الاقتصاد السوري في ٢٠٢٥.. لماذا يزداد الفقر بالأسواق رغم تراجع التضخم؟

مع انقضاء عام كامل على تولي إدارة “الشرع” مقاليد السلطة، يجد المواطن السوري نفسه عالقًا في دوامة من التساؤلات المشروعة حول جدوى السياسات الاقتصادية المتبعة، وعن المسافة الشاسعة التي تفصل بين الوعود النظرية والواقع المعيشي القاسي.
وبينما كان الشارع يترقب انفراجة ملموسة تُعيد ترميم قدرته الشرائية المتهالكة، جاءت رياح الأسواق بما لا تشتهي سفن المواطنين، لتُرسي واقعًا أكثر تعقيدًا تزداد فيه رقعة الفقر اتساعًا، وتحلق فيه الأسعار بعيدًا عن متناول الأغلبية، في مفارقة رقمية صارخة تتزامن مع بيانات رسمية تؤكد تراجع معدلات التضخم، ما يطرح إشكالية عميقة حول حقيقة المشهد الاقتصادي الذي يبدو فيه التحسن مقتصرًا على جداول البيانات، بينما يغيب تمامًا عن موائد السوريين وحياتهم اليومية.
أرقام تتراجع.. ومعيشة تتدهور
على الرغم من أن المؤشرات الرسمية الصادرة عن المؤسسات المالية الحكومية تُظهر تباطؤًا واضحًا في وتيرة التضخم خلال العام 2025، وهو ما قد يُقرأ نظريًا على أنه مؤشر تعافٍ أو بداية لاستقرار نسبي في بعض جوانب المشهد الاقتصادي الكلي، إلا أن الترجمة الفعلية لهذه الأرقام على أرض الواقع تسير في اتجاهٍ معاكس تمامًا.
ولم يواكب الانخفاض الرقمي في نسبة التضخم انخفاض في الأسعار، ولا تحسن في الدخل، بل استمر نزيف القدرة الشرائية، مما جعل تأثير هذا “التحسن الرقمي” معدومًا، بل ومستفزًا لمشاعر مواطن يصارع لتأمين قوت يومه.
ويجد الاقتصاد السوري نفسه اليوم، وبعد عام من الإدارة الجديدة، أمام حالة مركبة تتجاوز في تعقيداتها لغة الأرقام المجردة، ليغرق فيما يصفه الخبراء والمؤسسات الدولية بـ “الركود التضخمي”، وهي الحالة التي يُعرفها صندوق النقد الدولي بأنها المزيج الأخطر من النمو الاقتصادي البطيء أو المنعدم، وارتفاع معدلات البطالة، مترافقًا مع استمرار غلاء الأسعار، مما يضع صانعي السياسات أمام خيارات صعبة ومحدودة لاختيار أدوات فعالة للمعالجة.
التضخم يتراجع نظريًا.. والغلاء لا يتوقف!
بلغة الأرقام التي ساقها المصرف المركزي في أحدث إحصائياته، فقد تباطأ معدل التضخم في سوريا، مسجلًا نحو 36.8 بالمئة في الفترة الممتدة من آذار/ مارس 2024 إلى شباط/ فبراير 2025، وهو انخفاض كبير مقارنة بنسبة 120.6 بالمئة المسجلة في الفترة نفسها من العام السابق؛ ويُعزى هذا الانخفاض “نظرياً” إلى تحسن نسبي في سعر صرف الليرة وزيادة طفيفة في المعروض السلعي.
هذه المعطيات لم تكن كافية لكبح جماح تكاليف المعيشة التي واصلت صعودها، مدفوعة بتآكل القيمة الحقيقية للعملة وتدهور القوة الشرائية للأجور التي باتت لا تغطي سوى أيام معدودة من الشهر.
متوسط الأجور في سوريا منخفض جدًا ويواجه صعوبة في مواكبة تكاليف المعيشة المتزايدة، حيث تتراوح رواتب الموظفين الحكوميين بعد الزيادات الأخيرة بين حوالي 25 و 75 دولارًا شهريًا، وهو ما يعادل 750 ألف ليرة سورية كحد أدنى، في حين تحتاج الأسرة السورية في المتوسط إلى مبالغ أعلى بكثير لتغطية نفقاتها الأساسية، والتي تقدر بنحو 800 إلى 1200 دولار شهريًا، وهو ما يتراوح بين 12-15 مليون ليرة.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
أسواق دمشق تكشف الفجوة
من خلال نبض الشارع في أسواق العاصمة دمشق، يتكشف حجم الفجوة بين الإحصائيات والواقع، حيث يلاحظ الارتفاع المستمر في أسعار السلع الأساسية والحيوية، بدءًا من الخضار والفاكهة، وصولًا إلى البقوليات والمواد الغذائية المصنعة، بنسبة وسطية بلغت نحو 10 بالمئة، وهي زيادة ترهق كاهل الأسر السورية التي استنزفت مدخراتها خلال سنوات الأزمة الطويلة.
وفي قراءة تحليلية لهذا المشهد الضبابي، يرى المحلل الاقتصادي شادي سليمان أن التضخم بمفهومه العلمي هو الارتفاع في المستوى العام للأسعار، ويُقاس بمتوسط أسعار سلة من السلع والخدمات في اقتصاد ما، مشيرًا إلى أن هذا الارتفاع لا يكون بالضرورة متساويًا في جميع السلع، فحتى في أوقات التضخم الشديد، قد تبقى بعض الأسعار ثابتة نسبيًا لظروف معينة، بينما ينخفض بعضها الآخر، لكن المحصلة النهائية تظل ضاغطة على المستهلك، وفق تصريحه لصحيفة “الثورة”.
ويؤكد أن التضخم لا يزال يمثل التحدي الأبرز، أو “الغول” الذي يلتهم دخول المواطنين، لاسيما مع تأثيره المباشر وتشعبه في مختلف القطاعات الحيوية، الأمر الذي يفاقم من المعاناة اليومية ويجعل من مهمة تأمين الاحتياجات الأساسية معركة يومية شاقة، معتبرًا أن الحاجة إلى حزمة إصلاحات اقتصادية هيكلية وشاملة باتت ضرورة قصوى وليست ترفًا فكريًا، خاصة بعد مرور عام على الإدارة الحالية دون تغيير جذري في بنية الاقتصاد.
أسعار مرتفعة رغم تراجع الأرقام
يذهب التحليل الاقتصادي لسليمان إلى أبعد من مجرد التشكيك في الأرقام، حيث يعتبر الخبير الاقتصادي أنه رغم مؤشرات مصرف سوريا المركزي الإيجابية حول انخفاض نسب التضخم، إلا أن بقاء الأسعار عند مستوياتها المرتفعة، بل وزيادتها، هو أمر “غير مبرر” اقتصاديًا إذا ما قيس بالمعايير الطبيعية، لكنه يعكس واقعًا سوريًا شديد التعقيد تتداخل فيه العوامل الاقتصادية بالاجتماعية وحتى السياسية.
أرجع استمرار هذا الغلاء الفاحش رغم تراجع التضخم إلى مجموعة من العوامل الهيكلية المتجذرة التي لم تنجح السياسات الحالية في تفكيكها، وفي مقدمتها استمرار ضعف القيمة الحقيقية للعملة المحلية رغم استقرار سعر الصرف ظاهريًا.
المحلل الاقتصادي شادي سليمان
أبقى مصرف سوريا المركزي سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة في البنوك عند 11,000 ليرة للشراء و11,110 ليرات للبيع، وبلغ السعر الوسطي 11,055 ليرة للدولار الواحد، وفق نشرته الرسمية.
وفي السوق السوداء سجل سعر الدولار مقابل الليرة السورية 12025 ليرة للشراء، و12075 ليرة للبيع.
تدهور القوة الشرائية
عند تسلم الإدارة السورية في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، سعر الصرف كان متقلبًا بين عدة مستويات، فوفق نشرة مصرف سوريا المركزي، تم تعديل سعر الصرف الرسمي عدة مرات خلال الشهر ذاته، فارتفع إلى نحو 15,075 ليرة سورية مقابل الدولار الأميركي بتاريخ 17 كانون الأول/ديسمبر 2024، ثم عاد وانخفض إلى حوالي 13,567 ليرة بنهاية الشهر.
واعتمد المصرف المركزي رسميًا سعر صرف قدره 12,500 ليرة للدولار في أول نشرة منذ الإطاحة بالنظام القديم.
ويضيف سليمان أن تدهور القوة الشرائية يجعل أي سعر “مرتفعًا” بالنسبة لدخل المواطن، ورغم التحسن الجزئي في بعض المؤشرات، لا تزال الليرة تعاني من الوهن أمام العملات الأجنبية، ما يعني تلقائيًا زيادة تكلفة فاتورة الاستيراد، موضحًا أنه لأن الاقتصاد السوري لا يزال يعتمد بشكل كبير على الاستيراد لتأمين معظم السلع الاستهلاكية من الغذاء إلى الدواء ومستلزمات الإنتاج، فإن أي تكلفة إضافية يتحملها المستورد ستنتقل فوراً وبأضعاف مضاعفة إلى المستهلك النهائي.
كما يبرز عامل نقص الإنتاج المحلي كأحد الأسباب الجوهرية لهذه الأزمة، وهو الملف الذي كان يُنتظر من إدارة “الشرع” أن تضعه على رأس أولوياتها خلال عامها الأول؛ لافتًا إلى أن القطاعات الحيوية كالزراعة والصناعة التي تضررت بنيتها التحتية بشدة خلال سنوات الحرب، لم تتمكن حتى الآن من استعادة عافيتها أو العودة إلى مستويات الإنتاج السابقة التي كانت تحقق نوعًا من الاكتفاء الذاتي.
من اقتصاد الاستيراد إلى اقتصاد الإنتاج
يضيف سليمان إلى ذلك عامل خارجي لا يمكن إغفاله، يتمثل في التضخم العالمي الذي يضرب أسواق السلع الأساسية والطاقة، والذي ينعكس بدوره على الأسعار المحلية، حيث يتم استيراد التضخم مع كل شحنة بضائع تدخل البلاد، مما يجعل الحلول المحلية القاصرة غير قادرة على عزل السوق السورية عن التوترات الاقتصادية العالمية.
أمام هذا الواقع المسدود، طرح سليمان، جملة من الحلول والمقترحات للخروج من عنق الزجاجة، تتلخص في ضرورة التحول الجدي من اقتصاد الاستيراد إلى اقتصاد الإنتاج، وذلك عبر تعزيز الإنتاج المحلي والتركيز الاستراتيجي على قطاعي الزراعة والصناعة لتقليل فاتورة الواردات، وهو مسار يتطلب ضخ استثمارات حكومية وخاصة كبيرة في البنية التحتية المتهالكة، وشدد على ضرورة توفير بيئة تشريعية حاضنة للاستثمار.
كما تتضمن الحلول ضرورة العمل على تحسين قيمة الليرة بشكل حقيقي وليس وهميًا، عبر تعزيز استقرارها بدعم الصادرات ورفد الخزينة بالقطع الأجنبي، بالتوازي مع سياسات مالية ونقدية حكيمة تضبط الكتلة النقدية دون أن تخنق الأسواق.
ويشدد في ختام رؤيته على أهمية تفعيل دور الرقابة التموينية الصارمة والذكية على الأسعار، ليس لفرض تسعير جبري قد يؤدي لاختفاء السلع، بل لضبط الاحتكار والمضاربات التي تقتات على أزمات المواطنين.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه



