منذ تأسيسها، سعت إسرائيل إلى تكريس مكانتها كقوة مهيمنة في الشرق الأوسط، لا تكتفي بمجرد حماية حدودها، بل تتجاوزها إلى التحكم بمسار الأحداث في الإقليم بأسره.
المنطق الذي يحكم سلوكها مؤخراً هو ما يمكن تسميته بـ"أمن العقاب"، أي أن أي طرف، دولة كان أو جماعة، يحاول تهديد إسرائيل أو حتى احتضان قوة قد تتحول إلى تهديد مستقبلي، فإنه سيُعاقب فوراً وبلا تردد. هذا المبدأ جعل من إسرائيل دولة تتحرك بسرعة وفق المتغيرات، ولا تؤسس سياستها على تفاهمات استراتيجية طويلة الأمد، بقدر ما تبنيها على الردع اللحظي والرسائل الصارمة، من دون الالتفات إلى القانون الدولي واحترام سيادة الدول، وغير مكترثة بعواقب اعتداءاتها المستمرة.
من قطر إلى المعادلة الإقليمية
الضربة الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت قطر تحت ذريعة ضرب "حماس" لا يمكن قراءتها فقط في بعدها العسكري المباشر، بل تحمل رسالة سياسية واضحة مفادها أن إسرائيل مستعدة لتوسيع نطاق ردعها إلى خارج حدودها التقليدية، وأن أي دولة تسمح لقوى مقاومة أو معارضة بالعمل من أراضيها ستصبح جزءاً من دائرة الاستهداف. بكلمات أخرى: لم يعد الخطر المباشر شرطاً للضربة الإسرائيلية، بل يكفي وجود احتمال لتهديد سياسي أو عسكري حتى تتحرك.
هذه الرسالة ليست موجهة إلى قطر وحدها، بل هي موجهة إلى دول المنطقة جميعاً: إسرائيل ترى نفسها صاحبة اليد العليا، وقادرة على معاقبة أي طرف يتجاوز الخطوط الحمراء التي ترسمها هي، لا المجتمع الدولي ولا التوازنات الإقليمية.
إسرائيل تدرك جيداً أن سوريا إذا استعادت جيشها وبنت مؤسساتها على أسس متماسكة، فستتحول إلى رقم صعب في معادلات المنطقة.
سوريا.. الساحة الأكثر وضوحاً
يتجلى هذا السلوك بشكل أوضح في الساحة السورية. فمنذ أن بدأ اسم الرئيس السوري أحمد الشرع يتصدر المشهد السياسي، بدا واضحاً أن التوازنات الإقليمية تتجه نحو مرحلة جديدة. إسرائيل، التي ترى في سوريا تاريخياً خطراً استراتيجياً على حدودها، لم تكن يوماً راغبة في وجود دولة سورية قوية قادرة على إعادة بناء جيشها وصياغة تحالفاتها الإقليمية بشكل مستقل.
الضربات المتكررة التي تشنها إسرائيل على الأراضي السورية لم تعد مجرد عمليات عسكرية محدودة كما كانت سابقاً تستهدف شحنات أسلحة أو قواعد إيرانية، بل تحولت إلى أداة سياسية تحمل رسائل متعددة: أولاً، أن أي تغيير سياسي أو عسكري في سوريا لا يمكن أن يتم من دون حسابات إسرائيل الأمنية. وثانياً، أن إسرائيل ستظل الحاجز أمام أي محاولة لإعادة بناء سوريا قوية، سواء بدعم عربي أو تركي.
إسرائيل تدرك جيداً أن سوريا إذا استعادت جيشها وبنت مؤسساتها على أسس متماسكة، فستتحول إلى رقم صعب في معادلات المنطقة. ولهذا فهي تسعى إلى إبقاء الدولة السورية في حالة إنهاك دائم، بين ضربات عسكرية متواصلة وضغوط سياسية مستمرة.
تركيا وإسرائيل: صدام غير مباشر على الأرض السورية
تنظر تركيا إلى الملف السوري باعتباره جزءاً أساسياً من أمنها القومي. فهي تسعى إلى دعم القيادة الجديدة برئاسة أحمد الشرع من أجل خلق نظام سياسي يوازن بين إبعاد إيران والانفتاح على الشراكات الاقتصادية والاستثمارية الإقليمية العربية، مع العمل على منح أنقرة نفوذاً أوسع سياسياً في دمشق.
غير أن إسرائيل ترى أن استبدال محور دمشق–طهران بمحور دمشق–أنقرة لا يلغي جوهر التهديد، بل يخلق قوة جديدة ربما تكون أكثر صعوبة في الاحتواء من سابقتها، بحكم طبيعة الأيديولوجيا أو بحكم حقيقة الرغبة الكامنة وغير المعلنة للحكومة السورية الجديدة برئاسة الشرع، التي ترى أن العداء مع إسرائيل حتمي وأزلي، لكن في غير أوانه في ظل الدولة الوليدة. ولهذا تكثف إسرائيل ضرباتها لإضعاف مؤسسات الدولة السورية ومنع أي مشروع لإعادة بناء الجيش. وإذا فشلت هذه الاستراتيجية، لا تخفي إسرائيل استعدادها للذهاب نحو خيار التقسيم حتى، إذ إن سوريا المفككة والمجزأة أهون بالنسبة لها من سوريا موحدة تملك قراراً سيادياً مستقلاً.
في المقابل، تعتبر تركيا أن أي مشروع لتفكيك سوريا يشكل تهديداً مباشراً لحدودها الجنوبية ولمستقبلها الإقليمي. ولذلك فهي تدفع بكل ثقلها باتجاه تسوية سياسية تحفظ نفوذها وتمنع انهيار الدولة السورية بالكامل. هذا التضارب في المصالح يجعل من سوريا ساحة مواجهة غير مباشرة بين أنقرة وتل أبيب، تتخللها ضربات عسكرية ورسائل سياسية متبادلة، وتفتح الباب أمام تصعيد طويل الأمد.
إسرائيل تراهن على التفوق العسكري المطلق لضمان هيمنتها، لكن هذا النهج بالذات قد يقود إلى نتائج عكسية، حيث يمكن أن يدفع أطرافاً متضررة مثل تركيا وإيران وربما أطرافاً عربية إلى التنسيق فيما بينها لمواجهة هذا السلوك العدواني.
من منظور العلاقات الدولية
إذا نظرنا إلى هذا المشهد من زاوية النظريات السياسية في العلاقات الدولية، يمكننا أن نقرأ السلوك الإسرائيلي عبر ثلاث عدسات:
نظرية توازن القوى: حيث تحاول إسرائيل منع أي قوة إقليمية، سواء تركيا أو دولة عربية، من تحقيق تفوق داخل سوريا على حسابها.
نظرية الأمن الإقليمي: التي تفترض أن الدول في بيئة مضطربة تسعى دوماً لإضعاف جيرانها لضمان عدم تحولهم إلى تهديد في المستقبل.
المعضلة الأمنية: حيث إن كل خطوة إسرائيلية لتعزيز أمنها تُقرأ من تركيا ودول إقليمية أخرى كتهديد، والعكس صحيح، ما يدخل الجميع في دائرة لا نهائية من التصعيد والردع المتبادل.
ومع هذا المشهد الواضح لدور القوة العسكرية، تفرض النظرية الواقعية في العلاقات الدولية نفسها، وتثبت –وفقاً لعالم السياسة جون ميرشايمر– أن الدول القوية عسكرياً تفرض أسلوبها في الإقليم، ولا تكترث بالمنظمات أو مؤسسات النظام الدولي، ولا حتى بقواعد القانون الدولي.
نحو حرب كبرى وأحلاف جديدة؟
في ضوء هذا النمط من التفكير، يمكن القول إن إسرائيل ليست دولة يمكن صياغة سياسة طويلة الأمد معها. فهي تتحرك وفق المتغيرات السريعة، وتبني قراراتها على منطق الردع الفوري لا على تفاهمات ثابتة. هذا ما يجعلها لاعباً يصعب التنبؤ بخطواته، لكنه في الوقت نفسه لاعب قد يدفع المنطقة إلى حافة حرب كبرى إذا ما تراكمت التوترات وتشكلت أحلاف جديدة مضادة.
إسرائيل تراهن على التفوق العسكري المطلق لضمان هيمنتها، لكن هذا النهج بالذات قد يقود إلى نتائج عكسية، حيث يمكن أن يدفع أطرافاً متضررة مثل تركيا وإيران وربما أطرافاً عربية إلى التنسيق فيما بينها لمواجهة هذا السلوك العدواني. عندها، لن تكون إسرائيل أمام مجرد "ردع منفرد"، بل أمام جبهة أوسع قد تعيد رسم موازين القوى في الشرق الأوسط بشكل غير مسبوق.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه