لم تُظهر الاشتباكات التي جرت في حلب بين القوات الحكومية وقوات قسد جديداً على مستوى الأزمة بين الطرفين أو عمق الخلاف ومحدودية إمكانية الاتفاق خلال ما تبقى من المهلة الزمنية حتى مطلع العام المقبل. لكنها أظهرت تبدّل موازين القوة السياسية، وحشر قسد في خيارات ذات مستوى سياسي منخفض.
فقد اعتادت قسد أن تكون الذراع الأميركية على الأرض، بتمويل كبير وتنسيق أمني عالي المستوى، مقابل عزلة الحكومة المركزية وتبعيتها لقوى منافسة ومعادية للولايات المتحدة وإسرائيل. ورغم صدامها المتكرر مع الجانب التركي، إلا أنها ظلّت تحت حماية أميركية غير قابلة للمساس.
خلال الاشتباكات قبل يومين في حلب، وعلى مستوى الخطاب، تحدثت دمشق كحكومة مركزية شرعية، تدير مفاوضات مع فصيل هو أقرب إلى ميليشيا بهدف الانضواء تحت جناح الحكومة الشرعية. وأظهرت دمشق خطاباً رسمياً موحداً، مقابل تعدّد وتضارب الروايات من مختلف الجهات في قسد.
من الضروري ألا نأخذ كل التصريحات الأمريكية بشأن قسد على محمل الجدّ. ومن الضروري أيضاً أن نفهم الرغبة الأمريكية بالاحتفاظ بورقة قسد، وعدم تقديم هدايا أخرى لدمشق بعد رفع عقوبات قيصر، إلى ما بعد اختبار الـ "نوايا".
على المستوى العسكري، شهدت حلب تدخل وحدات من الجيش السوري النظامي، بعد أن كانت المناوشات في السابق تقتصر على الوحدات الأمنية، ثم يتم التدخّل على المستوى السياسي وتهدئة الأوضاع. اشتباكات حلب شهدت تصعيداً كبيراً شمل استخدام أسلحة ثقيلة أرسلت دمشق من خلالها رسالة محددة وواضحة فيما يتعلق بقواعد المواجهة. لا شك أن دمشق لا تريد ولا تستطيع مواجهة قسد عسكرياً في الوقت الراهن، لكن قسد تعرف تماماً أن هذا التصعيد يعني أن القرار سيخرج من يد دمشق وينتقل إلى تركيا، حيث تشكّل قسد قضية أمن قومي لأنقرة. ومن الواضح من تصريحات دمشق أنها تحاول الإيحاء بأنها تسعى لضبط التوتر التركي، وتريد بالمقابل من قسد خطوات مقابلة حتى لا تنفجر الأمور.
اللافت أن الإدارة الأميركية، وإن كانت لم تُظهر أي علامات على التخلي تماماً عن قسد، لكنها راضية عما تفعله دمشق. انضمام دمشق الرسمي إلى التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، والتنسيق والعمليات المشتركة بين الوحدات الأميركية والأمنية السورية، وتجاوز الإدارة الأميركية عن عملية داعش وعدم اتهامها دمشق بالتقصير، دفع قسد لإعادة حساباتها. فلم تعد الشريك الحصري في المنطقة، بل هناك حكومة مركزية وواشنطن تنسق معها، وترفع المستوى تدريجياً، وتطالب قسد بـ "الالتحاق" بدمشق.
من الضروري ألا نأخذ كل التصريحات الأميركية بشأن قسد على محمل الجدّ. ومن الضروري أيضاً أن نفهم الرغبة الأميركية بالاحتفاظ بورقة قسد، وعدم تقديم هدايا أخرى لدمشق بعد رفع عقوبات قيصر، إلى ما بعد اختبار الـ "نوايا". ولكن هذا بالضبط ما تعرفه قسد بمختلف قياداتها السورية والقنديلية، أنه تمّ تثبيت وضع قسد كورقة، بينما أصبحت دمشق الحكومة الشرعية القابلة للتطور.
خلال الأسبوع الحالي، تكثفت الضغوط على قسد للدخول في اتفاق مع دمشق. أنقرة تضغط من جهة، وواشنطن لا تقدم ضمانات صلبة من جهة أخرى، فيما تدرك قيادة قسد أن رفض الاتفاق بشكل علني قد يعرّض ما تبقى من المظلة الأميركية للتآكل أو حتى المساومة عليها أمام أنقرة كما حدث سابقاً. بين هذه العوامل، اختارت قسد استراتيجية المماطلة: لا قبول واضح، ولا رفض صريح، ومحاولة إبقاء الملف معلقاً أطول فترة ممكنة.
لكن هذه المماطلة لا تبدو مفيدة في لحظة لم يعد فيها الوقت يعمل لصالح قسد. فالتأجيل هنا لا يراكم قوة تفاوضية، بل يستهلك الرصيد المتبقي منها. والأهم أن هذا السلوك يكشف عن ارتباك داخلي في بنية القرار السياسي لقسد، أكثر مما يعكس خطة متماسكة.
التصريحات الصادرة عن قسد خلال الأيام الماضية، ولا سيما تلك التي أعقبت الاشتباكات التي جرت في حلب، جاءت متناقضة وغير واضحة. بعضها يوحي بالتصعيد، وبعضها الآخر يميل إلى التهدئة، من دون أن ينجح أي منها في تقديم سردية سياسية متماسكة. هذا التناقض لا يمكن فصله عن وجود أكثر من جناح داخل قسد، لكل منهما قراءة مختلفة للمشهد وحدود المخاطرة.
يمكن القول إن أحد الأجنحة يرى في أي تسوية مع دمشق تهديداً مباشراً لمشروع الإدارة الذاتية، بينما يرى جناح آخر أن استمرار المماطلة قد يؤدي إلى خسارة أكبر، تتمثل في فقدان الغطاء الأميركي وفتح الباب أمام تدخلات تركية أوسع. هذا الصراع الداخلي لا يُدار بشكل معلن، لكنه ينعكس بوضوح في السلوك السياسي والعسكري، وفي غياب خطاب موحد قادر على ضبط إيقاع التعامل مع دمشق وأنقرة وواشنطن كما في السابق.
يظهر الموقف السياسي لدمشق أكثر وضوحاً وثباتاً. يمكن ملاحظة أن دمشق تتعامل مع الوقت بوصفه عنصراً يعمل لصالحها. خطابها ثابت، شروطها معروفة، ولا تبدي استعجالاً في حسم الملف.
في هذا الإطار، يمكن فهم محاولات جرّ دمشق إلى اشتباك محدود، أو على الأقل رفع مستوى التوتر الأمني، يهدف إلى خلق واقع ميداني معقّد يسمح بتأجيل الاستحقاق التفاوضي، أو تعديل شروطه، أو إعادة جذب الانتباه الأميركي إلى الملف. غير أن هذه المقاربة تنطوي على مخاطر عالية، لأنها تفترض أن التصعيد سيبقى مضبوطاً، وأن الأطراف الأخرى ستلعب وفق الإيقاع نفسه.
في المقابل، يظهر الموقف السياسي لدمشق أكثر وضوحاً وثباتاً. يمكن ملاحظة أن دمشق تتعامل مع الوقت بوصفه عنصراً يعمل لصالحها. خطابها ثابت، شروطها معروفة، ولا تبدي استعجالاً في حسم الملف. هذا الثبات لا يعني بالضرورة قوة مطلقة، لكنه يعكس قدرة على الانتظار في مقابل طرف يشعر بأن التأخير بات عبئاً.
أما واشنطن، فهي تمارس دوراً رمادياً محسوباً. لا انسحاب معلن، ولا التزام طويل الأمد، ولا ضغط حاسم باتجاه تسوية سريعة. هذا الغموض، الذي كان في مراحل سابقة عنصر طمأنة لقسد، بات اليوم مصدر قلق. فالمظلة الأميركية، في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية، لم تعد ضمانة ثابتة، بل خاضعة للتغير والتبدّل بل والتخلّي في أي لحظة.
لا تبدو الأزمة التي تعيشها قوات سوريا الديمقراطية اليوم أزمة قرار بين مختلف قياداتها وتضارب مشاريعهم، بقدر ما تبدو أزمة بنيوية في طبيعة الدور الذي تؤدّيه، وتقلّص أهميتها أمام متطلبات الإرادة الأميركية ومصالحها. فالمشكلة الأساسية لم تعد تتعلق بما تريد قسد تحقيقه، ولا حتى بما تستطيع تحقيقه، بل بما تبقّى لها من وقت قبل أن تُفرض عليها الوقائع الجديدة من دون أن تكون طرفاً في صناعتها.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه




