السينما التونسية قرن من الإبداع رغم الصعوبات.. حوار مع الناقد السينمائي التونسي ناصر صردي

في هذا الحوار المعمّق، تفتح الدكتورة سعاد زريبي نافذة نقدية على تاريخ السينما التونسية وتحولاتها الفكرية والجمالية، من خلال نقاش ثري مع الناقد السينمائي التونسي ناصر صردي، يستعرض مسار هذا الفن في علاقته بالسياسة والمجتمع والثقافة، ويكشف رهاناته الكبرى من التأسيس إلى الراهن، بين الإبداع والمقاومة والصعوبات الهيكلية.الناقد السينمائي التونسي ناصر صرديكيف بدأت السينما التونسية؟ ما هو تأليفك لبدايات السينما التونسية؟ناصر صردي: أولا يجب أن نفرق بين مصطلحين في السينما التونسية، هناك السينما في تونس والسينما التونسية. بدأت السينما في تونس مع بداية السينما نفسها مع الأخوين “لوميار” (1895 و1896) بعد أشهر من بداية العروض تحت الاستعمار الفرنسي والإنجليزي لبلدان الجنوب، إذ تزامنت الحركات الاستعمارية مع بداية عروض السينما، حيث أرسل الأخوان “لوميار” فرق تصوير في مصر وفي تونس وبعض البلدان العربية الأخرى، واتخذا من تونس مكانا للتصوير في الشوارع والساحات العامة. أما أول عروض فقد بدأت في 1897 مع “ألبير شمامة شيكلي” في أحد المقاهي في تونس العاصمة مثلما وقع في فرنسا.قلتَ هناك جدل بين السينما في تونس والسينما التونسية، كيف نفهم هذا التفريق بينهما؟السينما في تونس بدأت مع “ألبير شمامة شيكلي” بفيلم “زهرة” 1922 وفيلم “فتاة القيروان” 1924. في الحقيقة هناك جدل، وهو في الحقيقة جدل عقيم مرتبط بقراءتنا لتاريخ تونس بعد دولة الاستقلال، يفصل بين السينما في تونس والسينما التونسية.فقد كتب عمر الخليفي أول كتاب حول السينما التونسية بعنوان تاريخ السينما في تونس وليس تاريخ السينما التونسية، وذلك من أجل تجاوز الجدل بين تونس فترة الاستعمار وتونس بعد الاستعمار. ويعتبر عمر الخليفي أن السينما التونسية تبدأ مع عمر الخليفي نفسه، وإن كان هو أول من عرّف بـ”ألبير شمامة الشكلي”، ولكن يعتبر أن أول أفلام السينما التونسية هي أفلامه القصيرة التي ظهرت في 1960 و1961، ثم فيلمه الطويل “الفجر”.فتاة القيروان 1924لكن إلى حدود الاستقلال ليس لدينا في تونس الكثير من الأفلام، خمس أفلام تقريبا، من بينها “مجنون القيروان” و”عين الغزال”، وإن كانت المعلومات عنه منعدمة إن كان فيلما طويلا أم قصيرا، مقارنة بالسينما المصرية التي أنجزت عددا كبيرا من الأفلام ثم أصبحت بعد الحرب العالمية الثانية صناعة. فمن حيث الكم فالأفلام في تلك الفترة محدودة، خاصة الأفلام القصيرة التي كانت محدودة جدا، أما الأفلام الوثائقية فمنعدمة، وقد بدأت في الظهور في الستينات. وليس هناك سينما في تونس في هذه الفترة، لكن هناك أفلام، بمعنى لا وجود لصناعة سينمائية في تونس قبل الاستقلال.ما هي ملامح ظهور السينما التونسية إذن وما هي أهم ملامحها؟لم يبدأ الحراك السينمائي التونسي مع إنتاج الأفلام بل مع السينما عموما، بمعنى أن بداية السينما التونسية كانت مع النشاط السينمائي الجمعياتي، مع الجمعيات السينمائية، لأن أول هيكل سينمائي في تونس -إذا استثنينا مركز السينما في تونس سنة 1946- هو الجامعة التونسية لنوادي السينما.وقد بدأت نوادي السينما تنشط منذ 1946 بالتزامن مع نوادي السينما في فرنسا، وكان هناك معلمون ومدرسون فرنسيون في صفاقس بنادي “لوميير”، والذي نشط فيه عمر الخليفي. وبعد، لأسباب سياسية ووطنية وليست سينمائية، وقع الانفصال عن الجامعة الفرنسية في 1949 لتأسيس الجامعة التونسية لنوادي السينما، وأخذت تأشيرة النشاط سنة 1950. وهذا محدد للسينما التونسية، ليس محددا سينمائيا بل وطنيّا، لأن مؤسسي الجامعة التونسية لهم انتماءات يسارية تقدمية.الجامعة التونسية لنوادي السينماثم مع حصول البلاد على الاستقلال، من أول القرارات التي اتخذتها الدولة التونسية الحديثة، قبل كتابة الدستور نفسه وقبل مجلة الأحوال الشخصية، أطلق رئيس الجمهورية الحبيب بورقيبة شركة الاستغلال والتوزيع والاستثمار في السينما، وبنيت لأسباب سياسية وليست لأسباب سينمائية، لأن هذا الأخير كان يريد التحكم في صورته في البلاد التونسية الحديثة، ولكن أُنتجت بعض الأفلام التسجيلية وليست الوثائقية، وأُنتجت بعض الأفلام مثل فيلم “جحا” تمثيل عمر الشريف و”كلوديا كاردينال”.في الأثناء تكونت جمعية ثقافية كونها مصور فوتوغرافي له ارتباطات كبيرة بالحزب الدستوري، وهو عمار الخليفي، وحاول صناعة بعض الأفلام، والفيلم الشهير حينها “صفحة من تاريخنا”، وهو دستوري متشبع بالقراءة البورقيبية للحركة الوطنية، ويعتبر “صفحة من تاريخنا” قراءة بورقيبية للواقع والتاريخ التونسي. عرض في 1961 بمدرسة “لوكارنو” وكان له أثر كبير، حيث هناك من بين الحضور حسن بوزريبة، وكان لهذا الفيلم أثر في ولادة فكرة إمكانية صناعة فيلم في تونس بالأدوات التي يملكها التونسيون آنذاك.ثم تكون الهيكل الثاني، وهو الهيكل المؤثر في السينما التونسية، وهي الجامعة التونسية للسينمائيين الهواة سنة 1961، ثم أسسوا مهرجانا في 1964 وهو مهرجان قليبية، وهو مهرجان في تواصل تام إلى حدود اللحظة الراهنة. مهرجان قليبية هو أول مهرجان سينمائي في تونس وله أثر كبير في استقطاب السينمائيين التونسيين والتشجيع على إنتاج الأفلام، وقد تفاجأت هيئة المهرجان آنذاك بكم الأفلام التونسية التي وصلت إلى المهرجان، بمعنى بدأت السينما التونسية تؤسس لذاتها كما وكيفا.لعبت السياسة الثقافية دورا هاما في بناء الحراك الثقافي والسينمائي في تونس في تلك الفترة، كيف تفسر ذلك؟نعم، كانت هناك سياسة ثقافية رائدة في تلك الفترة، حيث تكونت وزارة الثقافة وعلى رأسها السيد شاذلي القليبي، وأراد أن يؤسس إدارة السينما، ثم نُصّب السيد الطاهر الشريعة، الذي كان ينتمي حينها إلى الجامعة التونسية للسينمائيين الهواة. وتعتبر هذه الفترة مميزة في تاريخ السينما التونسية، وتتميز هذه الفترة باختلاف التوجهات وتقاربها، فهناك توجه وطني متشبع بدافع بناء دولة الاستقلال، وهناك توجه يساري، وهناك توجه ثقافي أيضا، والسيد شاذلي القليبي كان رجلا منفتحا جدا ثقافيا. ثم تأسست في تلك الفترة مجلة السينما في 1960، ولها توجهات كبيرة لبناء السينما الوطنية.السيد شاذلي القليبيلعب الحبيب بورقيبة دورا هاما في توجهات السينما التونسية، أحب السينما ثم ذهب إلى التلفزيون، لكن بقي في تصوراته الوطنية يدعم السينما. كيف أثر حضور الرئيس التونسي آنذاك على المشهد السينمائي التونسي؟نعم، هناك سينمائيون كانوا منتمين للتوجه الوطني وللسياسة البورقيبية في بناء الدولة الوطنية بعد الاستقلال، مثل عمر الخليفي وحسن بوزريبة اللذين كانا منتمين إلى توجهات الحبيب بورقيبة، أي سياسة بناء الدولة الوطنية.اشترك فيالنشرة البريديةاشترك في النشرة البريدية وتابع أحدث أفلامنا الوثائقيةوفي 1965 أغلق بورقيبة مجال السينما، خاصة مع دخول التلفزيون، ليركز على صورته في التلفزيون، حيث الشعب كان موجودا كمستهلك لصور التلفزيون وكان يلقي خطاباته اليومية، فتوجه المعارضون إلى الجامعة التونسية للسينمائيين الهواة وجامعة نوادي السينما، حيث هناك نوع من الديمقراطية، والمعارضة كانت تقدمية يسارية من الطلبة.مهرجان أيام قرطاج السينمائية الذي تأسس سنة 1966وقد غيرت حرب بنزرت في 1961 بعض الأمور في السينما التونسية وموقف الحبيب بورقيبة من السينما. كانت شاشات تونسية تعرض في الخمسينات قبل عرض الفيلم، وهي نشرة إجبارية كانت تعرض في قاعات السينما قبل التلفزيون، وتعنى بتصوير الأحداث في تونس، لكن ليس هناك مخابر تحميض إلا في فرنسا، لكن مع الأزمة تحولت الوجهة إلى إيطاليا ووقع إشكال أيضا، فقرر بورقيبة ضرورة حل الإشكال، وذلك بضرورة القيام بالتحميض في تونس والتحكم في عمل صناعة الفيلم كاملة في تونس.اقترح شاذلي القليبي والطاهر الشريعة تأسيس مخابر “قمرت” وتأسيس أول مهرجان سينمائي محترف وهو أيام قرطاج السينمائية سنة 1966، لكن كان هناك إشكال وهو ضرورة إنتاج أفلام تونسية من أجل المهرجان. فاقترحت أيام قرطاج السينمائية طلب عروض من المخرجين التونسيين: حسن دلدول، عبد اللطيف بن عمار، نور الدين المشري، لطفي دلدول، لكن قدم عمار الخليفي فيلم “الفجر” وعُرض في 1967 وليس 66، أي في الدورة الثانية لأيام قرطاج السينمائية وليس الدورة الأولى، وينتمي الفيلم لتوجهاته السياسية البورقيبية.يبدو أن السينما التونسية استفادت من المناخ السياسي الوطني وتأثرت بالإيجاب وبالسلب في فترة الستينات من السياسة الثقافية والسياسة الوطنية، بدعم من شاذلي القليبي ومعارضة الحبيب بورقيبة، أفرز بعدا نضاليا داخل تيارات السينما التونسية.نعم، طبيعي جدا، هناك تواشج وتفاعل كبير بين السينما التونسية والواقع السياسي للبلاد، هي سينما اجتماعية سياسية. فالجامعة التونسية للسينمائيين الهواة، والسدباك، ومخابر قمرت، والوقائع التونسية، نشأت لأسباب سياسية وبقرارات سياسية، وبعضها وطني، إضافة إلى أن المعارضة مع بورقيبة وجدت في السينما مجالا واسعا لتحقيق أهدافها وممارسة نشاطها. كما أن حرب 67 وإغلاق الفضاء أمام المعارضة قد كوّنت جيلا جديدا متشبعا بقضايا المساواة والتحرر وحرية التعبير، فأصبحت للسينما التونسية ثلاث جامعات ذات أبعاد يسارية تقدمية، ثلاث جامعات تشتغل في هذا البعد التقدمي، خاصة مع توجه بورقيبة إلى الدكتاتورية وغلق الفضاءات.عربيا، ما هو موقع السينما التونسية في تلك الفترة، خاصة مع صعود مخرجين سينمائيين عرب في مصر والجزائر والمغرب تقريبا، تحمل نفس الهم الثقافي والحضاري، وهو تأسيس لتوجهات فكرية وطنية تعتز بانتمائها لأوطانها بعد فترة طويلة من الاستعمار الغربي؟ أين نجد السينما التونسية في خريطة السينما العربية آنذاك؟السينما هي مرآة الواقع، والمخرج السينمائي مرتبط بشعبه وبجغرافيته، خاصة في البلدان العربية. وفي تلك الفترة، الستينات تحديدا، كانت الأمور دقيقة جدا مع سياسات بناء الدولة الوطنية ومعارضة بورقيبة، لكن هناك حراك سياسي عربي لعب دورا كبيرا في التوجهات الفكرية للسينمائيين التونسيين والعرب أيضا. بالتحديد في 1967، النكسة أو حرب ستة أيام، التي خسرت فيها مصر وسوريا، جعلت من التحول في السياسة عند الشباب ضرورة فكرية، فتخلى جيل كبير من الشباب عن الناصرية وانزاح نحو الفكر اليساري، خاصة على مستوى الجامعة مع اتحاد الطلبة الذين انتموا إلى الجامعة التونسية للسينمائيين الهواة والجامعة التونسية للسينمائيين، ليصبح توجه سياسي واضح. فوقع إعادة التشكيل (La reforme) مع عبد الوهاب بودن، ورئيس الجامعة آنذاك كان ذا بعد نضالي أيضا، حيث ستغير أيام قرطاج السينمائية الوجهة حينها.فلئن انفتحت في الدورة الأولى على العالم أجمع، فإنها قد غيرت الوجهة نحو محيطها القريب العربي والأفريقي، فاكتشفوا سينما بديلة في أفريقيا جنوب الصحراء وفي مصر، حيث هناك صناعة سينمائية رائدة، واكتشفوا يوسف شاهين وصلاح أبو سيف، فأصبحت أيام قرطاج السينمائية موجهة للتعريف بالسينما الأفريقية والسينما العربية. ولعبت أيام قرطاج السينمائية دورا مهما في هذه التوجهات الفكرية والسينمائية العربية والأفريقية، بالتعريف بالأفلام العربية والأفريقية والتعبير التي تعبر عن قضايا الشعوب وحقها في تقرير مصيرها وبناء ذاتها.اتخذت السينما التونسية والعربية في الستينات بعدا وطنيا ديكولونياليا مناهضا للسياسات الاستعمارية غير المباشرة، وهذا واضح جدا في السينما الجزائرية وبدرجات في السينما التونسية والمصرية والمغربية. كيف يمكنك أن تفسر الخريطة السينمائية العربية في تلك الفترة في علاقتها بمفهوم التحرر؟ظهرت في مصر في تلك الفترة سينما بديلة، أي سينما مستقلة، مثل أفلام فريد الأطرش وفريد شوقي وكمال الطويل، وأفلام صلاح أبو سيف التي يفسر فيها هزيمة 67، وفيلم “المخدوعون” لتوفيق صالح، الذي يفسر خيانة الأنظمة العربية للقضية الفلسطينية، وأفلام يوسف شاهين، ثم سنكتشف عاطف الطيب وسعد مرزوق.الجزائر، من جهتها، حاولت بعد الاستقلال، ولكن بشكل مختلف قليلا، لتأكيد نفسها كشكل سينمائي مختلف نوعا ما. فبدأت السينما الجزائرية منذ أيام الثورة في الجبال، وكونت مخرجين في الجبال مثل “فوتيي” و”لخضر حمينة”، وأسسوا سينماتك لعبت دورا مهما، وأفلاما مهمة حول جميلة بوحيرد، وفيلم “حرب الجزائر” (La Bataille d’Alger)، في حين بقيت السينما المغربية تعاني بعض المشاكل.بدأت السينما الجزائرية منذ أيام الثورة في الجبال، وكان من أوائل أفلامها “معركة الجزائر”كما انفتح محبو السينما في تونس على فضاءات مجاورة أخرى كالسينما الموريتانية، فاكتشفوا أفلام محمد هندو، وكانت أفلامه تعرض في نوادي السينما في تونس. إضافة إلى أن علاقتها بأفريقيا هي علاقة أساسية، لأن مهرجان أيام قرطاج السينمائية يهتم منذ الدورة الثانية بسينما الجنوب، وتوجه نحو البعد الأفريقي، وأول جائزة، الجائزة الأولى، كانت من نصيب “سوداء ال..” لعثمان صمبيان. فلقد مثلت أيام قرطاج السينمائية بوابة السينما الأفريقية والتونسية والعربية.هذا الانفتاح على السينما الأفريقية والعربية المرتبط بالوحدة العربية والأفريقية ووحدة قضايا الاستقلال والحرية، لم يمنع المخرجين التونسيين في تلك الفترة من الانفتاح بشكل كبير على مكتسبات السينما الأوروبية، خاصة الموجة الجديدة الفرنسية والواقعية الإيطالية، خاصة في فيلم “وغدا” الذي أُنتج سنة 1971 لإبراهيم باباي، و”مختار” لصادق بن عايشة الذي أُنتج في 1968، و”خليفة لقرع” الذي أُنتج في 1967 لحمودة بن حليمة؟في الحقيقة، هناك جيل آخر مختلف عن التوجهات البورقيبية، ومختلف عن سينما عمار الخليفي. فقد اتجه بعض المخرجين في تلك الفترة نحو التعبير عن مشاغل الشعب. فاختار إبراهيم باباي وصادق بن عايشة وحمودة بن حليمة التوجه نحو سينما اجتماعية، ففيلم “مختار” وفيلم “خليفة لقرع” وفيلم “وغداً” هي أفلام ذات مرجعيات واقعية، واستلهمت الكثير من تقنيات وأفكار الواقعية الإيطالية والموجة الجديدة للسينما الفرنسية. فهم مخرجون درسوا في إيطاليا وفرنسا بالأساس.فيلم “وغدا” لإبراهيم باباي في 1971إضافة إلى ذلك، يتماشى هذا التوجه مع إمكانيات المخرجين التونسيين آنذاك وإمكانيات الدولة التونسية مقارنة بالسينما المصرية وسينما “هوليود”، إذ كانت الإمكانيات ضعيفة، لكنها سينما ذات قيمة ثقافية وفكرية كبيرة، أنجبت جيلا متميزا من المخرجين السينمائيين. ففيلم “تحت مطر الخريف” لأحمد الخشين من نادي السينمائيين الهواة بالقيروان، ورضا الباهي أيضا في فيلم “عتبات ممنوعة”، قد تشبع بالسينما في نادي السينمائيين الهواة. هي أفلام زمانها وتشبعت بواقعها، بل استبقت حتى مستقبل البلاد. ففيلم “وغدا” لإبراهيم باباي في 1971 ارتبط بمشكل التعاضد مع أحمد بن صالح، والذي انتهى في 1969.ثم جاء الهادي نويرة في سياسة الانفتاح على رأس المال الأجنبي وقانون 71 وقانون 74، فبدأت السينما تتأثر بالوضع الاجتماعي، رغم أن تأثيرات هذه القوانين لم تظهر بعد، إلا أن إبراهيم باباي قد استشرف المستقبل وسبق زمانه وعصره من خلال طرح إشكالية النزوح الريفي من مجتمع فلاحي إلى مجتمع شبه صناعي. ومن جهته طرح رضا الباهي في “عتبات ممنوعة” وفي “شمس الضباع” هذا المشكل الاجتماعي من خلال طرح إشكالية تأثير السياحة على الشباب التونسي ومشكل الكبت السياسي والجنسي، والذي مُنع عرضه في تونس، ومُنع رضا الباهي من تصوير فيلم “شمس الضباع” في تونس ومصر والمغرب.ويبدو أن المعارضة بدأت تشتد على السينما التونسية في تلك الفترة. وفي الأثناء، بدأت السينما التونسية تكتسب مناعة صحية مع النظام، وأصبحت تعبر عن رؤى ثقافية وطنية شعبية جماهيرية.في مهرجان قليبية والجامعة التونسية للسينمائيين الهواة، يشتغلون منذ 1980 و1981 على الأرضية الثقافية من أجل سينما وطنية ملتزمة بقضايا الجماهير وحق الشعوب في تقرير المصير. أصبح هذا الشعار سياسيا للسينما التونسية، وسيفضي هذا القرار إلى توجيه السينما التونسية، رغم عدم وجود إمكانيات ومدارس سينمائية، إذا استثنينا الجامعة التونسية للسينمائيين الهواة. ولكن وجود نوادي السينما كان كبيرا آنذاك، حيث يصل عددها إلى أكثر من 50 ناديا، فيها عشرات الآلاف من المنخرطين. في كل أسبوع تُعرض أفلام ويقع نقاشها، وطبقا للتوجهات السينمائية السياسية للجامعة التونسية لنوادي السينما والجامعة التونسية للسينمائيين الهواة والجمعية التونسية للسينمائيين، التي كانت ذات توجهات يسارية، فكانت النقاشات سياسية يسارية متجهة إلى الفكر الشيوعي الاشتراكي، ذات بعد سياسي واجتماعي للسينما، مرتبط بالأفكار وليس بالسينما في حد ذاتها.قلت إن رضا الباهي قد مُنع من تصوير فيلمه “شمس الضباع”، يعني أنه قد بدأ العداء مع السينما واضحا سياسيا؟فيلم عبد اللطيف بن عمار “رسائل من سجنان” مُنع أيضا لمدة طويلة، وهو فيلم يعبر، عكس عمار الخليفي المدافع عن التوجهات البورقيبية، إذ يعتبر عبد اللطيف بن عمار أن الذين حرروا تونس هم أفراد الشعب، وأن الشعب التونسي هو الطبقة العمالية، وهم بالأساس عمال المناجم. فمنع الفيلم وعُرض فقط في نوادي السينما.وهنا تظهر قوة النوادي، 50 ألف أو 60 ألف، والسينمائيين والهياكل السينمائية: الجامعة التونسية لنوادي السينما، والجامعة التونسية للسينمائيين الهواة، والجمعية التونسية للسينمائيين التونسيين، التي ستتصدى لهذه القرارات.وفي صراع مع وزارة الثقافة، تصل حدة الصراع في 1980 إلى مقاطعة أيام قرطاج السينمائية، لأنهم يطالبون بقوانين دعم السينما التونسية. فأسست مجلة في بداية الثمانينات تُعنى بدعم السينما التونسية، وأُخرجت أفلام مثل “السفراء”، من أول الأفلام العربية حول الهجرة، والعديد من الأفلام الأخرى مثل فيلم “عزيزة” لعبد اللطيف بن عمار.ولكن مع هذه القوانين سيخرج جيل جديد من السينمائيين له بعد اجتماعي وسياسي، ولكن له بعد مواطني فردي، لأن العالم تغير والسينما مرآة للواقع، بعد أن كان مفهوم “المجموعة” في الستينات والسبعينات هو المفهوم المركزي للسينما التونسية.ما هي أسباب هذا التغيير من فكرة المجموعة إلى فكرة الفرد، وما هي أبرز ملامحه وأهم مخرجي هذه المرحلة الجديدة؟مع بداية الثمانينات، اتجهت السينما التونسية نحو فكرة “الفرد”، وهو راجع بالأساس إلى بوادر العولمة واكتساح الثقافة الأمريكية، خاصة السينما الأمريكية، الفضاء البصري والسينمائي العالمي. حيث أصبح الفرد يناضل ضد المؤسسة من أجل حماية نفسه وحماية ممتلكاته وحماية الوطن.ونجد هذا التوجه نحو فكرة “الفرد” في أفلام محمود بن محمود “عبور”، وأفلام الناصر خمير في تساؤلات صوفية، ولكن لها بعد سياسي، خاصة في فيلم “الهائمون في الصحراء”، وأفلام الطيب الوحيشي حول التلوث في 1983، الذي مُنع من العرض، ثم في 1986 فيلم نوري بوزيد “ريح السد”، الذي له بعد سياسي واجتماعي، ويتمحور حول الصراع بين الفرد والسلطة، وفيه رمزية كبيرة في اغتصاب الأفراد من كل أشكال السلطة: سلطة أبوية، أو سلطة سياسية، أو سلطة أمنية. نوري بوزيد في 1982 و1986 قدّم نوعية أخرى من الأفلام.فترة الثمانينات يمكن أن نعتبرها فترة عطاء، من حيث العدد، حيث هناك عدد هام من الأفلام وصعود عديد من المخرجين السينمائيين، وكأنهم يؤسسون لسينما جديدة مختلفة عن سينما الستينات والسبعينات.هناك مراحل في السينما التونسية: من الاستقلال إلى 1967 ليس فيها الكثير من الأفلام، لكنها أفلام تدخل في بناء الدولة الوطنية. ثم بعد 1967 وحرب 1967 وغلق الفضاء من قبل بورقيبة، أصبحت السينما معارضة للنظام وللسياسات البورقيبية، التي ستدوم حتى آخر السبعينات.ثم مع الثمانينات تغير العالم وحضور الثقافة الأمريكية والتوجه نحو فكرة الفرد في اتجاه وطني، فتتغير السينما وتصل السينما إلى أوج عطائها، ليس من حيث العدد بل من حيث النوعية. أفلام ممتازة جدا مثل “ريح السد”، “صفايح من ذهب”، “بنات فاميليا”، وصولا إلى فيلم “صمت القصور” 1994، الذي أخذ بعدا عالميا ووزع في الولايات المتحدة الأمريكية وفي الكثير من البلدان. كذلك فيلم “الهائمون في الصحراء” للناصر خمير اكتسب بعدا جماليا وفكريا كبيرا وتساؤلات سابقة لزمانها. فيلم” تيرمينال” “(the terminal)” لـ”توم هانكس” يشبه كثيرا فيلم “عبور” لمحمود بن محمود 1981. هي فترة ازدهار، ليست بالعدد بل بالنوعية، والفني والسينمائي والجمالي كانت وجهة نظر المخرجين.فريد بوغديرهذه التوجهات الفكرية والسينمائية الكبرى وهذا الصراع الكبير الذي عاشته السينما التونسية تراجع بشكل كبير مع التسعينات.بعد 1994 لم نعد نجد أفلاما مؤثرة مثل المرحلة السابقة التي ذكرناها، عدا فيلم “السيدة” 1996 لمحمد الزرند. جيل جديد متأثر بالقديم ويريد سينما جماهيرية وليست سينما فكرية، لكنها بقيت محافظة على البعد السياسي والصراع مع السلطة، جلاني السعدي “خرمة”.نجحت مفيدة التلاتلي في فيلم “صمت القصور” في كسر الفضاء المحلي من أجل الوصول إلى العالمية، وهذا نجاح كبير للسينما التونسية. الفيلم له بعد نسوي متميز، ما هي جذور وملامح هذا البعد في السينما التونسية؟فيلم “موسم الرجال” وفيلم “عصفور السطح” لفريد بوغدير لهما هذا البعد النسوي، وهي أفلام مهمة ولها بعد اجتماعي وسياسي. يطرح فيلم “موسم الرجال” تساؤلات مهمة حول السلطة ووضع المرأة في المجتمع.ولكن هذا التوجه بدأه عبد اللطيف بن عمار في “حكاية بسيطة كهذه” سنة 1970، ثم فيلم “عزيزة” 1980، ثم فيلم سلمى بكار “فاطمة 75″، وهو فيلم يتمحور حول أول قضايا تحرر المرأة في تونس. وترجع سلمى بكار في الفيلم أن تحرير المرأة في تونس لا يعود بالأساس إلى بورقيبة فحسب، بل هناك مسار تحرر تاريخي للمرأة التونسية، لأن المرأة في تونس أول مدرسة 1990 خاصة بالنساء والفتيات، وبعد الاستقلال المدارس المختلطة في تونس والمساواة بين الرجل والمرأة. كذلك يمكن أن نجد في فيلم “مختار” وفيلم “وغدا”، وأيضا فيلم “تحت مطر الخريف” لأحمد الخشين، هذا البعد النسوي في السينما التونسية.فيلم سلمى بكار “فاطمة 75”ونجد هذا التوجه النسوي في السينما التونسية مع مخرجات سينمائيات من الجيل الجديد مثل سارة العبيدي، كوثر بن هنية، رجاء العماري. ففي مسابقة 2017 لأيام قرطاج السينمائية، في الفيلم الوثائقي، 7 من 10 أفلام وثائقية هي أفلام لمخرجات سينمائيات.الفرق بين الأفلام الروائية والأفلام الوثائقية من حيث العدد في ذاكرة السينما التونسية واضح جدا، ما هي أسباب هذا النقص في الأفلام الوثائقية؟لم يكن للسينما التونسية تقاليد كبيرة مع السينما الوثائقية، إذا استثنينا بعض التجارب السينمائية في الستينات والسبعينات مع حميدة بن عمار، وهشام الجربي، وبوعصيدة. ولكن كانت هناك أفلام موجهة إلى التلفزة التونسية، وهي أفلام وثائقية قصيرة، والتي بدأت مع السبعينات، لأن التلفزيون كان له ضرورة ملء كل البرمجة من أجل تغطية أكبر عدد ممكن من ساعات البث، والمادة كانت محدودة، فكانت تُعرض أفلام ليست ذات جودة عالية، كما أنها ليست على أهمية كبرى من حيث الموضوع، واقتصرت على عرض أفلام حول الحيوانات والطبيعة وغيرها من المواضيع المشابهة.الطيب الوحيشيومع نهاية التسعينات، جاءت أفلام محمود بن محمود مع “أفق القناة” 1999 (Canal Horizon)، وهشام بن عمار بفيلمه “ريس لبحار”، والطيب الوحيشي أيضا قدم بعض الأفلام الوثائقية حول مشكل التلوث في قابس، ومُنع من العرض في 1983. محمد الزرن له فيلم وثائقي حول جرجيس، ثم نشأ جيل جديد من السينمائيين لهم تجارب وثائقية متميزة: نجيب بلقاضي، عبد الله يحي، ورضا التليلي، ومحمد العوني، ومحمد دمق، وهند بوجمعة، وكوثر بن هنية، وأنيس لسود، وهم مخرجون لهم توجهات فنية مميزة. إذ لئن عبّر فيلم “صمت” لكريم السواكي عن ضرورة كسر الرقابة وطرح مشكل السيدا، فإن عبد الله يحي قد توجه في أفلامه “على هذه الأرض” و”نحن هنا” إلى سينما وثائقية شاعرية تعتمد على الاستعارة، فإن رضا التليلي، من جهة أخرى مختلفة، قد ركز على صناعة أفلام ذات بعد سياسي اجتماعي مباشر حول تأثيرات الثورة على المجتمع.وعلى الرغم من عدم وجود تقاليد كبيرة، استطاعت السينما التونسية منذ سنوات 2000 خلق تقاليد سينمائية وثائقية. وقد قمت بدراسة حول هذا الموضوع بالذات، وقمت بإحصائية وجمع الأفلام الوثائقية التي أُنتجت في السينما الوثائقية التونسية بين 2008 و2017، فوجدت ما يقارب 173 فيلما وثائقيا تونسيا، وهو عدد مهم جدا.لعبت نوادي السينما سابقا دورا مهما في تكوين جيل من السينمائيين التونسيين الذين أسسوا لتوجهات فكرية وسينمائية متميزة. كيف تساهم المدارس العمومية ومعاهد السينما في تونس اليوم في بناء تصور جديد للسينما التونسية؟ساهمت في دمقرطة السينما، حيث إن التكوين الأكاديمي لا يشترط اليوم الذهاب إلى فرنسا أو إيطاليا، مثلما هو الأمر سابقا. كما أنها انفتحت على كل الولايات، في حين كانت تقتصر في الماضي على تونس العاصمة والساحل التونسي والقيروان وبعض المدن الكبرى.لقد حرر التعليم الجامعي المركزية الثقافية، وانفتح على كل ولايات الجمهورية، وقد مكّن هذا الأمر من بناء سينما جديدة ذات مرجعيات مختلفة. فتغيرت الرؤى والصور لمخرجين شباب يشتغلون على بناء السينما التونسية الجديدة ذات مرجعيات مختلفة، مما مكننا من إنتاج عدد هام من الأفلام، الذي يمكننا اليوم من الحديث عن توجهات سينمائية في تونس من 2005 إلى الآن، وهذا مهم.السينما التونسية مرتبطة بشكل مباشر بواقعها السياسي والاجتماعي، فما هو حسب رأيك الدور الذي لعبته الثورة التونسية في تشكل السينما التونسية بعد هذا الحدث؟السينما، ككل القطاعات، تأثرت كثيرا بالثورة. لقد وفر هذا الحدث أفق حريات أعلى، ولكن تراجعت بسرعة مساحة الحرية. السينما، ككل القطاعات، تأثرت بالثورة وما بعدها، فبقيت بعض الطموحات الشعبية عالقة، وتراجع منسوب الحريات، وأصبح الشعب التونسي يعاني من تشتت مجتمعي، فاتجهت السينما إلى المشاكل الاجتماعية.كما أن السينما التونسية اليوم ليست في أحسن حالاتها، فهناك مشاكل كثيرة في هذا القطاع لم نجد لها حلا إلى حدود اللحظة. فالزخم في عدد المخرجين وعدد الأفلام يتطلب هيكلة جذرية للقطاع. يجب أن تكون هناك مجلة سينمائية تواكب واقع التونسي اليوم، وضرورة خلق شبكة توزيع، التي لا نمتلكها إطلاقا. كما يجب على التلفزيون أن يلعب دوره في صناعة الفيلم الوثائقي. إضافة إلى عدم وجود تنظيم واضح لمهنة السينما، تبرز ضرورة البحث عن حلول لرخص التصوير وبطاقات الاحتراف، لأنها ضوابط مهمة في الجانب الفني من أجل تنظيم المهنة، ولكن دون قتل الجانب الإبداعي، من أجل فتح الإبداع على الإمكانيات.نعم، تحصد السينما التونسية جوائز مهمة تقنية وفنية، وهناك أفلام تشارك في مهرجانات عالمية: البندقية، برلين، “كان”، والقاهرة. لذلك نشيد بالدور المهم الذي تقوم به السينما التونسية في اعتزازها بقضايا الشعب التونسي، وعدم تنصلها من مسؤوليتها التاريخية في التعبير عن الحريات، والاعتزاز بالبلاد ومن فيها، وبالانتماء الجذري إلى واقعها على امتداد تاريخها، وذلك بطرح التساؤلات المهمة في كل فترة. فالسينما فن جماهيري مؤهل لطرح التساؤلات الشعبية من أجل محاولة تغيير الواقع، لأن السينما لا تلعب فقط دورا اقتصاديا، بل لها القدرة على تحمل المسؤولية التاريخية والقيام بدور اجتماعي، توعوي، تربوي، وأخلاقي، جمالي وحضاري أيضا.وفي هذه النقائص لا تختلف السينما التونسية عن السينما العربية وعن سينما الجنوب، لأنها تبقى دائما تحت مكبلات الدعم وضعف الإمكانيات. ولكن رغم ذلك، هي سينما تحقق نجاحا باهرا في أكبر المهرجانات السينمائية.وهذا مهم جدا، ولكننا ما زلنا نشكو قضايا هيكلية عميقة في قطاع السينما، من مشاكل بطاقات الاحتراف، وعدم وجود هيكلة واضحة في القطاع، وضعف وانعدام الدعم، وإضراب التوزيع، خاصة في التظاهرات الثقافية. إضافة إلى عدم وجود سياسة ثقافية واضحة، وكثرة الأفلام في بعض الأحيان لا تدل على نجاح كبير في هذا القطاع، لأننا نشكو تزايدا في عدد الأفلام المتوسطة وأقل من المتوسطة في كثير من الأحيان. كل هذه المشاكل وغيرها تعطل المجال، وتجعل السياسات والهياكل الساهرة على القطاع مطالبة بإيجاد حلول جذرية لهذا القطاع. بمعنى أن هذه النجاحات التي تحققها بعض الأفلام التونسية هي كالشجرة التي لا يمكن أن تحجب عنا الغابة خلفها.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
اقرأ أيضاً




