توسيع "العصبة" وتهميش الأم.. لماذا أثار تعميم "العدل السورية" غضبا مجتمعيا؟
أثار التعميم رقم 17 الصادر عن وزارة العدل والقاضي بتوسيع دائرة الأولياء على نفس القاصر باستخراج جواز السفر مع استمرار استثناء الأم من هذا الحق استياء في الأوساط الحقوقية والاجتماعية، حيث شمل التعميم كل أقارب الأب وما يسمى بـ"العصبة" أي أقارب الرجل لأبيه.
ولاحقا صدر توضيح عن القاضي الشرعي الأول بدمشق المستشار "أحمد حمادة" بهدف ضبط نطاق تطبيق التعميم وحصره في إجراءات استصدار جواز السفر للقاصر، مؤكدا أن من حق الأم استخراج الجواز من إدارة الهجرة والجوازات دون الحصول على وصاية من القاضي الشرعي، إلا أن منح الأحقية للأم بهذا الإجراء لم يكن قادرا على امتصاص غضب الشارع، فهو لا يمنح ولاية قانونية مستقلة على القاصر، إذ أبقى على شرط الموافقة المشتركة للأب والأم على سفر القاصر وفق المادة 150 من قانون الأحوال الشخصية، مؤكدا ضرورة اللجوء لترتيب العصبات عند غياب الأب، والذي تقوم عليه الاعتراضات اليوم، من حيث عدم ملاءمته للواقع.
"القانون لا يهمش المرأة فقط بل يسطح مفهوم الرجولة"
الكاتبة السورية نور قزاز أوضحت لموقع تلفزيون سوريا أنه حين تصدر مثل هذه القرارات، تنهال الدفاعات عن حقوق المرأة بشكل "سطحي وهش"، مبينة أن السبب الحقيقي يتمثل في أن هذه القرارات تبقي على عقلية الرجل الشرقي، ما يكرس دائرة من التخلف المجتمعي.
واعتبرت أن منح الولاية لمجرد الذكورة، فإن ذلك يمثل إهانة للرجل، ويكرس لنظام يمنعه من التعلم، فالسلطة التي لا تكتسب بالوعي تتحول تلقائيا لكسل أخلاقي، والذكر الذي يمنح القرار سلفا، لا يتعلم الإصغاء ولا المحاسبة ولا السؤال عن الاستحقاق، وهكذا لا يهمش القانون المرأة فقط بل يسطح مفاهيم الرجولة، إذ يتحول الرجل من إنسان مطالب بالنضج والمسؤولية لموقع وظيفي وراثي، لافتة إلى أن النتيجة هنا لا تكون "حماية الأسرة" بل "إنتاج رجال لم يختبروا الشراكة، ونساء مطالبات بالنضج والاحتواء مع نزع أدوات القرار منهن"، وحين يختزل مفهوم الولاية في الجنس لا الكفاءة يصبح الفشل مؤسسيا، فالإنسان لا ينضج حين يسلم السلطة بل حين يُسأل عنها، وأخطر ما في الولاية المفروضة أنها لا تصنع رجالا بل تؤجل ولادتهم، فالمطلوب أن تستند مؤسسة الأسرة إلى التشاركية والعدالة بين الطرفين، وفقا لقزاز.
التعميم من وجهة نظر قانونية
الحقوقي المعتصم الكيلاني أوضح لموقع تلفزيون سوريا أن حصر الولاية على النفس بالأب ثم بسلسلة طويلة من الأقارب الذكور يقصي الأم إقصاء تاما عن هذه الولاية، ويمنع القاضي من تعيين وصي على نفس القاصر في حال وجود أي قريب ذكر مهما بعدت صلته بالأب، مؤكدا أن هذا التعميم مخالف لمبدأ المصلحة الفضلى للطفل والذي تنص عليه اتفاقيات حقوق الطفل، والمنضمة إليها سوريا، حيث إن إقصاء الأم عن الولاية لا يحقق مصلحة الطفل، ويعرضه لعدم استقرار نفسي وقانوني، ويضع قراراته المصيرية بيد أطراف قد لا تكون لهم علاقة فعلية برعايته اليومية..
ويضيف "الكيلاني" أن التعميم يتضمن تمييزا قائما على أساس الجنس، حيث يفترض المقنن نقص أهلية الأم القانونية لكونها امرأة، ويمنح الأفضلية لأقارب ذكور حتى لو لم يعرفوا الطفل، كما يمثل مخالفة لمبدأ عدم التمييز في القانون الدولي، فإقصاء الأم من الولاية على النفس يشكل تمييزا قائما على الجنس، ويتعارض مع المادة 2 من اتفاقية حقوق الطفل والمبادئ العامة التي أقرتها لجنة حقوق الطفل التابعة للأمم المتحدة بشأن المسؤولية الأبوية المشتركة، كما يعد تقويضا لمبدأ حماية الأسرة، حيث إن أي إجراء قانوني ينزع عن الأم ولايتها الطبيعية ويجعلها خاضعة قانونيا لأطراف أخرى أقل ارتباطا بالطفل، لا يحمي الأسرة بل يؤدي لتفكيكها ويضعف ثقة المواطنين بالمؤسسات.
ويشير "الكيلاني" إلى أن توضيح القاضي الشرعي بشأن التعميم لا يعالج التساؤلات الدستورية والحقوقية، خاصة بتقديم مصلحة الطفل والمساواة في المسؤولية الأبوية، ما يجعل النقاش حول التعميم مشروعا وقائما، لحين صدور نصوص واضحة وملزمة بمنأى عن التفسيرات القابلة للتأويل.
ويترتب على هذا التعميم، وفقا لكيلاني، آثار قانونية واجتماعية خطيرة، تتمثل في تعطيل مصالح القاصر عند غياب الولي الذكر أو عدم استجابته، وإخضاع الأم لإجراءات معقدة رغم مسؤولياتها الرعائية، وفتح الباب للنزاعات العائلية وترسيخ فرض سيطرة الأولياء على الأم، وتعريض الطفل لعدم استقرار قانوني طويل الأمد، إذ يحول التعميم الولاية لأداة تمييز لا حماية..
"القاصر" ضحية لقرارات الكبار
من جهتها تواصل موقع تلفزيون سوريا مع سيدة متضررة فضلت عدم ذكر اسمها، مشيرة إلى أنها اضطرت لترك أوروبا بسبب خلافات مع طليقها، ومن ثم انقطع التواصل بينها وبينه تماما، وانعكس ذلك سلبا على واقع الأطفال من الناحية النفسية، حيث شعروا فجأة بانعدام الاستقرار والأمان، وقررت الأم أن تصطحب ابنها للعمرة، طلبا للراحة النفسية، فرفض الأب منحها الإذن وكذلك العم ولم يقبل القاضي، وبقي الطفل محبوسا بين قرارات الكبار دون أي اعتبار لمصلحته ومشاعره.
وتضيف السيدة أنها على تماس بواقع كثير من السيدات المعيلات اللواتي ينفقن على أبنائهن دون أي مساعدة من أهالي الأب بعد فقدانه، ودون أن يقوموا بتحمل أي مسؤولية رعائية تجاه الأبناء، وهذا أمر واقع وأصبح منتشرا جدا خاصة بفعل آثار الحرب والتهجير.
الحضانة والولاية متلازمتان
أما منال السيد وهي مؤسسة مشاركة لـ"منتدى ولف" اعتبرت في حديث لموقع تلفزيون سوريا أن قوانين الأحوال الشخصية السورية بصيغتها الحالية تنظم العلاقات الأسرية وفق بنية قانونية استقرت منذ عقود، إلا أنها باتت تظهر عدم توازن واضح في توزيع الحقوق والسلطات داخل الأسرة لا سيما في مواضيع الولاية والحضانة، حيث تحمل النساء مسؤوليات الرعاية اليومية للأطفال دون أن يقابل ذلك تمكين قانوني متكافئ في اتخاذ القرار، مضيفة أن التنظيم القانوني القائم يفصل بين الحضانة بوصفها رعاية فعلية، والولاية بوصفها سلطة قانونية، حيث يسند الحضانة غالبا للأم ويحصر الولاية بالولي الذكر وفق ترتيب محدد، ويؤدي هذا الفصل في التطبيق العملي لاستبعاد الأم من المشاركة في القرارات الأساسية لأطفالها، حتى في حال كونها الطرف الأكثر التزاما ورعاية وتحملا للمسؤولية.
وتضيف "السيد" أن القانون رغم اشتراطه الأهلية والأمانة والكفاءة فيمن يتولى الولاية، لا يوفّر تنظيمًا واضحًا يربط ممارسة الولاية بالدور الفعلي في الرعاية أو الإعالة، ولا يضع آليات ملزمة تضمن إشراك الحاضنة في القرار، ما يخلق فجوة بين النص القانوني وواقع الأسرة، ويؤثر سلبًا على مصلحة القاصر واستقرار الأسرة.
وتدعو "السيد" للدفع باتجاه خطوات تنظيمية وتشريعية تضمن عدم إقصاء الأم الحاضنة من اتخاذ القرارات الأساسية المتعلقة بأطفالها، وتمكينها قانونيا من المشاركة الفعلية في شؤون التعليم والصحة والسفر والاستقرار اليومي، ومعالجة الخلل القائم بين تحمل النساء لمسؤوليات الرعاية اليومية وغياب الصلاحيات القانونية المكافئة عبر تنظيم واضح يربط ممارسة الولاية بمصلحة الطفل الفضلى، ويحد من استخدامها على نحو يضر بالأم أو يفاقم النزاعات الأسرية.
وترى أن هذه الإشكاليات لا ترتبط بجوهر الشريعة الإسلامية، التي جعلت الولاية مسؤولية لتحقيق المصلحة وحفظ الأسرة، وإنما ترتبط بكيفية تنظيم هذه المسؤولية في النصوص القانونية وتطبيقاتها الإدارية، مؤكدة على الحاجة لتطوير هذا التنظيم بما ينسجم مع المقاصد الشرعية وتغيّر الواقع الاجتماعي للأسرة السورية.
الانعكاس النفسي للتعميم على الأم والطفل
بدورها تحدثت المختصة النفسية راوية زين العابدين عن انعكاس هذه التعميمات والتشريعات موضحة أن موضوع استخراج جواز السفر هو رمز لمعاناة وجزء لا يتجزأ من كمية المعاملات التي لا يمكن للمرأة القيام بها لأطفالها في حال فقدان أو غياب الأب ما يضطرها للجوء لأقارب الأب، وكأن التعامل مع الأم كمجرد "حضانة" ومربية وقائمة على رعاية الأطفال دون منحها أي أحقية في قراراتهم.
واعتبرت زين العابدين أنّ هذا الأمر ينعكس سلبا على واقع النساء، فالمرأة اليوم تحتاج للتفكير قبل قرار الإنجاب في ظل هذه المنظومة التي تعمل على إقصائها، بالإضافة لوقوع النساء تحت عبء كبير في قرار الانفصال في ظل هذه القوانين، على الرغم من أن المرأة السورية عموما والأمهات خصوصا أثبتن كفاءة عالية في التعامل مع نواتج الحرب من نزوح وتهجير وفقدان للمعيل، علما بأن أروقة محاكم الأسرة تشهد على مئات آلاف الحالات من النزاع الأسري على النفقة والحضانة، بوجود آباء تخلوا عن مسؤولياتهم بشكل كامل تجاه أطفالهم عند وقوع الطلاق..
وتشير "زين العابدين" إلى الوضع النفسي الذي يقع فيه الطفل حين يضطر للتعامل مع رجال من أقاربه لا تربطهم به أي صلة فعلية على أرض الواقع، ما يشكل حالة من عدم الاستقرار النفسي، لافتة إلى أن المطلوب ليس منح الأم حق تسفير القاصر دون إذن والده أو العكس، كما اتخذت مناقشات التعميم على مواقع التواصل الاجتماعي، وإنما حماية حق الأم بالولاية على القاصر.
وتعالت المطالبات من متضررات من التعميم وحقوقيين وحقوقيات ومنظمات لإطلاق مسار مراجعة قانونية لقوانين الأحوال الشخصية من منظور العدالة الجندرية بشكل ينظر بعين الاعتبار للتغيرات الاجتماعية ودور النساء في الإعالة والرعاية ويحقق توازنا بين الحقوق والواجبات، واعتماد تنظيم قانوني يحمي النساء من التعسف الواقع عليهن باستخدام السلطة الأسرية التي ينص عليها القانون.
وفي ذات السياق أكد "منتدى ولف للنساء" بوصفه منصة معنية بقضايا النساء أن الإصلاح المطلوب في تنظيم الولاية والحضانة لا يتحقق عبر توسيع الصلاحيات التقديرية، وإنما يتم من خلال إصدار توضيحات قانونية ملزمة تنظم العلاقة بين الحضانة والولاية، وتضمن إشراك الأم الحاضنة في القرارات الأساسية المتعلقة بأطفالها، واعتماد تفسير تشريعي واضح يمنع استخدام الولاية بما يضر بمصلحة القاصر أو يؤدي إلى تعطيل شؤونه، وفتح مسار مراجعة قانونية منظمة لقوانين الأحوال الشخصية، بما يحقق توازنًا عادلًا بين المسؤولية والسلطة داخل الأسرة، ويحفظ استقرارها.
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه





