا الجديدة، والتدخلِ سلبًا بطبيعة الحال في سيرورة بنائها ونهوضها، وكذلك تشجيعِ الخطط والمشاريع الانفصالية ليس فقط في الجبل، وإنما في عموم البلاد. ناهيك عن التناقض المبدئي والمنهجي الصارخ بحد ذاته بين إسرائيل والإنسانية قياسًا بممارساتها وعدوانيتها وإجرامها ودمويتها في سوريا نفسها، كما في فلسطين ولبنان والدول العربية بشكل عام.
الاحتلال بالضرورة غيرُ إنساني بحد ذاته، وبالتالي فالفكرةُ نفسها مرفوضة، إذ ما بُني على باطلٍ فهو باطل.
إذًا، طرحت إسرائيل – ولا تزال – عبر الوسيط الأميركي المبعوث إلى سوريا توم باراك، كما في اللقاءات الأمنية المباشرة مع الوفد السوري – السياسي الأمني – المفاوض، فكرةَ إقامة ما وصفته بالممر الإنساني من الجانب المحتل في هضبة الجولان إلى جبل العرب ومحافظة السويداء تحديدًا.
مبدئيًا ومنهجيًا، أولًا: فالاحتلال بالضرورة غيرُ إنساني بحد ذاته، وبالتالي فالفكرةُ نفسها مرفوضة، إذ ما بُني على باطلٍ فهو باطل. وإسرائيل التي تحتل أجزاء واسعة من هضبة الجولان بشكل غير إنساني وغير شرعي، مع فصلها القسري بالقوة القهرية الغاشمة بين العائلات السورية في الهضبة، وسعيها دون كلل لفرض الهوية الإسرائيلية – وبالتأكيد بشكل غير إنساني وغير قانوني – على المواطنين السوريين في الجانب المحتل، معتمدةً على قرار ضمٍّ أقره الكنيست عام 1980، وهو أيضًا غير شرعي وفق قرارات مجلس الأمن الدولي ومواثيق وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.
وفي السياق المبدئي المنهجي كذلك، فالتناقض صارخ بين إسرائيل والإنسانية؛ فهي لا تحتل الجولان فقط، بل استغلّت سقوط النظام السابق وسحب قوات الفرقة الخامسة لانتهاك اتفاقية فكّ الاشتباك لعام 1974 واحتلالِ المنطقة العازلة الحدودية وجبل الشيخ، ولا تتوقف عن هجماتها العدوانية والدموية ضد سوريا الجديدة ومواطنيها ومقدّراتها. وفي فلسطين نفسها، وعلى بُعد كيلومترات معدودة من الجولان والحدود، ارتكبت – ولا تزال – جرائمَ حرب وإبادة جماعية وصولًا إلى المجاعة، واستخدمت الغذاء سلاحًا ضد المواطنين العرب الفلسطينيين في قطاع غزة، مع التذكير الضروري بتأسيسها نظامَ فصلٍ عنصري في الضفة الغربية، وتمييزًا عنصريًا ضد عرب 48؛ وهي وقائع تتناقض بالضرورة وجذريًا مع الإنسانية وتجلياتها، كما مع الشرعية والقوانين والقرارات الدولية ذات الصلة.
أما فيما يخصّ الفكرةَ الخبيثة نفسها وحيثياتِها وتفاصيلَها، فهي مستحيلة من الزاوية السياسية والجغرافية والجيوسياسية؛ إذ تلحظ إقامة ممرٍّ من الجولان المحتل مرورًا بمحافظات القنيطرة ودرعا وريف دمشق إلى جبل العرب، في ظلّ الرفض الرسمي والشعبي، والصعوباتِ والعوائقِ الأمنية واللوجستية والفنية، وصعوبةِ – بل استحالةِ – إقامة ممرٍّ يمتد عشرات الكيلومترات بمواجهة الرفض الرسمي، وكذلك من البيئة الشعبية في المحافظات المعنية.
لا جدال في أن الرفضَ الرسميَّ والشعبيَّ في سوريا الجديدة مبرَّرٌ تاريخيًا وسياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وقبل ذلك وطنيًا واستراتيجيًا.
سيخلق الممر، في جانبٍ منه، شكلًا من الوصاية الإسرائيلية، وسيمثّل احتلالًا موصوفًا، ولو بذرائع إنسانية. ومن هنا، تاريخيًا، يُشبه التجارب سيّئة الصيت والفاشلة لتدخّل الغزاة تحت ذرائع مماثلة، كما حصل في الصومال مثلًا مطلع تسعينيات القرن الماضي، ومصيرُها الفشلُ الحتمي.
إلى ذلك، ومن الناحية السياسية والأمنية، سيكرّس الممرّ السطوةَ والتأثيرَ والنفوذَ الإسرائيلي في سوريا الجديدة بشكل عام، وكذلك تجاه المواطنين العرب السوريين الدروز في جبل العرب، حتى مع تعرّض إخوانهم للتمييز العنصري في أراضي 48، والفصلِ العنصري في الضفة، والقتلِ والإبادة في غزة. إذ يفرض الممرّ الإنساني المزعوم واقعًا يربطهم بإسرائيل حتى من دون كيان مستقلّ وانفصالٍ رسمي، ويخلقُ واقعَ حكمٍ ذاتيّ ما. مع الإشارة إلى أن إسرائيل تتعاطى مع الدروز من عرب 48 بشكل تمييزي، باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية وخدمًا للمشروع الصهيوني الاستعماري في فلسطين؛ وهو ما ينطبق حتمًا على تعاملهم مع الدروز في سوريا.
إضافةً إلى ما سبق، سيخلق الممرّ قوةً دافعةً للنزعات الانفصالية ليس فقط في الجبل، وإنما في باقي المحافظات، ومع الوقت سيخلق كيانًا مرتبطًا بإسرائيل، ما يُشجّع الأفكارَ والخططَ والمشاريعَ الانفصالية في سوريا الجديدة، بعدما اضطرت الدولة العبرية – وتحت ضغوط أمريكية ومظلّة حماية عربية وتركية وأوروبية ودولية – إلى التوقّف، أقله علنًا، عن خطابها الانفصالي والدعوةِ إلى تقسيم سوريا إلى أربعة أو خمسة كيانات تحت وصاية دولية بذريعة حماية الأقليات.
بناءً على المعطيات السابقة، فلا جدال في أن الرفضَ الرسميَّ والشعبيَّ في سوريا الجديدة مبرَّرٌ تاريخيًا وسياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وقبل ذلك وطنيًا واستراتيجيًا. ولا حقَّ لإسرائيل في التحدّث عن الإنسانية وهي التي تستخدم الغذاء سلاحًا أوصل غزة إلى المجاعة فعلًا – كما تقول الأمم المتحدة – كما لا يحقّ لها أخلاقيًا وسياسيًا ادّعاءُ امتلاكها الحقَّ في التحوّل إلى لاعبٍ مركزي ومؤثر في سوريا الجديدة ومستقبلها.
تكمن الشرعية – ولا تزال – في الداخل والشعب، بعقلِه الجمعي الذي كان ولا يزال مستودعَها وخزانَها، مع ضرورة مواصلة الدولة القيام بواجباتها تجاه جبل العرب ومواطنيه,
وبالعموم، فلا شكّ في حتمية إجهاض المشاريع الانفصالية، بما فيها الممرّ الإسرائيلي غير الإنساني، مع التذكير بحقيقة أن الممرّ الطبيعي والتاريخي والوطني والاستراتيجي لجبل العرب هو مع دمشق. ومن هنا فالمسؤوليةُ مُلقاة – ومضاعفة – على عاتق القيادة في سوريا الجديدة، المدعومةِ شعبيًا على نطاق واسع وعميق وجدّي، لرفض الممرّ والتنبهِ للمخططات الإسرائيلية الخبيثة، والسعيِ الجاد والعنيد والحكيم لإجهاضها، مع الانتباه إلى رفع تل أبيب السقف تجاه القيادة السورية عبر فكرة الممر غير الإنساني وممارساتٍ أخرى لِلفت الانتباه عن انتهاكها الفظّ لاتفاق 1974، وعن احتلالها للجولان. وببساطة: من يتحدّث أو يتشدّق بممرٍّ إنساني لا يتوسّع في المنطقة العازلة وجبل الشيخ ويماطل في العودة إلى اتفاق 1974، بعدما كان يرفض حتى مجرد مناقشة الأمر قبل أن يقبل بذلك تحت ضغط عربي ودولي.
إذًا، وباختصار، فأكذوبةُ الممرّ الإنساني مجردُ ابتزازٍ للقيادة السورية، ناهيك عن أنه مرفوض وطنيًا وعربيًا ودوليًا، وحتى أمريكيًا؛ إذ لا تتبنّى واشنطن الخطة وتعتبرها مستحيلة، ومن هذه الزاوية فقد وُلدت ميتةً لأجل تبييض صفحة إسرائيل واستمرارِ إغراء بعض المواطنين للتعلّق بها، مع التذكير بأن المستترَ بها عاريًا أيضًا، كما رأينا في تجارب أنطوان لحد في لبنان وروابطِ القرى في فلسطين، وحتى نظامِ بشار الأسد نفسه الذي ظنّ أن دعم تل أبيب والغزاة الأجانب سيحميه من الثورة والغضب السوري.
وبالعموم، تكمن الشرعية – ولا تزال – في الداخل والشعب، بعقلِه الجمعي الذي كان ولا يزال مستودعَها وخزانَها، مع ضرورة مواصلة الدولة القيام بواجباتها تجاه جبل العرب ومواطنيه، واتباعِ سياسة الصبر والنَّفَس الطويل، ووضعِ خارطةِ طريق وطنية وواقعية وقابلةٍ للتطبيق ومدعومةٍ عربيًا وإقليميًا ودوليًا، والثقةِ – بل القناعة الراسخة – بحتمية إجهاض المشاريع والخطط، بل الأوهام الانفصالية، أمام حقائق الوحدة التاريخية الراسخة؛ وهي موضوع القراءة القادمة بإذن الله.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
اقرأ أيضاً