“الولد الشقي”.. محطات في حياة الكاتب المتمرد محمود السعدني

“لو قدر لي أن أعود من جديد لاخترت نفس الحكاية، ولفعلت نفس الأشياء التي فعلتها سابقا، ولرضيت بنفس المعيشة التي عشتها. لقد كانت رحلة جميلة في معترك الحياة بحلوها ومرها”.قالها محمود السعدني وهو يبتسم ساخرا، وينفث دخان سيجارة تضطرب بين أصابعه المرتعشة، التي لطالما أقضّ يراعُها مضاجعَ الزعماء وتجّار السياسة.فيلم “الولد الشقي” الذي يروي قصة الكاتب محمود السعدني على منصة “الجزيرة 360”أحب هذ المغامر رحلته بكل أخطائها وإنجازاتها، ولم يندم قط على كلمة كتبها ولا موقف اتخذه، وهو موضوع الفيلم الشائق الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية، وعرضته على منصاتها بعنوان “الولد الشقي”، واستضافت فيه ثلة من الصحفيين والكُتاب وأرباب القلم، ممن عاصروا محمود السعدني، وسجلوا شهاداتهم على محطات مفصلية في حياته.اقرأ أيضا list of 4 itemslist 1 of 4أمل دنقل.. مسيرة شاعر حمل كفاح الأمةlist 2 of 4“بيرم التونسي”.. متمرد يزرع الثورة والشعر والفن بين الأوطان والمنافيlist 3 of 4ناجي العلي.. رسام فلسطين الذي دفع حياته ثمنا لفنّهlist 4 of 4“عبد الوهاب المسيري”.. صاحب الشعلة الاشتراكية والقلم الإسلامي وكاتب موسوعة الصهيونيةend of listطفولة شقية.. بين الهرب من المدرسة ورجم جنود الاحتلالولد محمود السعدني سنة 1927، وترعرع في أسرة فقيرة بين 5 بنات وابنين، وذكر حفيده أكرم البزاوي أنهم سكنوا في حارة سمكة بالجيزة، وأنه أخذ سلاطة اللسان من أمه، وروح الدعابة من أبيه.وقال عنه ابن أخته مصطفى عفيفي إنه أخذ شخصيته الساخرة القوية من أمه البسيطة الأمية، التي زرعت في بنيها حب الثقافة وروح السخرية.الجيزة.. مسقط رأس محمود السعدنيومثل معظم الأسر المصرية التي لا يستطيع آباؤها أن يورّثوا لأبنائهم مالا ولا عقارا، فقد دفع السعدني أبناءه باتجاه التعليم، لكن ابنه محمود كره التعليم، لدرجة أنه كان يتمنى أثناء الحرب العالمية الثانية أن تنزل على مدرسته قنبلة تدمرها، على حد تعبير الكاتب كريم الشاذلي.مال السعدني للمطالعة الذاتية عوضا عن التعليم، وأصبح شغوفا بقراءة ما يقع بين يديه، حتى الكتب الكبيرة. يقول: ذهبت لمدارس كان كل همها تعذيب تلاميذها، وفي آخر الأمر تخرجوا منها “بلطجية وحرامية.وقد عاش طفولة اجتمعت فيها كل التناقضات، وانعكست عليه تمرده نفسيا وجسديا.من ضيوف الفيلمكان هو وصديق طفولته -رسام الكاريكاتير أحمد طوغان- يرميان جنود الاحتلال البريطاني بالحجارة، ويتخذان جدران الجيزة جريدة يومية، فيرسم طوغان ويكتب السعدني عبارات مناهضة للاحتلال.وذات يوم أطبق الإنجليز بفكي كماشة على الصبيّين، فاستطاع طوغان الهرب، واضطر السعدني لإلقاء نفسه من فوق الجسر، فكسر إصبع قدمه بإصابة لازمته حتى الكبر.اشترك فيالنشرة البريديةاشترك في النشرة البريدية وتابع أحدث أفلامنا الوثائقية“سبع صنايع والبخت ضايع”عندما كبر محمود السعدني لازمته “الشقاوة” في كتاباته الصحفية، كما وصفه مجدي الدقاق، رئيس تحرير “الهلال” سابقا. وقد درس في المعهد الثانوي، ولما أسس مدير المعهد صحيفة “نداء الوطن”، كتب فيها السعدني أول مقال له منتقدا حي الزمالك، معسكر الأثرياء والأجانب، الذي لا تكاد تجد فيه لافتة باللغة العربية، ويكون ابن البلد فيه معرضا للاعتقال، بحسب الباحث شهدي عطية.حي الزمالك الأرستقراطي.. أول اشتباك مع حكومة الملكانحاز السعدني لفئة البسطاء، وبدأ الكتابة الصحفية والبلد في أسوأ أزمنتها أثناء الحرب العالمية الثانية. وكانت الصحف تعاني من أزمات متعددة، فمنها صحف حزبية، وأخرى مَلَكية، وثالثة تمالئ الاحتلال، ومجلات قصيرة العمر، تعيش على المساحة الإعلانية وابتزاز الشخصيات، على حد وصف الصحفي سيد محمود.ترك السعدني هذه الأجواء الملوثة، وعمل في هيئة المساحة، وبسبب شخصيته الساخرة طُرد من العمل، فرجع إلى الصحافة. وأسس مع صديقه طوغان مجلة فسُرقت، وكانا ضحية للنصب والاحتيال عدة مرات، من رجال أعمال أرادوا الاستثمار في الصحافة، كما ذكر وليد طوغان، رئيس تحرير “صباح الخير”.من ضيوف الفيلمأصيب السعدني بالإحباط لضياع تعبه، فأخذه طوغان إلى “قهوة عبد الله”، وقدمه إلى زكريا الحجاوي، وهو كاتب في جريدة “المصري”، وله كتب مطبوعة. ومن خلاله تعرف إلى الفنون الشعبية المصرية، ودخل بيوت المصريين الحقيقية.قهوة عبد الله.. انطلاقة الصحفي الساخرفي قهوة عبد الله، تعرف إلى شخصيات شعبية تشبهه، منهم أنور المعداوي، وسمير سرحان، وعبد الرحمن الخميسي، ورجاء النقاش، ويوسف إدريس، ونزار قباني، ولويس عوض، وألفرِد فرج، وكامل زهيري، وعبد الرحمن الأبنودي، وصلاح عبد الصبور.وفيها التقى مأمون الشناوي، وهو صحفي ساخر كان يؤسس مجلة “كلمة ونص”، وكانت أول فرصة حقيقية له.قهوة عبد الله.. الانطلاقة الحقيقية للسعدنيكتب محمود للفقراء، ورفض سخرية الأثرياء من البسطاء، وسخر قلمه ضد الاحتلال الإنجليزي، وقد عمل تحقيقا صحفيا مهما مع أسر شهداء حرب فلسطين 1948، وعمل تقريرا صحفيا عن “القنال” وتمركز قوات الاحتلال فيه، وكان عرضة بعدها لأخطار كثيرة.وقد قال عن تلك المجلة: كانت بمثابة مدفع رشاش، كل سطر فيها رصاصة، كتبت فيها كلاما لو كتبته اليوم لسجنت 50 عاما.حرب فلسطين 1948.. أهم تقرير صحفي لمحمود السعدنيوقد قدمته هذه الأعمال إلى الصف الأول المقاوِم في الصحافة المصرية، وكان من الذين دعموا “ثورة يوليو 52″، وبعد الثورة ابتسمت له الحياة، فعمل في جريدة “الجمهورية”، التي ترأس تحريرها أنور السادات، وكان زكريا الحجاوي سكرتيرا للتحرير، وتسلم السعدني ملف الشؤون العربية، فأتيح له السفر لحضور مؤتمرات وعقد لقاءات مع شخصيات عربية وعالمية مهمة.وفي سوريا التقى أعضاء من الحزب الشيوعي العراقي، وطلبوا منه نقل رسالة إلى جمال عبد الناصر، عدو الحزب اللدود. فذهب لصديقه طوغان وأخبره بالرسالة القنبلة وحيرته في توصيلها، فنصحه بعدم نقلها للرئيس، فذهب إلى أنور السادات، فأخذها منه وسلمها للرئيس، وكان محتواها هجوما شديدا عليه.عبد الناصر يوقع اتفاقية الوحدة بين مصر وسورياكانت هذه الرسالة مصيدة سياسية محكمة، وعده السادات من الأفراد المناوئين لعبد الناصر، ففصله من “الجمهورية”، ولقي كثيرا من المشاكل، وعانى من الحاجة وضيق ذات اليد، حتى اتصل به إحسان عبد القدوس، رئيس تحرير “روز اليوسف” آنذاك.الحبس بلا تهمةوفي 1959، عندما صفّى عبد الناصر حساباته مع الشيوعيين، واعتقل كثيرا منهم، كان محمود السعدني أحد هؤلاء، مع أنه لم يكن من أعضاء الحزب ولا تنظيمات أخرى، وتنقل سنتين بين سجون القلعة والفيوم والواحات، في ظروف في غاية القسوة.وفي سجنه كتب كتابين، أحدهما “الولد الشقي في السجن”، يدور حول شخصيات لقيها في السجن، والثاني “الطريق إلى زمش”، وهو عن تجربته في السجن، وعن الأحزاب والتنظيمات، وعلاقة الإخوان بالشيوعيين وعلاقة الشيوعيين ببعضهم، وتناقضهم مع شعاراتهم.كلمة “زمش” هذه التي وردت في العنوان هي اختصار “زي منتا شايف”، وهي سخرية لاذعة من الأسماء التي كان الشيوعيون يطلقونها على تنظيماتهم.كتابان ألفهما السعدني في السجنبعد خروجه من السجن، وجد أن أهله قد تركوا البيت الذي كانوا يسكنونه بسبب الفقر، وابنته هالة أصيبت بمرض شديد أقعدها عن المشي، فأصبح شغله الشاغل علاجها، وكتب مقالة ساخرة بعنوان “عبقري للبيع”، قال فيها إنه مستعد لبيع نفسه لعلاج ابنته، ثم عاد إلى “روز اليوسف” في حلقة جديدة من حياته.اشتباكات مع المثقفين وانحياز للمهمشينفي الستينيات، لمع نجم محمود السعدني في مجلة “صباح الخير”، التي تصدر عن “روز اليوسف”، واشتهرت مقالاته، وتعرف إلى كثير من الشخصيات الصحفية والفنية.وقد كتب فيها بعدة أبواب، منها “ليس إلا” و”هذا الرجل”، وخاض معارك صحفية مع كثيرين، منهم ماجدة الصباحي، وكان يشتبك بسخرية مع من يخالفونه، مما عرضه لكثير من المضايقات والدعاوى القضائية.ثم هاجم “الأدب النسائي” بشدة، واشتبك مع نجيبة العسال في أكثر من مناسبة، وكان شعاره: لا يوجد أدب نساء وأدب رجال، إما أدب أو قلة أدب.وكانت كتاباته تصل إلى القارئ البسيط، قبل أن تصل إلى الطبقة المثقفة، واخترع ألفاظا لم يقلها أحد قبله، منها “الكاتب الحنجوري” أو الظاهرة الصوتية، وكان يسمي نفسه “الكاتب الحبقري”، فمزج كلمتَي “حمار” كما وصفه أستاذه، و”عبقري” كما وصف نفسه.بعض مقالات محمود السعدنيوكان “كاتب الحارة” والمقاهي الشعبية وكون لنفسه حارة لا تقل زخما عن حارات نجيب محفوظ، وسخر من توفيق الحكيم وكتاباته الفلسفية، التي لا يدركها البسطاء.وكانت بداياته القصصية عن الفلاحين وعمال اليومية وعالم الأضرحة والأولياء، وانحاز فيها إلى المرأة البسيطة التي تقع ضحية للقهر والابتزاز. ثم قدم بعض الأعمال المسرحية، منها “النصابين” و”بين النهدين” و”البولوبيف”.صعود السادات.. فترة التضييق والنفيكانت وفاة عبد الناصر مفاجئة للجميع، وأثار صعود السادات المفاجئ حفيظة كثير من رفاق عبد الناصر، وكان محمود السعدني يومئذ قد وصل إلى رئاسة تحرير “صباح الخير”.وبعد أشهر فقط، جرت محاكمات مراكز القوى، وأطاح السادات بخصومه السياسيين والصحفيين، وكان السعدني -كالعادة- أحد هؤلاء، وذلك بسبب نكتة قالها عن السادات، حبس على أثرها سنتين.السادات.. تصفية الخصوم السياسيين والصحفيينوكان في حبسه عقاب شديد لأخيه الممثل صلاح السعدني ولعائلته عامة، وبعد خروجه من السجن منع من العمل في الصحافة والكتابة والظهور في أماكن عامة، فاضطر للعمل مدة في شركة المقاولين العرب، لاستكمال علاج ابنته.ثم اضطر لمغادرة مصر، وفي المنفى رفض أن يكون لاجئا سياسيا أو بوقا للأجنبي، وحاول العمل في الصحافة، لكنه لم يستقر في وظيفة بسبب مقالاته اللاذعة.كتب لصحيفة “السفير” في بيروت، وبضغط من السادات ترك بيروت واتجه إلى أبو ظبي، وأسس جريدة “الفجر” التي أحدثت ضجة كبيرة، وفجرت أزمة سياسية بين الإمارات وإيران، وبضغط من إيران ترك أبو ظبي ورحل إلى الكويت، وعمل في “السياسة” مع أحمد الجار الله، ولأنه كان لا يقبل الوصاية في كتاباته، فقد خرج من الكويت إلى العراق، وهناك جمع شمل أسرته.محمود السعدني وشقيقه الممثل صلاح السعدنيفي هذه الآونة، وقع تطور إقليمي كبير بتوقيع معاهدة “كامب ديفيد”، التي أثارت غضب العرب وكثير من المصريين، لكنه رفض معارضة النظام المصري من الخارج، ورفض الاشتباك مع الوطن، وهذا ما أغضب صدام حسين، فخرج على أثر ذلك من العراق، وتوجه إلى لندن.اغتيال السادات والعودة من المنفىأسس محمود السعدني في لندن مجلة “23 يوليو”، التي لا تحتملها أي دولة عربية، وكتب فيها كتاب منفيون ممنوعون من الكتابة، منهم حسن حنفي، ومحمود نور الدين، وصلاح عيسى.وكانت مليئة بالكاريكاتيرات والآراء الساخرة، ولا سيما ضد السادات، حتى أصبحت ملء السمع والبصر في كثير من الدول العربية وأوروبا، ومنعت في ليبيا ومصر، ولكن الناس كانوا يتداولونها سرا. ثم توقفت لضعف التمويل.بعض كتب السعدنيوفي 1981 اغتيل السادات، فبكى السعدني بكاء شديدا، حزنا على صديق قديم، بغض النظر عما بينهما من خصومة، وفرحا لأنه سيعود لمصر، وأعلن حينها انتهاء خصومته مع السادات، وتحدث بعدها عنه بإنسانية شديدة، “كان السعدني فارسا في الخصومة، أغمد سيفه بمجرد موت خصمه”.قال عنه صديقه حمدي حمادة: عاد إلى مصر واستعاد ذكرياته وصداقاته، وتهلل الوسط الصحفي بعودته من جديد، وأصبح عمدة المثقفين من جديد، وأعاد فكرة “قهوة عبد الله” بأسلوب حديث أسماه “الخيمة السعدنية”، جمع في ظلالها طيفا واسعا من شخصيات مصر الثقافية والفنية والرياضية، منهم حسنين هيكل، وعادل إمام، وحسن شحاتة، وغيرهم الكثير.بعض شخصيات الخيمة السعدنيةوكتب في “الأهرام” و”الأخبار” و”روز اليوسف” و”المصور”، وسطعت مقالاته وأعمدته سطوعا مبهرا، وكتب مقالات مهمة عن المنفى، وكتب كثيرا عن الذين يريدون “رمي إسرائيل في البحر” وهم يتواصلون معها سرا، وأصحاب الشعارات الذين يتكسبون من ورائها. وكتب عن أمراض المجتمعات العربية التي لن تنهض قبل التخلص منها.النهاية.. آن للولد “الشقي” أن يغمِد قلمهكتب محمود السعدني سيرته الذاتية، وتحدث فيها عن الجيزة أكثر مما تحدث عن نفسه، وقال: استفدت من فترة السجن كما فترة المنفى، لكنني لم أشعر بمرارة قط كتلك التي عشتها خارج مصر.وأصدر كتاب “مصر من تاني”، وهو من أجمل ما كتب في تاريخ مصر، لا من خلال زعمائها وملوكها، بل من خلال شعبها البسيط والمهمشين فيها، وفضح تواطؤ الكتاب والمثقفين مع الزعماء والحكام.احتلال العراق.. يوم أغمد السعدني قلمهوأثناء احتلال العراق عام 2003، أصيب بحالة من الصدمة، وعاش حالة من الصمت الرهيب، ثم مرض مرضا شديدا، وأصابته جلطات متتالية، فنصحه المقربون أن يسافر للخارج للعلاج، فقال لهم “أنا عاوز أموت في مصر”، وبقي في مصر حتى وفاته في 4 مايو/ أيار 2010.رحل محمود السعدني بجسده، وترك إرثا عظيما من المقالات والكتب والقصص والمسرحيات، رحل سعيدا راضيا بكمية الحب التي نالها ممن كتب لهم وعنهم.لم يندم على شيء كتبه أو قاله أو عمله في حياته، وكان تأبينه من كافة شرائح المجتمع المصري بمنزلة استفتاء على مكانة هذا الرجل في قلوب المصريين.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
اقرأ أيضاً

الإعلان عن ملاعب نهائيات دوري أبطال آسيا للنخبة
منذ ثانية واحدة



