معجم الدوحة التاريخي.. رحلة توثيقية في تطور ألفاظ العربية عبر عشرين قرنًا

في محطة علمية غير مسبوقة بتاريخ اللغة العربية، أعلنت دولة قطر اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، ليصبح أول معجم شامل يؤرّخ لألفاظ العربية وتطوّر دلالاتها عبر أكثر من عشرين قرنًا.

وشهدت الدوحة، اليوم الإثنين، حفل اكتمال المشروع برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتنظيم معجم الدوحة التاريخي للغة العربية بالتعاون مع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

ويأتي اكتمال المعجم تتويجًا لمسار علمي طويل امتد لسنوات، أُنجز خلاله أحد أكبر المشروعات اللغوية العربية في العصر الحديث، وأحد المعاجم التاريخية القليلة عالميًا التي اعتمدت منهجًا علميًّا دقيقًا في تتبّع تاريخ الألفاظ العربية، بدءًا من أقدم النصوص الموثّقة، وصولًا إلى الاستعمالات الحديثة والمعاصرة. ولم يسبق في تاريخ العرب والناطقين بالعربية أن توفّر معجم تاريخي بهذه الدرجة من الاكتمال والشمول.

ويمثّل معجم الدوحة التاريخي محطة مفصلية في مسار البحث اللغوي العربي، إذ يقدّم قراءة زمنية شاملة لحياة الكلمة العربية في سياقاتها المعرفية والحضارية، كاشفًا تحوّلاتها الدلالية والصرفية والاستعمالية على امتداد أكثر من عشرين قرنًا، ما يضع بين أيدي الباحثين والمهتمين أداة علمية غير مسبوقة لفهم تطوّر العربية ومساراتها التاريخية.

اكتمال المشروع لا كماله

لم يأتِ الإعلان عن اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية بوصفه إعلانًا عن عمل بلغ حدّ الكمال أو اكتمل على نحو نهائي، بقدر ما مثّل تثبيتًا لمرحلة مفصلية في مسار مشروع معرفي واسع، بطبيعته المفتوحة على المراجعة والتطوير والتحديث المستمر.

وفي هذا السياق، شدّد رئيس المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ورئيس المجلس العلمي لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية الدكتور عزمي بشارة في كلمته خلال حفل اكتمال معجم الدوحة على هذا الفارق الجوهري بين الاكتمال والكمال بالقول: "يحتاج المرء إلى وقت طويل من أجل شرح فضائل ومنافع هذا الصرح الحضاري؛ أعني معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. ونحن لا نعلنُ اليوم كمالَه، بل نعلنُ اكتمالَ مشروعِ تأليفِه فحسب، فهو يظلُّ ناقصًا مثل أعمال البشر كافة؛ ما يجعله بحاجة إلى تصويبٍ وتطويرٍ وتحديثٍ مستمر. ولن نَعدَم الهمم القادرة على تأدية هذه المهمة إن شاء الله."

وعلى هامش حفل اكتمال المشروع، أوضح المدير التنفيذي لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية، الدكتور عز الدين البوشيخي، في تصريحات صحفية، أن اعتماد مصطلح "اكتمال" جاء لوصف الانتهاء من تحرير جميع مواد حروف المعجم، واعتمادها ونشرها، بما يعني أن المشروع بلغ مراحله النهائية من حيث البناء التأسيسي، وأنجز هيكله العلمي والمنهجي الكامل.

وبيّن البوشيخي أن هذا الاكتمال يعني توثيق وتأريخ المداخل المعجمية الممتدة على مدى أكثر من عشرين قرنًا، وفق منهج موحّد يتتبّع الوحدة المعجمية منذ أقدم شاهد نصي موثّق لها، وصولًا إلى أحدث استعمالاتها، مع إبراز تحوّلاتها الدلالية والصرفية والاستعمالية عبر العصور، بالاعتماد على مدوّنة لغوية محوسبة ضخمة تُعدّ من الأكبر في تاريخ العربية.

وأكد أن اكتمال المشروع لا يُفهم بوصفه نهاية العمل، بل انتقالًا إلى مرحلة جديدة تقوم على التحيين المستمر، ورصد الاستعمالات الحديثة، وتعميق البحث المعجمي، ومراجعة المواد عند الحاجة، بما يجعل معجم الدوحة التاريخي للغة العربية مشروعًا حيًّا ومتجدّدًا، قادرًا على مواكبة تطور اللغة وتحولات استعمالها في الحاضر والمستقبل.

13 عاماً من البحث والتوثيق

يُعد معجم الدوحة التاريخي للغة العربية واحدًا من أكبر المشاريع اللغوية عربياً وعالمياً، وقد بُذل في سبيله جهدٌ علمي ممنهج امتد لأكثر من ثلاثة عشر عامًا، منذ انطلاقه رسميًا عام 2013، حتى إعلان اكتماله في 2025.

انطلق المشروع بالتعاون بين معجم الدوحة التاريخي للغة العربية والمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بهدف إنشاء معجم تاريخي شامل يوثّق ألفاظ العربية من أقدم استعمالاتها إلى يومنا هذا، وفق منهجية علمية محكمة تعتمد الشواهد النصية الموثّقة وتاريخ استعمال الكلمة عبر الزمن.

كان من أوائل الخطوات في المشروع بناء مدوّنة لغوية محوسبة شاملة تضم نصوصًا من التراث العربي المكتوب، تُستخدم كمصادر أساسية لاستخراج المواد المعجمية والشواهد التي تثبت تاريخ استعمال الألفاظ. وتُعد هذه المدوّنة أساسًا في صناعة المادة المعجمية، إذ توفر كمًّا واسعًا من النصوص التي تعكس تطور اللغة في بيئاتها المختلفة عبر التاريخ.

وعكف المشروع على تنظيم مؤتمرات دولية شارك فيها باحثون وأكاديميون من مختلف دول العالم العربي، مثل المؤتمر الدولي الثالث الذي نظمه المشروع للتفاعل مع الأبعاد العلمية والحضارية للعمل، وتبادل الخبرات في الحقول اللسانية والمعجمية.

وبعد اكتمال المشروع، أصبحت بوابة المعجم تضم رصيدًا لغويًا ضخمًا وغير مسبوق: يشمل أكثر من 300 ألف مدخل معجمي، ونحو 10 آلاف جذر لغوي، ومدوّنة نصية تتجاوز مليار كلمة، إلى جانب ببليوغرافيا تضم أكثر من 10 آلاف مصدر، مما يجعله من أوسع المعاجم التاريخية العربية من حيث التغطية الزمنية والمادة العلمية.

هذا الكمّ الهائل من المواد المعجمية والبيانات النصية يؤكّد الأبعاد العلمية والإجرائية للعمل الذي امتد لأكثر من عقد، وجعل من المعجم مرجعًا أساسيًا للباحثين في تاريخ اللغة العربية.

اللغة العربية تدخل عصر اللسانيات الحاسوبية

تكمن فرادة هذا المشروع في كونه أول عمل عربي يجمع بين المنهج التاريخي واللسانيات الحاسوبية، إذ لا يكتفي بتوثيق الكلمة وشرح معناها، بل يتتبّع حضورها في الزمان والمكان، ويكشف تحوّلات دلالتها بتغيّر السياقات الحضارية والمعرفية التي وُظِّفت فيها.

ويغدو كل مدخل معجمي في هذا العمل بمثابة خريطة زمنية دقيقة للكلمة، ترصد لحظة ظهورها الأولى، ومسار تداولها، وما طرأ عليها من تحوّلات حتى العصر الحديث، ليقدّم المعجم بذلك قراءة تاريخية للغة بوصفها وعاءً للفكر، إذ لا تنشأ المفاهيم خارج اللغة، بل تتشكّل داخلها وتتبدّل معها.

واعتمد المشروع على مدوّنة لغوية ضخمة جمعت مئات الملايين من الكلمات، بدءًا من النقوش الجاهلية، مرورًا بالنصوص التراثية، وصولًا إلى النصوص الرقمية المعاصرة، ما حوّلها إلى مختبر لغوي مفتوح يتيح تتبّع تطوّر المفردة ومعناها في سياقها التاريخي والثقافي. وباتت هذه المدوّنة تشكّل موردًا معرفيًا فريدًا يمكن الاستفادة منه في تطوير نماذج لغوية عربية متقدمة في مجال الذكاء الاصطناعي.

وفي كلمتها أمام الحفل، اعتبرت وزير التربية والتعليم والتعليم العالي في قطر لولوة الخاطر أن مشروع معجم الدوحة التاريخي للغة العربية لا ينبغي النظر إليه بوصفه مشروعا لغويا رائدا فحسب، بل باعتباره مشروعا معرفيا حضاريا متكاملا، يعكس فهما عميقا لدور اللغة في التاريخ وفي الحاضر، ويؤسس لقراءة علمية جديدة لمسار العربية وتطورها.

واعتبرت الخاطر أن هذه التجربة تبعث رسالة مفادها أن البحث العلمي الجاد، وتوفير الموارد والمساحات للحوار الفكري، ما زال ممكنا في المنطقة، رغم كل التحديات.

لا نهضة حضارية بلا معجم تاريخي

لا يُقاس المعجم التاريخي بوصفه إنجازًا لغويًا تقنيًا فحسب، بل باعتباره أحد أعمدة أي مشروع نهضوي يسعى إلى بناء وعي معرفي متماسك، وإعادة وصل اللغة بتاريخها ودورها في إنتاج الفكر وتطوّره.

وفي منشور على منصة إكس، أكد أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني هذا البعد الحضاري للمشروع، معتبرًا أن اكتماله يشكّل إضافة نوعية للمسار الثقافي العربي، إذ كتب :"نفتخر في قطر باكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، الذي يعزز بمادته الثرية تمسك شعوبنا بهويتها وانفتاحها على العصر ووسائله الحديثة بكل ثقة. وهذه مناسبة لشكر كل من أسهم في هذا المنجز الحضاري التاريخي الذي نعتبر اكتماله ومراحل إنجازه مظهراً من مظاهر التكامل العربي المثمر".

ويجد هذا التصور امتداده في ما عبّر عنه رئيس المجلس العلمي لمعجم الدوحة التاريخي، رمزي البعلبكي، في الفيلم القصير الذي أنتجه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات حول مسار المشروع، حين شدّد على أن المعجم التاريخي ليس ترفًا ثقافيًا، بل ضرورة حضارية، قائلًا: "ما من حضارة تسعى إلى نهضة لغوية، بل إلى نهضة فكرية عامة، إلا وأنجزت معجماً تاريخياً لتلك اللغة".

وتختصر هذه المقاربة جوهر المشروع، بوصفه أداة لقراءة التاريخ الفكري للأمة من خلال لغتها، وإعادة وصل الحاضر بجذوره المعرفية، على قاعدة علمية تتيح للغة أن تكون فاعلًا في مشروع النهضة، لا مجرد وعاءٍ للتعبير عنها.